كيف أعاد الأنثروبولوجيون الثقافيون.. تعريف الانسانية ؟

Tuesday 25th of January 2022 11:05:28 PM ,
العدد : 5113
الصفحة : عام ,

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

القسم الثاني

ثمّة فكرة ( أراني متفقة معها كلّ الإتفاق ) سائدة في أوساط الإنتلجنسيا العالمية مفادها أنّ مبحث الأنثروبولوجيا الثقافية ( أو الإجتماعية ؛ إذ لافرق )

هو الأصل الذي يمكن منه إشتقاق كلّ المباحث السائدة في الإنسانيات ( أدب ، شعر ، تأريخ ، جغرافية ، علم إجتماع ، سياسة ، إقتصاد ،،،،، إلخ ) . الإشتقاق هنا بمعنى أنّ الأصول الاولى للمبحث المقصود في الإنسانيات يمكن معاينة بداية نشأتها بتوجيه البؤرة البحثية نحو موضوعة محدّدة في الأنثروبولوجيا الثقافية ؛ وعليه فإنّ الإحاطة ببدايات نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية ستكون شرطاً لازماً لكلّ المشتغلين في حقل الإنسانيات ، وفي الوقت ذاته لكلّ المعنيين بمباحث الأنثروبولولجيا والثقافة .

أقدّمُ في المادة التالية ترجمة لمعظم الفقرات الواردة في موضوع ثقافي يتّسمُ بالثراء والمتعة، كتبه لويس ميناند Louis Menand ونشره في مجلّة النيويوركر The New Yorker المعروفة بموضوعاتها الرصينة بتأريخ 26 أغسطس (آب) 2019. الموضوع منشور بعنوان:

كيف أعاد الأنثروبولوجيون الثقافيون تعريف الإنسانية؟

How Cultural Anthropologists Redefined Humanity ?

الآتي هو الرابط الألكتروني لمن يودُّ معاينة النص الأصلي للمادة المنشورة في النيويوركر:

https://www.newyorker.com/magazine/2019/08/26/how-cultural-anthropologists-redefined-humanity

المترجمة

هناك مأثورة تتردّد في الأوساط الأكاديمية جوهرها أنّ مهنة الأستاذ الجامعي ليست سوى حواشٍ تدور في مدار أطروحته الأكاديمية، وهذا أمرٌ يصدّقُ على حالة بواس بشكل أو آخر. كان بواس باحثاً تجريبياً إعتاد جمع البيانات وتدقيقها بحثاً عن الخروج بنموذج شامل يجمعها، ولم يكن يرى في نفسه ميلاً نحو التخمينات النظرية ؛ لكنه برغم هذه الخصيصة المتأصلة في نفسه فقد آمن دوماً أنّ الحقيقة الجوهرية بشأن الكائنات البشرية تكمن في أنّ كلّ الحقائق المعروفة عنهم تتغير لأنّ الظروف التي يعيشونها تتغير هي الأخرى. رأى بواس أنّ حيواتنا قد تكون محكومة بطائفة من المؤثرات: الجينات، البيئة، الثقافة ؛ لكنّ هذه المؤثرات ليست محدّدة بصورة مسبّقة.

إبتدأ بواس عمله الثوري بدراسة أنجزها بطلب من إحدى لجان الكونغرس الأمريكي ونُشِرت عام 1911، وتناول فيها الهيئة الجسدية: حجم الرأس، طول الجسم، لون الشعر، عمر البلوغ البيولوجي لأطفال الأوربيين المهاجرين حديثاً إلى الولايات المتحدة. كان الدافع وراء تلك الدراسة البحثية هو القلق الجمعي من أن يتسبّب المهاجرون الأوربيون من جنوب أوربا وشرقها، وعبر الزيجات المختلطة، في التأثير على الترسيمة العرقية السائدة في الولايات المتحدة. وجد بواس في دراسته البحثية أنّ مؤشر محيط الرأس Cranial Index للأطفال المولودين في أمريكا يختلف بطريقة واضحة عن مؤشر أقرانهم من المولودين في أوربا والذين يشاركونهم الخلفية الإجتماعية والاقتصادية، وكان لهذا الأمر أن عظّم أهمية الدراسات الانثروبولوجية وجعلها تبلغ مديات غير متصورة. كان من المفاعيل التي ترتبت على بحث بواس هذا أن تراجعت القناعة التي سادت طويلاً حول ما أصبحنا ندعوه اليوم “ الإختلافات الإثنية “ ؛ إذ صرنا نعرف أنّ هذه الإختلافات ليست قابلة للنقل الميكانيكي بفعل الوراثة بل هي تعتمد على المؤثرات البيئية. برهنت دراسة بواس البحثية كذلك عن (مرونة الانماط البشرية)، وأبانت عن حقيقة أنّ التغايرات الملحوظة داخل الأفراد المنتمين لمجموعة بشرية محدّدة هي أعظم بكثير من التغايرات الملحوظة بين الجماعات البشرية.

