باليت المدى: الرسام الساحر

Sunday 28th of November 2021 10:42:14 PM ,
العدد : 5074
الصفحة : الأعمدة , ستار كاووش

 ستار كاووش

لتسليط الضوء على العلاقة الجمالية بين الرسامين وإظهار عناصر الإلهام التي يمنحونها لبعضهم، إحتوت مجلة أتيليه الهولندية التي تصدر منذ ستة وسبعين سنة وتعنى بالفن التشكيلي، باباً إسمه (أُنظر جيداً)

حيث تختار في كل عدد فناناً يكتبُ عن فنان آخر يراه مثالاً لجمال الرسم، ويشير الى مناطق الابداع والتأثير في فنه، ويتحدث إن كان قد أثَّرَ عليه بطريقة ما أو في فترة معينة من حياته الفنية؟ وفي العدد الأخير من المجلة إختاروني لكتابة مقال في هذا الباب -إضافة للعمود الثابت الذي أكتبه للمجلة- فلم أتردد لحظة في إختيار الفنان الساحر غوستاف كليمت والكتابة عنه. وعند الكتابة أخذت أتسأءل: كيف يمكننا النظر الى الرسم بشكل مناسب؟ ولماذا تكون بعض الأعمال الفنية مثار إعجابنا؟ ولماذا يصاحبنا جمال بعض اللوحات مدى الحياة، ويلتصق بحياتنا الى الأبد؟ أعمال تسحبنا نحوها بقوة ونتفاعل معها، بل نشعر وكأننا نعيش بداخلها بعض الوقت ونقيم حواراً جمالياً معها. وهذه التساؤلات وغيرها لم تنبثق في ذهني أثناء كتابة الموضوع فقط، بل هي تتراءى لي في كل مرة أشاهد لوحات كليمت.

وبمناسبة الحديث عن كليمت، أستحضر الآن ذلك الكتاب الذي إشتريته في بداية دراستي في أكاديمية الفنون، والذي حملَ لوحات هذا الرسام، وكيف كانت الزخارف العجيبة تحيط بنساء غافيات بين صفحاته، نساء يتراقصن بسيقانهن الطويلة وشعورهن المتطايرة وهن يتنقلن بين طيات ذلك الكتاب المدهش البعيد. بعدها صرتُ كلما أرى واحدة من لوحاته أقول لنفسي (ماذا عليَّ أن أفعل كي أرسم شيئاً قريباً من هذا السحر؟). ورغم أني قد بدأتُ الرسم بـإسلوب تعبيري وبعجائن سميكة من الألوان، لكني كنتُ أتطلع دائماً للوحات كليمت، وبقي بالنسبة لي، هو الرسام الحقيقي الذي يمسك الفرشاة، ثم يغمسها في اللون، ليضعها على قماشة الرسم دون حذلقات وادعاءات وتهويمات تبعدهُ عن الروح الحقيقية للفن الذي أحبه. بعد سنوات طويلة من الرسم قد أصبح لديَّ أسلوبي الشخصي ومعالجاتي الفردية، لكن يبقى كليمت هو ذلك الفنان الذي أمسك الفانوس وسارَ أمامي كي يضيء لي طريق الرسم.

تمتليء لوحات كليمت بعاطفة ومسرات عديدة يخلقها اللون والمعالجات الأخّاذة والتكوينات الفريدة، إضافة للمزيج النادر وغير المتوقع من أشياء وتفاصيل تبدو متباعدة كل البعد، لكنها تجد التناغم بين يديه، وهكذا مزج في لوحاته بين الترفع والخشوع، التزهد والفجور، الرغبة والرفعة، الارستقراطية والبوهيمية، الشرق والغرب، وبطريقة تشعرنا بأنه يتعبد وسط الجمال، حيث جواهر الضوء تلتمع هنا وتتوهج هناك. انها ليست لوحات، بل لقى نفيسة وكنوز تستقر على قماشات الرسم، صنعتها أصابع مرهفة ماهرة، وروح زاخرة بكل ما هو صافي ونبيل.

