باليت المدى: صديقي المُبَشِّر بالجمال

Sunday 17th of April 2022 11:28:46 PM ,
العدد : 5168
الصفحة : الأعمدة , ستار كاووش

 ستار كاووش

لا يمكنني أن أَعُدَّ أيام حياتي دون التوقف عند صديق صارَ جزءً من ذاكرتي وحاضري ووجودي كفنان، صديق أمسك فانوساً ذات يوم -ومازال يمسكه- ليضيء لي طريقاً معتماً هنا، أو زاوية داكنة هناك. وقد أشارَ لي دائماً بما يليق، وكتبَ عني بما لا يمكن أن أرده له بكلمات، صديق فتح لي دفاتره، وقبلَ ذلك فتح قلبه وبيته. إنه الكاتب والمترجم والناقد البارز عدنان حسين أحمد، هذا المبدع الذي رافقَ حياتي وأنا رافقتُ أيامه أيضاً ومضينا بيسرٍ، نبحث عن الجمال الذي ننشده ونتمناه.

تَحَدَّثَ الكثيرون عن صعوبة أيصال المشاعر كاملة من خلال الكلمات، وها أنا أمر بهذه المحنة وأؤكد هذه الحقيقة، لأني أمام رجل ساهمَ بتقديم الكثيرين وجعلَ نتاجاتهم تحت الضوء، مثلما ساهم بمنحي هذا الشرف، بعد أن أمضى وقتاً طويلاً يعطي ويمنح ويستجيبُ بتواضع الناس الكبار وبراعة العارفين. لقد تابعَ عدنان كل ما رسمته وأنتجته وعرضته من لوحات، وسافر بأجنحة حروفه مع أعمالي يميناً وشمالاً، ودافع عني بحماس قلَّ نظيره، ليكتبَ مقالة هنا ومتابعة هناك وحواراً في جهة ثالثة. كنتُ قد عرفته في بغداد حيث أماسي إتحاد الأدباء الثقافية، سنوات الثمانينيات وبداية التسعينيات، وبعد سفري من العراق تبادلنا رسائل عديدة تحدثنا فيها عن ظروف العراق والأصدقاء والسفر بين هذه البلدان الواسعة، وأخبرته دائماً بآخر ما أرسمه وأقوم به، وبذلك إطَّلَعَ على كل لوحاتي والظروف التي صاحَبَتْ رسمها، بما فيها تلكَ الرسومات الصغيرة التي كنتُ أرسمها على علب السجائر الفارغة في مدينة كييف، وكان يرسل لي نصائحه المتتالية عبر البريد، ويتتبع معي طرقات كييف، تلك المدينة التي كتبتُ له في رسائلي حتى عن رائحتها، تلك الرائحة التي كانت تنبثق من كل الزوايا والأماكن، وكإنها مزيج من ثلاثة أشياء هي التفاح والفودكا والحليب. لنلتقي من جديد في هولندا التي أكدتْ لنا إن هذه الأرض كروية وسنلتقي مهما تباعدت المسافات وإنقطعت السبل. لنُكمل بعدها دروب الحياة، فيمضي هو الى مدينة لندن وأذهب أنا شمالاً وسط المزارع الهولندية، وبقيت برقيات المحبة والتواصل والمتابعة تذهب وتجيء بيننا عبر بحر الشمال الذي يفصلنا.

لم يتردد عدنان يوماً بتقديم يد العون والمشورة، وبكل الطرق التي تُحَتِّمُها صداقة بُنيَتْ بالمحبة والجمال، وقد كتبَ العديد من الدراسات النقدية عن لوحاتي، ليتفرغ بعدها وقتاً طويلاً وهو يلملم أفكاره ويمسكَ بتفاصيل أعمالي من حيث الأسلوب والتقنية والموضوعات ومعالجة سطوح اللوحات، لينجز كتاباً مذهلاً وبالحجم الكبير عن أعمالي ورؤيتي الفنية وتقنياتي في الرسم، وأشار الى المرجعيات التي رآني أشترك فيها مع فناني العالم من خلال تكوينات لوحاتي أو تقنيتي وحتى الباليت الذي تتوزع عليه ألواني والمناخات التي أعمل عليها. وهكذا صدرَ كتابه (غواية الحركة ورنين اللون في تجربة ستار كاووش) والذي أعتبره من أهم جوائز حياتي.

في الفترة الماضية إستضافتني مكتبة أليف وسط مدينة لندن لأجل الحديث عن تجربتي وتوقيع كتابي (نساء التركواز) الذي كَتَبَتْ مقدمته مديرة متحف العالم في روتردام شارلوتا هاوخنس، وقبلَ بدء الأمسية بدقائق كنتُ قربَ المكتبة بإنتظارِ مجيء الناس والأصدقاء، أقفُ محتاراً لحظتها بمن سيقدمني للجمهور، وإذا بعدنان ينبثق أمامي مثل زوربا، وبلطفٍ شديد، أخذ الأوراق التي في يدي ووضعها في حقيبته وأقفلَ عليها، ثم قدمني للجمهور دون ورقة أو ملاحظة أو أية كتابة، ذلك بسبب خبرته في إدارة الندوات وكتابة مئات المقالات النقدية، يضاف الى هذا كله، معرفته الكاملة بي وبالطريقة التي أفكر بها والتقنيات التي أستعملها في الرسم، دون الحاجة الى أوراق ولا مقدمات أو مراجعات. وهكذا بدا حديثه في الأمسية الجميلة ينسابُ بدراية ومعرفة بكل تقنيات الرسم، حتى بَدَونا للموجودين وكإننا قد هيئنا الأفكار مسبقاً وحـضَّرنا كل التفاصيل قبل الأمسية. في تلك المكتبة عرفتُ أن لا شيء يفوق الصداقات الحقيقية، ولا شيء يعلو على جمال الناس الذين من طينة عدنان. ومازلتُ أتذكر كيف كنتُ أستمع لحديثه الذكي الهاديء وأتابع كرم تقديمه لي في ذلك اليوم، لأتأكد إن مثل هذا العطاء الذي يَمنحه صديقي، هو الذي يعطي لحياتنا قيمة. سلام لك ايها العراقي النبيل والجميل والمبدع، صديقي عدنان، أنت أحد الكنوز التي أفخر بها ما حييت.