العلمُ والدين: مساكنةٌ قسرية أم معايشة تقبل الاختلاف ؟

Tuesday 11th of January 2022 10:04:21 PM ,
العدد : 5103
الصفحة : عام ,

لطفية الدليمي

تابعتُ - بشغف - المشهديات الاحتفائية الكبرى التي أحاطت بنشر كتاب صدر حديثاً بالفرنسية بتأريخ 13 أكتوبر، عنوانه Dieu - La science Les preuves،

وترجمته العربية (الله: العلم، البراهين). مؤلفا الكتاب هما: ميشيل - إيف بولوريه Michel-Yves Bollore، وهو مهندس في مجال المعلوماتية، و أوليفيه بوناسييس Olivier Bonnassies، اللاهوتي خريج مدرسة البوليتكنيك الفرنسية الشهيرة ذات السمعة العالمية منذ أن تأسست في عهد نابليون. ساهم في تأليف الكتاب عشرون فيلسوفاً وعالماً في اختصاصات متعدّدة (الفيزياء بالطبع في مقدمتها)، وقد أثار ضجة كبرى في الأوساط الثقافية الفرنسية.

سننتظرُ ترجمة الكتاب إلى الانكليزية، وربما قد يُترجّمُ إلى العربية. دفعني فضولي لقراءة مراجعات للكتاب وتعليقات حوله ؛ إذ من المتوقّع أن يثير عنوان الكتاب (وكذلك موضوعه) تساؤلات عديدة. سأضعُ بعض هذه التساؤلات في سياق الملاحظات التالية:

1. يشيرُ عنوان الكتاب (أو على الأقلّ المراجعات الاحتفائية به) إلى أنّه الكتاب الأول الذي يقدّمُ براهين قطعية بشأن التوافق التام بين الشواهد العلمية ووجود الله. إنّ موضوعة العلاقة بين الدين والعلم كانت على الدوام ومنذ نشأة حركة التنوير الاوربي في القرن الثامن عشر موضوعة جدلية شائكة، ثمّ تعمّقت صور هذه الاشكالية مع تعاظم تيار الحداثة العلمية والتقنية. تناول فلاسفة التنوير (وقبلهم فعل سبينوزا)، وكذلك اللاهوتيون المسيحيون، مسألة الدين والسعي المعقلن لفهم العالم، وتفاوتت مقارباتهم في هذا الشأن. إنّ منبع الاختلاف يكمن في نظرتنا إلى العقلانية Rationality وحدود تداخلها مع الميتافيزيقا الفلسفية. لكنْ يبقى السؤال الأكثر أهمية هو: هل نحنُ في حاجة إلى الله الذي تثبته شواهد علمية؟ الله (مثلما كينونات كثيرة أخرى) فكرة متعالية، ترانسندنتالية Transcendental طبقاً للتوصيفات الكانتية (نسبة إلى عمانوئيل كانت)، وليس من ضرورة لجعله موضوعاً خاضعاً للشروط الاختبارية العلمية المحكومة بمحدوديات معروفة.

من جانب آخر، ثمّة العديد من الكتب التي نُشِرت لتعضيد فكرة مساكنة العلم مع الدين، منها، مثلاً، كتابٌ نُشِر عام 2019 بعنوان إيجاد الله في العلم Finding God In Science، ألّفه عالم صواريخ عمل في وكالة ناسا حتى تقاعد منها، إسمه مايكل أوكونل Michael O›Connell ؛ لكنّ الكتاب لم يلقَ التقريض الاحتفائي الذي ناله نظيره الفرنسي رغم أنه يسعى للمواءمة بين ميكانيك الكم وفكرة الله.

2. يتناول الكتابُ (مثلما هو متوقّعٌ) تلك الظواهر العلمية التي تتفق مع فكرة الخالق Creator، وعلى نحوٍ أكثر تخصيصاً فكرة انبثاق شيء من لاشيء ٍ Something from Nothing، في اشارة واضحة إلى حدث الانفجار الكبير Big Bang الذي يُعدُّ الدليل الأوفى على القدرة العظمى السرمدية لقوة تقع خارج نطاق قدرتنا البشرية على الفهم والتعامل. هنا ينشأ سؤالان جوهريان: ماذا لو تطوّر العلم (وهو جوهر معرفي أصْلُهُ المساءلة والتشكيك بالشواهد المعروفة ووضعها على محكّ التفكّر دوماً، وعدم الاستكانة إلى نماذج معرفية “ باراديغمات “ ثابتة) ونشأت شواهد تعاكس الشواهد العلمية السابقة؟ ثمّ أنّ فكرة (تخليق شيء من لاشيء) تنطوي على تفصيلات فيزيائية كثيرة قد يتخذها بعض العلماء أداة لنفي مبدأ الخلق Creationism؟ هذه بعضُ المفاعيل التي قد تنتج عن اتخاذ الشواهد العلمية وسيلة لتأكيد أفكار دينية هي بطبيعتها مفارقةٌ للمنهج الاختباري الصارم.

