إبراهيم البهرزي: للشعر ذنب أيضا في نفور الناس من الشعر بكتابة المطولات وقصائد الطلاسم

Monday 16th of May 2022 11:39:19 PM ,
العدد : 5184 (نسخة الكترونية)
الصفحة : عام ,

يرى أن المثقف العراقي ليس ثوريا، هو في الغالب موظف في مؤسسة أو يسعى للوظيفة

حاوره/ علاء المفرجي

- القسم الثاني-

نال ما ناله من عسف واضطهاد بل وعزل، هو ورهط من شعراء جيله الذين آثروا البقاء في الوطن، والبعض منهم صار ذكرى وأثر..

فقضى عند مذبح الوطن، ابراهيم البهرزي أحد هؤلاء الشعراء، الذي صدح صوته نهاية السبعينيات، شاعراً أكد حضورا لافتاً في المشهد الشعري بوصفه صوتاً مختلفا، وسرعان ما نالته - وفي التاريخ نفسه –المجنزرة الفاشية بدمويتها مثلما نالت الاصوات التي كانت تنادي بالديمقراطية، من بطش وتهديد وإقصاء.

البهرزي لم يغادر قريته (بهرز) على مدى ربع قرن، بل إلتحف بشعره، واستجار ببساتين وبرتقال قريته من رمضاء الآخر، فكانت نصوصه الشعرية ومقالاته، التي كان ينظمها بلسماً للألم اليويم الذي كان يقاسيه، حتى حان موعد الخلاص، أو ما ظننا أنه لخلاص، لتسافر نصوص البهرزي على جناح الحرية الى محبيها.

ولد في بهرز محافظة ديالى عام ١٩٥٨، وتخرج من الجامعة التكنولوجية عام ١٩٨١، عمل مهندسا في دوائر الدولة حتى تقاعد عام ٢٠١٩.

كانت (بهرز) ببساتينها وبرتقالها الشهير، انطلاقة مهمة بالنسبة له، لتشكل فيها بعد محور نصوصه الشعرية وكتاباته العديدة، (صفير الجوال اخر الليل) ديوان شعر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام ٢٠٠٣، و(شرفة نيتشة) مختارات شعرية عن دار ميزوبوتاميا بغداد عام ٢٠١٥، و(لا ابطال في طروادة) رواية عن دار ميزوبوتاميا بغداد عام ٢٠١٥. وله مخطوطات لروايات ومجاميع شعرية لم تر النور حتى الان.

 عطفا على هذا السؤال.. الشاعر ياسين طه حافظ قال في حواري معه قال: أن اكبر خونة الاحزاب هم من المثقفين.. بينما ارى ان ذلك يتناقض مع الوعي والثقافة التي تجعل المثقف بريئا من هذه التهمة؟