كل شيء يمسكه كليمت يغدو حرزاً جمالياً وقطعة فنية نفيسة، وكل سطح يمرر عليه فرشاته يصير جزءً من حكاياته الملونة التي تأتي من مكان سري وبعيد وغامض، هذه الحكايات التي يقدمها بتقنية متقدمة وفريدة وشخصية، بعد أن يمتزج هو ذاته مع اللون ويصبحان شيئاً واحداً يقترب من التصوف أو التحليق في عوالم خيالية فيها الكثير من الطمأنينة والتناغم الروحي.

في لوحته التي رسم فيها (بورتريت البارونة إليزابيث باخوفن إخت) التي إخترتها مثالاً لأعماله، تطالعنا البارونة الجميلة وهي تقف وسط اللوحة وتثير إعجاب كل من يراها، لكن البارونة الحقيقية برأيي هي اللوحة ذاتها، بكل هذا الجمال وهذا التأثير المدهش للسطح التصويري. ومن المؤكد ان سعادة هذه المرأة كانت كبيرة وهي تقف نموذجاً للفنان، وقد ربحتْ كثيراً بعد أن أدخلها تاريخ الجمال والرسم، لكن مع ذلك أعتقد بأني كفنان ومتذوق كنتُ الرابح الأكبر، لأنني ولسنوات طويلة استمتعت كثيراً، بل كثير جداً بهذه الأيقونة الخالدة.

والآن، ما الذي يعطي لهذه اللوحة مكانة خاصة عندي؟ بالتأكيد ليس جمال المرأة فحسب، بل الرؤية التي يتمتع بها الفنان وجمال أسلوب الرسم، وكيف ينظر إلى الشكل والتكوين ويجد الحلول التشكيلية لأفكاره الخاصة. وحين نتمعن باللوحة جيداً، سنرى كيف عكس كليمت الأدوار المنطقية في توزيع مفردات الرسم، بعد أن وضعَ كل الألوان والتفاصيل والزخارف وتأثيرات الرسم على الزجاج المعشق بالرصاص وحتى الأشكال اليابانية… وضعها كلها في الخلفية وعلى الأرضية فقط، بينما رسمَ شكل المرأة كاملاً باللون الأبيض تقريباً، حيث تقف هادئة يلفها فستانها الموشح بتفاصيل الدانتيل الأنيقة والحسية والشفافة. تعلمت من هذه اللوحة كيف أن لكل جزء وكل تفصيل مكانته وأهميته الخاصة، حيث تصبح اللوحة في نهاية المطاف مثل سجادة فارسية فاخرة. والأمر المثير للاهتمام أيضًا هو أننا إذا قسمنا هذه اللوحة طولياً إلى قسمين متساويين، فسنرى كيف أن الجزء الأيسر مطابقًا تمامًا للجزء الأيمن، حيث تتكرر نفس التفاصيل والمفردات تقريبًا. وبهذه الطريقة يكون التوازن مثالياً ومريحًا للعين، وهنا يمكنني بوضوح رؤية تأثره بالأرابيسك والزخرفة الشرقية. وهذا يضيف متعة كبيرة في نفسي، لأنه يعيدني الى أصولي العربية والشرقية. سافرتُ شرقاً وغرباً لمشاهدة أعمال كليمت والمعارض التي تقيمها المتاحف له، وسيبقى حاضراً في حياتي وذائقتي الفنية واحياناً حتى في التفاصيل الصغيرة، كما في المكتبة العامة لمدينة دراختن التي أعيش فيها والتي حين ندخلها أنا وزوجتي، تشير هي الى رفوف الكتب الفنية الممتلئة قائلة (أنظر، حتى هنا كتابك يحاذي كتاب كليمت) وأنا اجيبها بخجل (شكراً للملاحظة ياعزيزتي، لكن لا تنسي أن ترتيب الكتب هنا حسب الحروف الأبجدية، وكتابي يجاور كتابه فقط كونَ اسمينا يبدآن بحرف الكاف).