الفلسفة: الانعطافة الأرسطوية

Tuesday 21st of September 2021 11:01:55 PM ,
العدد : 5029 (نسخة الكترونية)
الصفحة : عام ,

جوليان باغيني

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

جوليان باغيني Julian Baggini (مولود عام 1968): فيلسوف وصحافي ومؤلف بريطاني ألّف ماينوف على العشرين كتاباً في الفلسفة موجّهة للقارئ العام،

وهو أحد مؤسسي مجلة الفلاسفة Philosophes’ Magazine ذات الشهرة العالمية. بالاضافة لمؤلفاته ومنشوراته البحثية العديدة في حقل الفلسفة فقدتناول باغيني أيضاً موضوعات متعددة مثل: العلمانية وطبيعة الهوية الوطنية.

أقدّمُ في هذا القسم – وقسم لاحق يتبعه – ترجمة لفصل منتخب من كتاب باغيني المعنون (الفلسفة: كلّ مايهمّنا عنها Philosophy: All That Matters) المنشور عام 2013. ربما من المفيد إعلام القارئ بأنني سبق أن نشرت قسمين مترجمين من مادة تخصّ هذا الكتاب في أعداد سابقة من (المدى).

المترجمة

القول بأنّ أرسطو كان فيلسوفاً هو تصريح ينطوي – تبعاً لمفردات اللغة الحديثة التي نستخدمها – على تقليل خطير من شأن فكر أرسطو ؛ فقد كتب الرجل في كل شيء: البيولوجيا، علم السياسة، الميتافيزيقا، البلاغة، نظرية الفن،،،،، إلخ. من المؤسف حقاً أنّ القليل حسب من أعماله المكتملة وصلتنا بعد أن استطاعت مقاومة مفاعيل الزمن ؛ لكنّ هذا القليل الذي وصلنا هو بكلّ تأكيد عظيم الأهمية من حيث فتنة الفكر التي ينطوي عليها. لو قرأتَ – ربما – العمل الاشهر بين أعمال أرسطو، الاخلاق النيقوماخية Nichomachean Ethics، فإنّ واحداً من الاشياء التي ستطرق عقلك بقوة وبشكل مباشر هو كون كلّ قسم من أقسام الكتاب يبدأ بمسحٍ survey للرؤى السابقة السائدة بشأن كل موضوع من الموضوعات المبحوثة. قد تبدو هذه المقاربة ليست أكثر من نمط أسلوبي ؛ لكنها في الحقيقة تؤشر خصيصة مميزة ومتفرّدة في تفكير أرسطو: هو – بخلاف أفلاطون – لايسعى لتأسيس مبادئ أولى آمنة وشاملة وقبْلية وتجريدية ومن ثم استخدامها في الحصول على حقائق جديدة بشأن العالم المادي ؛ بل يبدأ أرسطو في النظر إلى العالم المادي ومساءلته كما هو، وبالطريقة التي يظنّ الناس أنهم يعرفون بها العالم، ومن ثم يشرع في إقامة رؤيته الفلسفية. تدعى هذه المقاربة الفلسفية بعْدية a posteriori (تعني حرفياً " انطلاقاً ممّا يأتي بعدُ ") أو اختبارية أو تجريبية Empirical لأنها تتأسّسُ على التجربة والشواهد المختبرة في العالم الواقعي بدلاً من المبادئ الاولى للمنطق والرياضيات.

المساءلة البعدية لاتعِدُ بنوعٍ من الدقة واليقينية اللتين تنطوي عليهما المساءلة القبْلية ؛ لكنّ هذا الامر يحصل فقط لأنّ المساءلة البعْدية لاتعتقدُ بإمكانية وجود مثل هذه الدقة والوضوح في معظم الموضوعات المختبرة في العالم المادي. تكمن المعضلة في الفلسفة القبْلية في الثمن الذي يتوجّبُ عليها أن تدفعه لقاء ارتكانها على المبادئ التجريدية الشاملة. الفلسفة القبْلية لاتتأسّسُ على الواقع الفوضوي للعالم الواقعي ؛ لذا ينتهي بها المطاف بأن تخبرنا الكثير بشأن العلاقات المنطقية بين المفاهيم عوضاً عن إخبارنا بشأن الماهية الحقيقية للأشياء. لذا، على سبيل المثال، لدينا في الرياضيات كامل الوضوح واليقينية في القول بأنّ 2 + 2 = 4 ؛ لكنّ هذا لايخبرُنا بشيء عمّا يحصل حقاً عندما يوضع شيئان مع شيئين آخرين في العالم الواقعي. قد تتدمّر المجموعة الناتجة من الاشياء، أو قد تندمج الاشياء مع بعضها، أو قد تتكاثر،،،،،، إلخ. ليس مِن مبدأ يقوم على المنطق المحض يمكن أن يخبرك أياً من هذه النتائج هو الاكثر احتمالاً لأن يحصل من سواه.