3. كثيرٌ من المفاهيم الجوهرية في حياتنا ليست موضوعات برهن عليها العلم، والأهمّ من هذا أنّنا لسنا في حاجة للبرهنة العلمية عليها ؛ فليس بالعلم وحده يحيا الانسان. هل قرأنا يوماً أنّ العلم برهن على وجود الحب أو عدم وجوده؟ الحب جوهرٌ مفاهيمي وفلسفي نحنُ نصنعه ونشكّله طبقاً لرؤانا الفردية وسياقاتنا الثقافية ونمط العلاقات التي نحياها والانساق المجتمعية التي تنقاد لها أنماط السلوك الموصوفة بالمقبولية العامة. قد تخبرنا الشواهد العلمية المدعمة تجريبياً أنّ جسد المحبّين تتدفق فيه نواقل عصبية تعزز الجهاز المناعي وتعمّق الشعور بالراحة والاسترخاء ؛ لكنّ العلم ليس له علاقة مباشرة بتقييمنا لفكرة الحب ذاتها في حياتنا. يبقى الحب فكرة تدورُ في فلك المدارات الفلسفية الميتافيزيقية، وكونها كذلك هو مايمنحها تلك القيمة الكبرى في حياتنا، وكذا الأمر مع القيم الأخلاقية. حتى العلم ينطوي على مبادئ هي ميتافيزيقية في جوهرها: مبدأ السببية Causality، على سبيل المثال، مبدأ ميتافيزيقي، والخصيصة الميتافيزيقية هنا لها معنى محدّد هو القناعة بالأمر على أساس منظومة إعتقادية Belief System وليس شواهد علمية مثبتة تجريبياً. لعلّ معظمنا من الذين يتوفرون على معرفة مقبولة بفلسفة العلم (الأسس المفاهيمية لميكانيك الكم على وجه التحديد) قرأوا عن المجادلات اللانهائية التي سادت بين علماء الكم وفلاسفة العلم بشأن السؤال التالي: هل يعمل مبدأ السببية في العالم الصغير (مادون الذري)؟ هنا من المشروع والضروري أن نتساءل: كم سيستفيد الدين (وفكرة الله) من إقحامهما في مجادلات مفاهيمية لانهائية؟

4.هناك قناعة سائدة على المستوى العالمي مفادُها أنّ المشتغلين في حقل العلم (الرياضياتيين والفيزيائيين بخاصة) ينكرون وجود الله. هذه مغالطة تضخمها القناعات الشعبوية، ولابأس من تناولها باستفاضة.

يمثّل الدين - والمنظومة الإعتقادية بعامّة - محوراً مركزياً يتطلّع معظم البشر لمساءلته وبخاصة العلماء المميّزين (والفيزيائيين على وجه التخصيص)، وغالباً ماتجري الإشارة في هذا الشأن إلى (آينشتاين) وتأكيده على أنه يؤمن بِـ (إله سبينوزا) في كلّ مرّة كان يُسألُ فيها عن إيمانه الديني.

العلم مبحث معرفي يختلف تماماً عن الفضاء المعرفي للدين، والقطيعة بينهما هي قطيعة معرفية في الوسائل والغايات الابستمولوجية فحسب ؛ لكنّ هذا الأمر لايَنفي إمكانية التعايش بينهما. نعلم أن الكثير من أعاظم الفيزيائيين والعلماء يحملون نوعاً خاصاً من العاطفة الدينية العميقة.

سأوردُ مثالين لإثنين من علماء الفيزياء ممّن يتقاطعون مع النظرة الالحادية السائدة. الأوّل هو جون بولكينغهورن John Polkinghorne، عالم الفيزياء النظرية البريطاني الشهير المولود عام 1930، الذي عمل أستاذاً ثم رئيساً لقسم الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية DAMTP في جامعة كامبردج (وهو القسم الذي كان الراحل ستيفن هوكنغ يعمل استاذاُ فيه) للفترة 1968 – 1979، ثمّ صار مفكراً لاهوتياً وكاهناً كاثوليكياً يدعو للتوافق بين العلم والدين (العلم والمبادئ الكاثوليكية على وجه الدقة) ؛ وبرغم انتقالته الفكرية هذه ظلّ شخصية اعتبارية بريطانية تحوز كلّ التقدير والاحترام في أوساط الثقافة البريطانية والعالمية حتى وإن رأى البعض شيئاً غير قليل من الراديكالية الدينية فيه.