إكمالاً لمقولة الصديق ياسين طه حافظ وهو من المثقفين الجديرين بالاحترام اقول لك ان الخيانة متبادلة بين المثقف والأحزاب، قد تعجب كيف يمكن ان يخون الحزب مثقفا، ولكن هذا وارد وحصل مرارا وفِي كل الأحزاب دونما استثناء، من المعلوم ان المثقف يخون الحزب لاجل منفعة من سلطة ما،اغلب المثقفين العراقيين وقعوا في بئر الخيانة هذا بسبب التبدلات السياسية السريعة والعنيفة والتي لا تقبل حق الاختلاف، كان على المثقف ان يختار طريق الهجرة او المهادنة. وفِي النادر كان البعض يختار الصمت او ما يشبه الصمت ، على العموم فالمثقف العراقي ليس ثوريا، هو في الغالب موظف في مؤسسة اويسعى للوظيفة فيها والمؤسسات في العموم لا تخلق ثقافة ثورية ، انها تخلق المثقف الموظف وهو أسوأ انواع المثقفين من جهة التبعية، الحقيقة هذه واقعة وليست مقولة ادانة، اغلب المثقفين العراقيين يكرهون فكرة العمل لاجل العيش،اغلبهم يعتقدون ان الآلهة قد خلقتهم ليكونوا محررين او رؤساء تحرير او مستشارين سواء كانت لهم امكانات فنية او لم تكن،البعض منهم لا يسعى حتى للدراسة الأكاديمية التي تطور أدواته، انه يعتقد وخاصة الشعراء منهم. ان على الدولة ان تجد له وظيفة مرموقة دون النظر الى امكانياته التعليمية لمجرد انه يكتب قصيدة ، وهو يعتقد ان القصيدة مفتاحه لباب السلطة في بلده، يترك هذا الحزب ويلتحق بسواه ويهجر هذه القومية او الطائفية ويلتحق بأخرى بل يترك جنسية الوطن ويلتحق روحا وصفة بوطن اخر ان تطلب ذلك ، اعتقادات نرجسية تكره فكرة العمل وامتهان مهنة ما للعيش، الثقافة ارفع مقاما من كل المهن،هكذا يعتقدون ، ولأجل ذلك لابد ان يكون في عربة احد الأحزاب التي تقدم للأدباء. قدرا من التسهيلات ،وظيفة او زمالة دراسية، ومتى ما. افلت هذه السلطة وحزبها. يتحول بيسر صوب السلطة الغالبة، البعض منهم يعتقد ان هذه الخيانة هي تطور فكري،او هكذا يجيرها من باب العزة بالاثم.

من جانب اخر هناك احزاب تخون مثقفيها ، فحين تتخذ بعض هذه الأحزاب مواقف لا تنسجم مع تاريخها ولا مع الأفكار التي تربى عليها هذا المثقف فان البعض من هؤلاء المثقفين يرفع صوته بالرفض لحزبه مهما كانت النتائج فيما س الحزب عليه الخيانة الحقة: التهميش والإشاعات الحزبية الفجة، المثقف هنا كان أميناً للفكرة التي تعلمها من الحزب، والحزب هو الذي خان !، ورغم ان هذا القول منا لا تحتمله الكثير من العقول الا انه يحدث كثيرا فتصيب ذلك المثقف اللعنة رغم انه هو الذي تعرض للخيانة ورغم انه لم يخن.

 قلت مرة في حوار صحفي « الشعر في العالم كله يمر بأزمة تواصل وانكسار لصالح الرواية والسينما» هل هذا يعني أنه بداية تخلي الشعر عن عرشه لصالح الرواية أو السينما برأيك؟

نعم وربما على مديات أبعد فان الرواية هي الاخرى ستلفظ انفاسها لصالح الفنون المرئية، الرأسمالية تمتلك الان كل الوسائل التي تغري الناس بالتفاهة، حتى السينما الرصينة تتراجع حظوظ إنتاجها ، الغناء المطلوب حاليا هو التافه منه، والشعر اجمالا هو فن الرزانة،لا توجد في التاريخ قصائد للتسلية وان وجدت فأنها تفقد صلاحيتها خلال عصرها،الشعر والفكاهة عدوان لدودان، وإذا ما تم تجيير الفكاهة كلها لصالح التفاهة فان نشاطات ذهنية كثيرة والشعر اولها ستنقرض بالتأكيد، الان في هذه الايام من النادر ان يقرا الشعر بجدية الا جمهور قليل من المتلقين اغلبهم من كتبة الشعر، شاعر يظل يكتب لشعراء اخرين حتى ينقرضوا جميعا، العصر هو بامتياز عصر الصورة ومتاعب الحضارة ما عادت تترك للإنسان شيئا من زمانه لأجل التأسي بالشعر ، سيحاول ًكثير من الشعراء النابهين تطوير القصيدة الحديثة لتصبح ملائمة لهذا العصر السريع، هناك محاولات لدس الشعر في السينما او الغناء من اجل الإبقاء على ذكراه، اكبر شاعر بالعربية لا يطبع ١٠٠٠ نسخة من دواوينه، للشعر ذنب ايضا في نفور الناس من الشعر، فكتابة المطولات. وقصائد الطلاسم لم تزل سائدة وهي من أسباب اثارة القرف والسخرية من الشعر ، ثمة مايسمى الشعر الجماهيري المنبري الاستهلاكي الذي يحظى بقبول جماهيري ليس كشعر ولكن كحفل للسباب والشتائم وإلقاء المفارقات الطريفة وجمهوره لا يمكن تسميته بجمهور الشعر. هو جمهور غاضب يبحث عن وسائل تنفيس ، للشعر الحقيقي جمهور نوعي بسيط العدد يقرأه بين الحين والآخر في أوقات التامل النادرة

