الانغلاق السياسي في العراق، إلى أين؟

Tuesday 17th of May 2022 11:14:21 PM ,
العدد : 5185 (نسخة الكترونية)
الصفحة : آراء وأفكار ,

 فراس ناجي

يشير الانسداد السياسي بعد انتخابات 2021 في العراق الى فشل مزدوج لأطراف الأقلية الحاكمة في احتواء تداعيات احتجاجات تشرين الشعبية في 2019. فمن جهة فشل التيار الصدري الذي يقود «التحالف الثلاثي» في تحقيق أي تغيير في نهج المحاصصة الطائفية للنظام السياسي ولو بصورة شكلية تحت عنوان الأغلبية الوطنية لإرضاء جمهوره الذي تعاطف مع شعارات ثورة تشرين؛

ومن جهة أخرى فشلت القوى الشيعية التقليدية التي تقود»الإطار التنسيقي» وحلفاءه في الإبقاء على هذا النهج والذي كان إلغاؤه من أهم مطالب ثورة تشرين. وهذا كله يدّل على عدم قدرة النظام الطائفي الذي تأسس منذ 2003 على تجاوز استحقاقات ثورة تشرين التي كان إنجازها الأكبر هوالإعلان عن احتضار شرعية هذا النظام وتحقيق صحوة نحو التغيير السياسي على الأقل في وعي الشباب والطبقة المتضررة والذين يؤلفون الغالبية المطلقة في المجتمع العراقي.

فما هي اذن احتمالات التغيير في ظلتفاقم الأزمات في الواقع العراقي المتصاحبة مع التجاهل التام لمطالب ثورة تشرين بتغيير النظام السياسي الذي تتقاسم فيه أقلية حاكمة مؤسسات الدولة ووارداتها بدعوى احتكارها لتمثيل طوائفها؟ وكيف يمكن للقوى الوطنية ان توظف هذا الانسداد السياسي لتحقيق التغيير المنشود؟

التغيير التدريجي عبر مأسسة حركة الاحتجاج: فرصة ضائعة

لقد نجحت احتجاجات تشرين في فترتها الأولى في تحشيد الدعم الجماهيري والاسناد المجتمعي لمشروعها في تغيير الطبقة الحاكمة ونظامها السياسي تحت شعاري «نازل اخذ حقي» و»نريد وطن»، من أجل تحقيق أهداف عامة تسعى الى تحسين الأوضاع المعيشية، ودعم سيادة الدولة، وتعزيز الهوية الوطنية. إلا أن هذا المشروع كان لا يزال في حالته الجنينية بدون منظومة سياسية أو برنامج واضح لتحقيق هذه الأهداف.

عندها،يكون مسار مأسسة حركة الاحتجاج واستيعابها في عملية سياسية جديدة تتضمن حالة من التسوية مع النظام القديم هو الأنموذج الأمثل لنجاح عملية التغيير مع الحد الأدنى من الفوضى وعدم الاستقرار. لكن لكي يتحقق هذا السيناريو، لابد لجزء مهم من الطبقة الحاكمة القديمة أن يتقبل قواعد العملية السياسية الجديدة ويلتزم بها من جهة، وكذلك لابد من وجود أحزاب قديمة قوية يمكن أن تلعب دور المعارضة لإستقطاب جزء مهم من الحركة الاحتجاجية. وبذلك يمكن أن تتحول السلطة تدريجياً إلى نظام سياسي جديد برؤية أقرب الى مطالب الحركة الاحتجاجية بدون اجتثاث الطبقة الحاكمة القديمة، كما حدث في كوريا الجنوبية عند إعادة العمل بالانتخابات النزيهة عقب حركات الاحتجاج الشبابية فيها في 1987، ما أدى الى تحول النظام السياسي من الديكتاتوري العسكري الى النيابي الدستوري.