المثال الثاني هو بول ديفيز Paul Davies، أستاذ الفيزياء النظرية الذي لقيت كتبه شهرة ذائعة على مستوى العالم. كتب ديفيز في مقدّمة أحد كتبه:

«... فَمِنْ بين العلماء غير المتدينين بالمعنى التقليدي للكلمة، نجد كثيرين يعترفون بشعور غامض بوجود “شيء ما” خلف سطح حقيقة الحياة اليومية، معنى ما خلف هذا الوجود ؛ فثمة إحساس طاغ لدى أوساط أكثر العلماء راديكالية يجوز لنا أن نسميه: تبجيل الطبيعة، افتتانٌ واحترامٌ لجمالها وبُعْد غورها وحتى حماقتها، وهذا الشعور مماثل للرهبة والخشوع الديني...... “

من المفيد قراءة الفصل الأوّل المعنون (العلم والدين في عالمٍ متغيّر) من كتاب ديفيز (الله والفيزياء الجديدة God and the New Physics) الذي نُشِرت طبعته الأولى عام 1983 ؛ إذ نرى فيه خلاصة ثمينة لرؤية غالب الفيزيائيين المعاصرين لموضوعة الدين (وفكرة الله على وجه التخصيص).

الحقيقة أنّ واقع الحال هو أنّ معظم العلماء لايتقاطعون مع الدين باعتباره نسقاً ثقافياً يضيفُ للخبرة البشرية ثراء حتى لو كان على المستوى الميتافيزيقي، وأنهم (أي العلماء) يتقاطعون مع المنظومة الاعتقادية المغلقة التي تقفل الباب أمام الرؤية المؤنسنة للدين والمنفتحة على الكشوفات العلمية. ليس كلّ العلماء في نهاية المطاف نُسَخاً من ريتشارد دوكنز ورؤيته العلموية الاصولية المتطرفة.

5. تنطوي عبارة (البرهنة على وجود الله علمياً) على خطأ مفاهيمي. ماذا نقصد بالبرهنة العلمية هنا؟ نقصد أنّ ثمّة براهين مستمدة من شواهد علمية تجعل الكينونة الإلهية متفقة مع القوانين الفيزيائية السائدة، أو في الأقلّ لاتتقاطع معها ؛ لكنّ المعروف أنّ هذه القوانين الفيزيائية هي ممّا يتفق مع اشتراطات نشوء الحياة الانسانية على الأرض طبقاً للمبدأ الانساني الكوني Cosmological Anthropic Principle. ماذا عن تلك الأجزاء من الكون التي لاتنقاد للقوانين الفيزيائية التي تحكم العالم المادي الذي نعرف (مثل الثقوب السوداء التي تمثل متفرّدات Singularities لها قوانينها الخاصة بها). هنا تتبدّى الخصيصة الاختزالية التي نفرضها على الله عندما نسعى لحصر جوهره تبعاً للقوانين العلمية السائدة.

* * *

يمكن اختصار الثيمة الاساسية في الموضوع على النحو التالي:

أولاً: موضوع البرهنة على وجود الله علمياً موضوع مفتوح النهايات Open – Ended Issue، يوظّفُ أدلّة بعضها قديم (مثل مبدأ العلّة الأولى التي تتجوهر في عبارة « كلّ مصنوع يستلزمُ صانعاً «)، وبعضها الآخر حديث (مثل مبدأ التصميم الذكي Intelligent Design وجوهرهُ التنغيم الدقيق Fine Tuning للثوابت الفيزيائية. الموضوع قديم يتلبّسُ لبوساً يجتهد بعض العلماء واللاهوتيين في إضفاء جدّة عليه.

ثانياً: ليس ثمّة من إمكانيّة للتعايش القسريّ بين العلم والدين، وليس من ضرورة للمداخلة القسرية بينهما وتصوّر ضرورة البرهنة على المفهومات الدينية بوسائل وأساليب علمية. يمكن لكلّ من العلم واللاهوت أن يظلّ ماكثاً في فضائه الخاص وضمن هياكله المؤسساتية في إطار أنساق ثقافية محترمة من غير تأثير مباشر أو غير مباشر من جانب الدين على المؤسّسة العلمية أو بالعكس. يمكن التعايش بشرط إنتفاء صفة القسرية المؤذية في هذا التعايش. تدلّنا الخبرة العملية المتراكمة أنّ هذا أفضل بكثير لكلّ من العلم والدين معاً.