 كانت (لا ابطال في طروادة) رواية عن جيلنا الذي خبر مأساة القمع السياسي نهاية السبعينيات وأستمر بعد ذلك، والذي اختطفت منه أحلام جيل كامل (هل كانت لهذا الجيل أحلام؟).. هي رواية أم سيرة ذاتية؟ هل كتبتها كوثيقة ليطلع عليها الجيل الحالي؟ أم انها بداية مشروع سردي لم يكتمل بعد؟

كانت عندي قبل هذه الرواية محاولات كنت اتركها بعد شوط قليل وهذا يعود لطبيعتي الملولة، حيث يحدث ان أنشغل بكتابة اخرى خلال كتابة الرواية ،هي طبيعة مزعجة هذا التشتت والتوزع الذي يهيمن بسبب الملل يعيق الكثير من الإنجازات ، لكن حادثا حقيقيا هو الذي حتم علي إكمال الرواية،هو حادث حقيقي مكتوب في متن الرواية ، كان اللقاء بعايدة حقيقية في اسطنبول هو ذلك الحدث، اما بقية الحوادث والشخوص ففيها الحقيقي وفيها المتخيل، هي ليست سيرة شخصية وإنما هي سيرة جيل كامل، في ظل الأنظمة الدكتاتورية حتى ذكرياتنا تكون متشابهة ، فالجور كان يقع بمنتهى العدالة علينا، وتم التركيز على لحظة تاريخية هي فترة الجبهة الوطنية ولصراحتها فقد عوقبت الرواية. بالنبذ والتهميش من قبل.. بسبب الفيتو على اسمي كما اخبرني ناشرها بحجم الملامة والتوبيخ الذي وقع عليه بسبب قيامه بنشر الرواية .

شخصيا احب السرد اكثر من الشعر، اشعر بمتعة شديدة مع السرد في حين يسبب لي الشعر ألاما نفسية شديدة، وكما قلت فقد كانت هناك محاولات منذ أوائل الثمانينات بعضها لم يزل غير مكتمل،فبدلا من اكمالها اتركها واذهب لمشروع اخر هو الاخر لا أكمله !

لقد حدث في الحياة العراقية في ذلك الزمان ما هو افضع مما ورد في الرواية ولا أحد سببا لمبررات الغضب والاستنكار، هي نتف من سيرة جيل تم سحقه وتحطيم اماله بمنتهى القسوة وهي منطقة زمانية تكاد ان تكون غير مأهولة سرديا لحد الان،لازال البعض يخاف ان يراجع تلك المرحلة لا أدبياً ولا تاريخيا لأنها مرحلة مثقلة بالذنوب التي لا يريد احد الاعتراف بها، ان ما كتبته هو مفصل صغير جدا من مفاصل تلك الحوادث المؤلمة ، كنت فيه الراوي وعدة ابطال في ان ، كانت سيرتي الحقيقية موزعة بين عدة شخوص ، في الحقيقة كانت جوانب بسيطة من السيرة ،نحن نحيا في بيئة لا تحتمل السيرة والاعترافات وللخلاص من ثقلها يجب تشتيتها بين جملة اعمال سردية.

