باليت المدى: حجارة صغيرة تخدش الجمال

Sunday 21st of November 2021 11:58:38 PM ,
العدد : 5069
الصفحة : الأعمدة , ستار كاووش

 ستار كاووش

سألني أحد الأصدقاء عن السبب الذي أدى الى حصول (لوثة عقلية) أو (جنون) عند الرسام فنسنت فان خوخ، وكأنه من خلال طريقة طرح السؤال بدا متيقناً بأن هذا الرسام كان مجنوناً حقاً!! فنسنت لم يكن مجنوناً ياصديقي ولم يُصَبْ بأية لوثة كما يدعي بعض مروجي الحكايات والقصص التي لا تنتهي حول حياة الفنانين. كان بعض المحيطين به يقولون عنه ذلك لكنه ليس كما وصفوه. فمن يصنع الجمال بطريقة فان خوخ لا يمكن أن يكون سوى شخصية موهوبة، نبيهة وتحمل الكثير من النبوغ والحساسية. أنا شخصياً يمكن أن أتهمُ بالجنون أي شخص يتساءل بطريقة ساذجة حول أصحاب المواهب العظيمة والعقول النيرة.

مَنْ هو المجنون؟ فنسنت فان خوخ أم الناس الذين لم يفهموه؟ من هو عديم العقل والبصيرة؟ هل هو العبقري الذي سبقَ عصره وتعدى فنه كل الحدود؟ أم الناس المحيطين به وقتها، والذين لم يستوعبوا عبقرية فنه وعلو روحه؟ لقد نظر الجميع بإمتعاض الى الرسام المختلف والمعذب والبائس والمعوز، ولم ينتبهوا الى ضحالة وعتمة نفوسهم غير المتسامحة، أغلقوا عيونهم أمام نور وفتنة أبداعه العظيم، وفتحوا أفواههم على سعتها وهم يكيلون له أبشع التسميات والألفاظ، إستنكروا -بتعالٍ فارغ- حذاءه الممزق، ولم ينتبهوا لخطوات إبداعه في الرسم وهو ينقل الانطباعية نحو التعبيرية، نظروا الى فقر جيوبه، ولم يتأملوا غنى لوحاته، إستاءوا من هيئته الغريبة وشعره الأحمر وأصابعه الملطخة بالأصباغ، لكنهم لم يعيروا إهتماماً للكنوز الملونة التي كانت تخرج من بين ذات الأصابع. فمن هو المجنون إذن في هذه الحالة ومن هو المصاب بلوثة في عقلة وروحه؟

لكن إزدراء الجمال لم ينته مع الأسف، حتى بعد مرور سنوات طويلة على ذلك، وفي الكثير من الحالات حَجَبَتْ اللامبالاة لمعان المواهب المتفردة، لتستمر محاولات الإطاحة بكل ماهو مضيء ومختلف من قِبَلِ النفوس الميتة، بينما يحتاج تقدير الجمال عادة الى أنفس راضية مطمئنة لا تحمل العُقَد، أنفس صافية ومتسامحة وخالية من الضغينة. ومهما ناضل المبدعون لإعلاء قيم الجمال، ستبقى هناك أعشاب ضارة في كل حديقة مورقة مع الأسف، أعشاب بهيئة أشخاص مصابين بالحمق واللوثة في عقولهم، وهم متعددي الوجوه والهيئات والاشكال والمرجعيات، وأتعسهم هؤلاء الذين ينبثقون فجأة في كل زمان ومكان، ويطلقون أحكامهم (الذهبية) وسط تصفيق حمقى مثلهم. ووقتنا الحالي مليء بهؤلاء الذين دهنوا وجوههم بطبقات مختلفة من الصباغة حتى تحولت ملامحهم الى عدة وجوه، يستعملون كل واحد منها حسب الضرورة.

هناك الكثير من الأشخاص يؤرقهم -لسبب أو دون سبب- وجود أشياء جميلة في هذا العالم، رغم ان هذه الأشياء الجميلة لا تضرهم في شيء بطبيعة الحال، مع ذلك يترصدون كل مصباح ويقذفونه بحجاراتهم الصغيرة التي تخدش الجمال وتعكر صفوه، وربما من الأسلم لنا أن نجمع حجاراتهم التي يرمونها نحونا ونبني منها سياجاً يفصلنا عنهم، أو نغلق الأبواب التي يدخلون إلينا من خلالها، أو نبتكر أبواباً تشبه أبواب بيوت الفلاحين في هولندا، والتي تكون مجزأة الى نصفين، نصف علوي وآخر سفلي، حيث يستطيعون فتح النصف العلوي فقط من الباب للتهوية أو لساعي البريد أو للرد على أي سؤال عابر، كما يمكنهم فتح الباب كاملاً للضيوف والأصدقاء. ربما يحتاج كل واحد منا مثل هذا الباب الهولندي للضرورة، كي لا يخطوا الغرباء بسهولة نحو عوالمنا التي نحبها.

في كل الأحوال، يبقى الانسان السوي بشكل عام كائن جميل جداً، وإنعدام التقدير لهذا الانسان يعني عدم التقدير للجمال. وإفتقار اللياقة في التعامل يشير الى فقر في الروح والذائقة. ومثلما رأيتُ الكثير من الناس المهذبين، فأنا مثلكم رأيتُ الكثير من المجانين وفاقدي اللياقة أيضاً، ممن يعيشون وسط الثقافة أو على هامشها كالطفيليات، مثل ذلك الشخص الذي إنبرى لي في إحدى الأمسيات التي قدمت فيها محاضرة عن أعمالي، حيث إعترضَ بطريقة فظة على كل شيء في لوحاتي وسط إيماءات عينيه الظافرة التي وزعها على الحاضرين. وما قامَ به كنتُ سأعتبره حقاً طبيعياً له، لولا أنه إقترب مني خلسة في المقهى التابع لذات المكان، بعد إنتهاء الأمسية مباشرة، وقال لي هامساً بعيداً عن أعين الحاضرين (أعمالك مدهشة، وأتمنى أن توقع لي على الكتاب الذي فيه لوحاتك).