هذان المزاجان الفلسفيان يمكن التمييز بينهما بدقة معقولة. يتّكئ أحدهما بقوة على حُججٍ arguments قبْلية ؛ في حين يتكئ الآخر على حُججٍ بعدية. يركّزُ واحد منهما على مبادئ تجريدية شاملة في حين يركّز الآخر على مبادي محدّدة خاصة من العالم الواقعي. يسعى أحدهما إلى الأسس الآمنة غير المتحوّلة للمعرفة في حين يقبل الآخر بأنّ مثل هذه الأسس هي – من المؤكّد تقريباً – عصية على البشر. يميل أحدهما لرؤية أي عنصر نقص أو عدم دقة مكتملة على أنه عنصر سيطيحُ بالنظام كله في حين يعضّد الآخر عناصر الغموض والفوضى إلى الحد الذي يجعل منهما عناصر مناسبة لمعرفة أي موضوع في العالم الواقعي.

لكن على الرغم من وجود تمايزات أساسية وواضحة بين هذين المزاجين الفلسفيين فثمة دوماً خطرٌ قائم يواجه الفلسفة يتمثّلُ في أننا عندما نصنّفُ المفكّرين في مدارس فلسفية مختلفة فإننا نُعلي من شأن الاختلافات بين هاتين المقاربتين الفلسفيتين. ليس ثمة أحدٌ من المفكّرين الفلاسفة العِظام يتطابق كلياً مع القالب النمطي الذي تصفه توصيفات تعريفية على شاكلة: فيلسوف " عقلاني " أو " تجريبي ". قد يكون أفلاطون طمح لبلوغ صرامة ويقينية المعرفة التي توفّرها الاشكال " الافلاطونية " ؛ لكنّ سقراط في محاوراته " السقراطية " لايبلغ أبداً مثل هذا الحافات النهائية من المعرفة، والنتيجة هي أنه لاينفكّ يذكّرنا دوماً بالحدود المفروضة على معرفتنا، ويشجّعنا في الوقت ذاته على العيش مع معتقدات تبقى أقلّ من معرفة يقينية. لطالما تمّ تصوير سقراط على أنه الرجل الاكثر حكمة في أثينا لأن الشيء الوحيد الذي عرفه بيقينية كاملة هو أنه لايعرف أي شيء بصورة مؤكدة باستثناء معرفته بعدم قدرته على بلوغ مرتبة المعرفة اليقينية بالاشياء.

ليس صحيحاً أيضاً القولُ بأنّ أرسطو رفض كلّ المناهج القبْلية. إنّ واحدة من أعظم مساهماته الفلسفية حقاً كانت في الارتقاء بالمنطق الذي يتأسّسُ على مبادئ تجريدية، والذي يخلو من أي محتوى يرتبط بوقائع مادية أو تجريبية. أراد أرسطو – ببساطة – تأكيد حقيقة أنّ " المنهج القبلي هو علامة تسِمُ كلّ عقل فلسفي مدرّب تدريباً رفيعاً في أن لايتوقّع أبداً دقة عند التعامل مع أي موضوع بأكثر ممّا تسمح به طبيعة ذلك الموضوع ". ماكان أفلاطون إلا ليوافق – ومن عساه يستطيع أن لايوافق؟ الفرق بين أفلاطون وأرسطو (وكذلك المفكّرين الذين أعقبوهما) يكمن في الأهمية النسبية التي يقرنها كل مفكّر فيهم مع منهج المساءلة القبلية أو البعدية: يميلُ المفكّر العقلاني الافلاطوني أكثر من سواه نحو السعي وراء اليقينية والدقة الرياضياتية ؛ في حين يتوقّع المفكّر التجريبي الأرسطوي الكثير من الغموض واللايقينية والمناطق الرمادية من المعرفة. لايعني هذا الامر بأي شكل من الاشكال أنّ المفكّر التجريبي يمتلك رؤية غامضة أو غير دقيقة تجاه الرياضيات، مثلما لايعني هذا الامر أنّ المفكّر العقلاني يؤكّدُ دوماً أنّ كل فرق بين المنهجيْن الأفلاطوني والأرسطوي يجب أن يكون فرقاً واضحاً، وأنّ كل المبادئ العامة عديمة الفائدة.