 بفعل الاغتراب الروحي والوجودي للمبدع العراقي، هل صار يجد بعد ذلك الانبهار بفردوس العراق.. كما قلت مرة..؟

لم نزل يا صديقي نبحث عن فردوس محرض على الانبهار ، لا نريد الإقرار بالخراب التام لكي لا نموت يأسا، نصطنع فراديس من الذكرى ونؤثث القمامة التي تحيط بِنَا ببعض ذكرياتنا ، كنت اجد كل ما في جغرافية العراق مثيرا للانبهار وكنت احتفي بها، بعدما يأست من الحصول على فسحة لرؤية بلاد الارض قررت ان اصطنع فراديسا وسط كل الخراب الذي مر، كنت ولغاية ٢٠٠٣ أقابل بالرفض كلما تقدمت للحصول على جواز سفر،هناك منع لا اعرف مسبباته فانا لست سياسيا فاعلا،كنت قد تركت العمل السياسي منذ العام ١٩٧٩ وأم اعد لممارسته مطلقا،ومع ذلك فان اول جواز سفر تم منحه لي كان في العام ٢٠٠٤ ، كنت قد أصبحت على مشارف الخمسين ولَم تعد متعة الأسفار تملك ذاك الاغراء الممض في زمان الصبا، كانت عندي بستان صغيرة كنت ارى فيها كل جنان الارض ومع اندلاع الحرب الطائفية عام ٢٠٠٦ تم قطع مصادر المياه عن عموم البساتين فأصبح ذلك الفردوس كوما من الحطب، رغم كل يأسي واحباطي مازلت ارى في العراق فراديس لا تشبهها اخرى في المعمورة، ربما عيوني هي التي تخدعني وليكن ! فمثل هذه الخديعة تبقيني على قيد المسرة حتى اوان الرحيل ، وأقول نعم لازال هناك في العراق ما يحرض على المتعة رغم كل الخراب.

 هل لك ان تحدد ملامح المشهد الثقافي العراقي في الوقت الحالي؟ الى اين يتجه مثلا؟

انظر بايجابية صوب الآفاق الثقافية المستقبلية لانني اجد بين الشباب تحديدا نزعة تقوم على المراجعة وعدم الهيبة ازاء التماثيل الثقافية. وهذا عنصر كنّا نفتقده تماما، هناك من الشباب من هو عصي على تطويع المؤسسة، وجود فاعل ثقافي خارج هيمنة المؤسسات والمجاملة الثقافية هو بشارة تصحيح لاعوجاجات وأوهام كثيرة سادت في السوق الثقافي ،. لم يكن ثمة احد يستطيع عصيان المؤسسات دون ان يدفع الثمن غاليا، ووسائل الاتصال الجديدة واتساع رقعة النشر تمنح هذه الطلائع الثقافية فرصة لتحطيم الأنماط الثقافية التي هيمنت على المشهد قرابة النصف قرن،هناك الان من يستطيع القول ان الإمبراطور بلا ثياب، هناك الان من الشعراء والروائيين والكتاب الشباب من يستطيع الخوض في مجالات ظلت محرمة لعقود طويلة ، غير اني اخاف من محاولات ضمهم للمؤسسة وتنميطهم وشكم جموحهم،فقد حدث ان راهنت خلال السنوات الماضية على بضعة اسماء لم تلبث المؤسسة ان أغوتهم بوظائفها ففقدوا الكثير من شجاعة الرأي، ثمة شياطين يعملون داخل المؤسسة في مختلف العهود مهمتهم الوحيدة تدجين هؤلاء الثوار الثقافيين وتدجينهم ، انهم يخافونهم اولا لانهم لوحدهم من يجرأ على مراجعة التاريخ الثقافي وبعض مباذله ولانهم لم يقعوا تحت سطوة اَي غطاء أيديلوجي بعد، لذا فان هؤلاء الشياطين يسعون لتحجيم الطموح الثقافي والجرأة الناقدة لهؤلاء الشباب والتي قد تفضح جرائمهم الثقافية ذات يوم،. ورغم ذلك فاني على ثقة بان ليس الجميع عرضة الإغواء والتدجين