لم تكن مكتشفات بواس ممّا يرغب في سماعه العلماء والسياسيون البيض عام 1911. شهد بواس في حياته تشريع قانون جم كروJim Crow الذي أشاع قبولاً واسع النطاق بالداروينية الإجتماعية وعلم تحسين السلالات البشرية Eugenics، والتوسّع الاستعماري (بما فيه الإحتلال الأمريكي للفلبين)، والتقييدات القاسية للهجرة إلى الولايات المتحدة، وتنامي حركة الكوكلاكس كلان Ku Klux Klan العنصرية، وصعود سلطة أدولف هتلر. كان العلم حتى ذلك الوقت يًعامل باعتباره المسوّغ المقبول للاستعمار الكولونيالي، والفصل العنصري، والتمييز العرقي، والنبذ السكّاني، والتعقيم القسري. كرّس بواس حياته لكي يثبت للناس أنّ العلم الذي كانوا يعتمدونه في تسويغ ممارساتهم السابقة إنما كان علماً سيئاً. “ آمن بواس بأنّ العالم ينبغي أن يكون آمناً يتّسعُ لكلّ الإختلافات البشرية “: هذا ماكتبته روث بندكت عقب وفاة بواس.

إذا كانت الإختلافات البيولوجية لاتصلحُ مسوّغاً لتلك الطائفة الواسعة من الممارسات والأدوار المتباينة السائدة بين المجموعات البشرية، والتي نلاحظها في العالم، فينبغي حينئذ توقّع وجود أمر آخر يفعل فعله. فكّر بواس بوجود مجموعة من المؤثرات الأخرى، وأحدُ تلك المؤثرات هو الثقافة Culture.

تحتاجُ مفردة الثقافة هنا شيئاً من إعادة تعريف: كانت مفردة الثقافة في القرن التاسع عشر تُعامَلُ بشكل عام وكأنها أقربُ إلى حيازة شيء ما. كانت شيئاً تكتسبه المجتمعات في سياق عملية تطورها المستديم، وهي بهذا تعدُّ طوراً في عملية نمو الحضارة المدنية. كان بواس أحدى الشخصيات التي أشاعت بيننا التعريف الإجرائي للثقافة عندما نتحدث عن الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي ؛ بمعنى أنّ الثقافة تعني طريقة محدّدة في الحياة. كانت إحدى المساهمات الكبرى لبواس في هذا الشأن هي أن يُرينا الكيفية التي حازت بها المجتمعات ماقبل الحديثة (البدائية Primitive كما تسمّى في الأدبيات الأنثروبولوجية) ثقافاتٍ بالطريقة ذاتها التي تحوز بها المجتمعات الحديثة ثقافات خاصة بها.

أنجز بواس عمله الحقلي الأوّل مع جماعة بشرية تدعى الأنويت Inuit تقطنُ في جزيرة بافن في الشمال الكندي. إعتزم بواس دراسة أنماط الصيد - وأشياء مماثلة له - في تلك الجماعة البشرية ؛ لكنه أدرك مع مرور الوقت الذي قضاه مع تلك الجماعة البشرية أنّ الطريقة المميزة التي بموجبها أنجز أفراد تلك الجماعة البشرية أعمالهم إنما عكست رؤية خاصة لهم تجاه العالم. كانت رؤية جماعة الإنويت للعالم تختلف جوهرياً عن الرؤية الأوربية، ولم تكن أوطأ مستوى منها بأي شكل من الأشكال ؛ بل أنّ بواس وجد أنّ الإنويت إمتلكوا بعض الرؤى التي تتفوق على الرؤية الأوربية في ميادين معيشية محدّدة. اتاحت هذه المعايشة المنغمسة في حياة الإنويت لبواس أن يرى ثقافته الخاصة من خارجها ؛ وهنا أدرك الأهمية الجوهرية لِـ « الأهمية النسبية لكلّ التعليم الذي نتلقّاه في حياتنا «: هذا ماكتبه بواس لاحقاً.

إنتهى بواس إلى حصيلة إستنتاجية مفادُها وجود ثقافات بشرية عدّة بدلاً من واحدة، وابتدأ منذ ذلك الحين الإشارة إلى « ثقافات « بصيغة الجمع، بدلاً من ثقافة جامعة واحدة. كان بواس مهتماً بعلم الأجناس البشرية Ethnography، وكان مسكوناً بقناعة راسخة أنّ عمل المختصّ بعلم الأجناس البشرية إنما هو في حقيقته دراسة للأنماط الثقافية السائدة في أية مجموعة بشرية قيد الدراسة: أن نفهم – على سبيل المثال فحسب – من داخل الجماعة البشرية ماالذي تعنيه الذكورة أو الأنوثة، وماالذي يعنيه منحك هدية لأحد ما أم قبولك لها، وماالذي يعنيه دفن جثة ميت. كان على المختصّ بعلم الأجناس البشرية، كما يرى بواس، أن يفهم الطبيعة الدلالية الدقيقة للمُزحات السائدة في جماعة بشرية ما، وهذا يعني أن يترك المرء مواضعاته الثقافية بعيداً عنه. « الثقافات متعدّدة، والإنسان واحد»: هذا ماكتبته إيلّا ديلوريا في ملاحظاتها على واحدة من محاضرات بواس.