الحقيقة والمعرفة

على الرغم من أنّ معظم المقرّرات المنهجية سيطيبُ لها التجوال الفكري بأريحية مفعمة عبر تناول النظريات الفلسفية الخاصة بالحقيقة والمعرفة والتي هيمنت على كامل تأريخ الفلسفة فإنني أرى من جانبي أنّ المقاربتين العامتين (أو لنقل المزاجين الفلسفيين) اللتين قدّمتهما فيما سبق أراهما أكثر قيمة أساسية من النظريات الخاصة. دعونا نتناول موضوعة المعرفة: يجب منذ البدء أن يكون واضحاً أنك عندما تتوغّل في مبحث المعرفة ستقابلُ أصنافاً مختلفة من النظريات، والأمر كله يعتمد في نهاية المطاف هل تعتمد مقاربة أفلاطونية أم أرسطوية في مبحثك الفلسفي. تحثّنا المقاربة الأفلاطونية على التمييز الصارم بين المعرفة والاعتقاد على أساس أنّ معرفة شيء ما ليست بالأمر الذي يكفي ليكون ذلك الشيء حقيقياً ؛ إذ يجب في نهاية الامر أن نتحصّل على ضمانة guarantee بأن يكون ذلك الشيء حقيقياً. الاعتقاد، وعلى العكس من المعرفة، يفتقد الإثبات أو التسويغ الكافي. يحثنا هذا الفارق بين الحقيقة والمعرفة على توصيف الكيفية التي يمكن بها تعريف المعرفة. الدافع الأفلاطوني سيكون مطلوباً لبلوغ تعريف واضح من شأنه تمكيننا من التفريق بدقة مقبولة بين المعرفة من جهة والرأي أو الاعتقاد من جهة أخرى.

لكن على كل حال تبدو الأشياء مختلفة عن بعضها تماماً تبعاً للمنظور الأرسطوي. الفارق بين المعرفة والاعتقاد هو على الأغلب مسألة فرق في تمايز النسبي وليس فرقاً مطلقاً: كلّما استطعنا إقامة معتقداتنا على أسس صلبة سيكون من المسوّغ أكثر الاشارة إلى هذه المعتقدات باعتبارها حاوية على معرفة ؛ لكن ليس ثمة من معتقد مؤكّد لنا بما يكفي لكي ندّعي إحتواءه على 100% من المعرفة، ويعود الأمر وراء ذلك – جزئياً – إلى عدم وجود أساس من الشواهد القوية في العالم تكفي لإسناد ودعم كلّ معتقداتنا. هكذا تعمل المقاربة الأرسطوية: بدلاً من تبديد الجهود في محاولات عبثية لبلوغ أسس قوية تسند معتقداتنا يكون من الأجدى والأفضل التركيز على كيفية جعل معتقداتنا تدعم بعضها وتتناغم مع المعطيات التي يقدّمها العالم المادي. هذه المقاربة يمكن وصفها بالمقاربة الكلية Holistic ؛ فهي تسعى لتحقيق التماسك والتناغم والتناسق بين معتقداتنا بكيفية أعظم بكثير مما قد يفعله أساس قوي واحد منفرد. توسّعُ هذه المقاربة من نطاق تعريفنا للمعرفة ذاتها – الأمر الذي قد لايكون دقيقاً. (سنشهد في الفصل التالي كيف يدفع البعض هذه المقاربة بعيداً ومن ثم يدّعون أنّ المسعى سيكون عديم القيمة إذا ماحاولنا بلوغ تعريف واضح للمعرفة).

يوجد انشقاق واضح أيضاً يكشف عن حاله بطريقة لاتخفى بين المقاربتين الأفلاطونية والأرسطوية تجاه الحقيقة. يريد المزاج الأفلاطوني إقامة " الحقيقة " باعتبارها أمراً واضحاً، مؤكّداً، وقابلاً للمعرفة ، ويسعى هذا المزاج بخاصة نحو الحقائق المستقلة عن الزمان والمكان: حقائق المنطق والرياضيات التي تبقى صحيحة إلى الابد. البديل الأرسطوي يرى أنّ بعض الاشياء حقيقية أكثر من غيرها ؛ لكن ليس سوى بضعة أشياء، أو ربما لاشيء أبداً، يحوز مرتبة أن يكون حقيقة أبدية خالدة وغير متغيّرة. الأشياء المرشّحة أفضل من سواها لكي تكون حقائق أبدية خالدة وغير متغيرة تبعاً للمقاربة الأرسطوية هي أشياء مماثلة لمكانة حقائق الرياضيات والمنطق في المقاربة الأفلاطونية، وسيكون لها ديمومة في مقابل ثمن يتمثّل في كونها غير قادرة على أن تخبرنا بشيء مباشر عن العالم الذي نعيش فيه.

مادة توضيحية إضافية

تقليدان فلسفيان

النمط الأفلاطوني في المساءلة لطالما ساد في تأريخ الفلسفة، وقد لوحظت سيادة هذا النمط الفلسفي في القرن السابع عشر وبخاصة في عصر عقلانية ديكارت ولايبنتز وسبينوزا ؛ لكنه ساد أيضاً في القرن العشرين وبخاصة مع تنامي النزعة المنطقية Logicism لبرتراند راسل الذي سعى لإقامة المنطق على أسس رياضياتية صارمة. وجدت المقاربة الأرسطوية صدى لها عبر القرون وبخاصة في القرن الثامن عشر حيث سادت التجريبية البريطانية التي قاد لواءها كل من جون لوك، الأسقف بيركلي، وديفيد هيوم، إلى جانب النزعة البراغماتية Pragmatism التي تسيّدت الفلسفة الأمريكية في القرن التاسع عشر، وكان فرسانها جون ديوي، تشارلس ساندرس بيرس ، وويليام جيمس.