« أفضلُ طلّابي هنّ نسوة «: هذا ماأسرّه بواس لصديق أنثروبولوجي له عام 1920. لم تكن كلية كولومبيا حينئذ تقبل النساء فيها ( كانت كولومبيا آخر جامعة بين جامعات النخبة Ivy الأمريكية تقبل بالتعليم المختلط عام 1983 !) ؛ لكنّ مدرسة الدراسات العليا وكلية المعلّمين كانت تقبل النساء فيها. كان بواس يدرّسُ في كلية برنارد (مختصّة بتعليم النساء حصرياً دون الذكور، المترجمة)، وكانت على الجهة الثانية من الشارع والمقابلة لكلية كولومبيا (أصبحت جامعة فيما بعد).

* * * * *

كان لقاء إيلّا ديلوريا ببواس للمرّة الأولى عبر بوّابة كلية المعلّمين Teachers College . ولِدت ديلوريا في محميّة بولاية داكوتا الجنوبية، وهي تنتمي لعائلة سيوكس Sioux ذائعة الصيت. كان والدها قساً يتبع الكنيسة الأسقفية، ووالدتها إبنة ضابط في الجيش الأمريكي ذي رتبة كبيرة. إلتحقت ديلوريا بكلية المعلّمين وتخرّجت منها عام 1915، وفي سنتها الأخيرة بهذه الكلية تلقّت إستدعاءً من بواس يطلب فيه منها الإنضمام إلى مشروع طويل الأمد يعدُّ له ويسعى فيه لتسجيل كلّ اللغات البدائية الشائعة في أمريكا.

لم تكن ديلوريا طالبة رسمية لبواس في يوم من الأيام ؛ لكنها مع هذا عملت كمساعدة له وحضرت بعضاً من محاضراته (في كلية كولومبيا)، وقد وظّفها بواس لتدقيق المعلومات الأولى التي جمعها اللغويون وعلماء الاجناس الأوائل الذين درسوا جماعة الهنود في السهول الامريكية. لم يكن بواس مندهشاً إذ وجد أنّ معظم المعلومات التي جمعها هؤلاء اللغويون والإثنولوجيون كانت عديمة الفائدة. حصل عام 1941، وهي السنة التي سبقت وفاة بواس، أن نشر بواس بالإشتراك مع ديلوريا كتاباً بعنوان “ قواعد داكوتا Dakota Grammar “. يعلّق كنغ على هذا الكتاب بأنه كان واحداً من أعمال قليلة إرتضى بواس طيلة حياته المهنية على الإشتراك بها مع أحد سواه.

كانت روث بندكت بين كلّ النساء اللواتي عملن برفقة بواس هي الاكثر صلة مهنية معه. حصلت بندكت على شهادة البكالوريوس، ثمّ أبدت ولعاً مميزاً بعلم الأنثروبولوجيا عندما تلقّت محاضرات حوله في المدرسة الجديدة (التي أسسها بواس في كلية كولومبيا، المترجمة). إلتحقت بندكت ببرنامج الدراسات العليا في كولومبيا عام 1921، وبعد حصولها على شهادتها العليا أصبحت « القائدة لجيش بواس في قسم الأنثروبولوجيا في كولومبيا « كما يقول كنغ، وقد سعى بواس من جانبه لضمان حصولها على وظيفة أكاديمية ثابتة في كولومبيا، ونجح في مسعاه هذا. إرتقت بندكت في موقعها الأكاديمي حتى نالت مرتبة أستاذ مساعد آخر الأمر في كولومبيا عام 1931.

عندما تقاعد بواس من عمله الأكاديمي كانت بندكت العضو الأكثر شهرة بين الأعضاء الأكاديميين لقسم الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا. كتاب بندكت الموسوم أنماط الثقافة Patterns of Culture (وهو دراسة انثروبولوجية لثلاث جماعات بشرية مختلفة) كان قد نُشِر عام 1934 وأصبح واحداً من أكثر كتب الانثروبولوجيا الاكاديمية مبيعاً حتى يومنا هذا ؛ لكن برغم هذه السمعة الواسعة التي حازتها بندكت فقد إرتأت جامعة كولومبيا توظيف رجل (هو رالف لنتون Ralph Linton) ليشغل مرتبة الإستاذية الشاغرة , وهو شخصية علمية ناقدة لأعمال بندكت، ولم يحصل أن يلتقي الإثنان (بندكت ولنتون) في نقطة توفيقية وسطية بينهما حتى نهاية مهنتهما الاكاديمية.

نشرت بندكت عام 1946 كتابها الثاني الذي نال – كما كتابها الاوّل – شهرة عجيبة بين أوسع الحلقات الشعبية. كان عنوان الكتاب « زهرة الأقحوان والسيف The Chrysanthemum and the Sword “، وهو دراسة عن ثقافة اليابان. غادر لنتون جامعة كولومبيا تلك السنة، حينئذ رُقّيت بندكت لمرتبة الأستاذية الكاملة آخر الأمر عام 1948، وماتت عقب ذلك بشهرين متأثرة بنوبة قلبية مفاجئة وهي في الحادية والستين.