إلا أن هذا السيناريو لم يتحقق في الحالة العراقية بعد احتجاجات ثورة تشرين بسبب تشبث الأقلية الحاكمة بالسلطة من جهة عبر قمع حركة الاحتجاج والالتفاف حول أية فرصة حقيقية للتغيير، ومن جهة ثانية بسبب عدم جدية التيار الصدري – كقوة سياسية من النظام القديم يمكن أن تلعب دور المعارضة –في تمثيل مطالب الحركة الاحتجاجية في التغيير السياسي.فبدلاً من بناء الثقة بين الحركة الاحتجاجية والسلطة للتهيئة نحو فترة انتقالية تحضّر لانتخابات نزيهة وعادلة يمكن أن تكسر احتكار الأقلية الحاكمة للسلطة، تمّ استهداف المحتجين بالعنف المفرط وتصفية قادة الحراك الشعبي، وكذلك تمّ شق الصفوف عبر استمالة البعض واغرائهم بالمناصب والوعود، بينما عمل المندسون على إثارة الفوضى في الحركة الاحتجاجية وتشويه سمعة المتظاهرين. وفي الوقت نفسه ضرب التيار الصدري المتظاهرين من الداخل وحاول الاستئثار بتمثيل الحركة الاحتجاجية ما أدى الى انعدام الثقة بين الطرفين وتعذر التعاون السياسي بينهما، على الأقل في المستقبل المنظور.

كل هذا أدّى الى فشل انتخابات2021 النيابية “المبكرة” في إحداث أي تغيير مهم سواء في التمثيل المُعتبر لقوى جديدة تمثل الحركة الاحتجاجية أو قريبة منها في البرلمان، أو في آليات ومنهجية العملية السياسية. وبهذا تم تضييع فرصة كانت سانحة لتحقيق التغيير التدريجي للنظام السياسي العراقي المأزوم باتجاه حل المعضلات المتجذرة فيه،ما أدى الى انسداد أي افق للتغيير السياسي على الرغم من تفاقم الأزمات في الواقع العراقي وإقرار جميع الفرقاء بعبثية الاستمرار بهذا النظام السياسي.

التغيير الشامل وفق برنامج لمشروع وطني: فرصة أخيرة

أما اليوم، فالانسداد الحالي في المشهد السياسي العراقي لا يدل فقط على فشل أحزاب السلطة في إدارة الحكم في البلاد وفي معالجة الازمات المتفاقمة فيه، بل هو مؤشر على عجز النظام السياسي في الاستجابة للمطالب الجماهيرية التي تزداد حدة وبوتيرة انفجارية أشد. لقد انغلق هذا النظام على نفسه ولم يعد قادراً على اجراء التعديلات اللازمة لفك هذا الانغلاق ومواكبة التغييرات المجتمعية، إذ أضحت مأسسة حركة الاحتجاج واستيعابها عبر التغيير السياسي التدريجي فرصة منتهية الصلاحية.

في مثل هكذا انغلاق سياسي تصبح تجربة المجتمع العراقي في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي والتي أفضت الى تأسيس النظام الجمهوري عبر ثورة 14 تموز 1958 الأنموذج الذي يمكن أن يقدم المقاربة الأكثر ملائمة، خاصة عند اعتبار التناظر بين الانغلاق في النظام السياسي الملكي على نفسه قبل الثورة والوضع الحالي، وعجزه عن تلبية مطالب أغلبية المجتمع العراقي حينها في التغيير السياسي.

ومن دون الخوض في الجدل واللغط الذي غالباً ما يصاحب عملية تقييم ما أنجزته ثورة 14 تموز، يمكننا أن نستلهم من هذه التجربة أبعاداً إيجابية مهمة بوصفها عملية تغيير سياسي جذري عبر إرادة عراقية وفق برنامج لمشروع وطني أسست له نخبة ثقافية عراقية وتبنته قوى سياسية متباينة وبدعم جماهيري وشعبي كبير. فقد شكل البرنامج الوطني لثورة 14 تموز - الذي تمحور حول سياسات الحياد الإيجابي للتحرر الوطني، والإصلاح الزراعي لانهاء الاقطاع، والشراكة في الوطن للتآخي بين عرب وكرد العراق– نوعاً من الهيمنة الثقافية، أولاً على المجتمع المدني العراقي وأحزاب المعارضة في العهد الملكي المتأخر، ومن ثم على الأنظمة الجمهورية المتعاقبة بعد ذلك – حتى سنة 1979 - رغم اختلافاتها السياسية والأيديولوجية.

إن تحقيق برنامج وطني مهيمن ثقافياً على المجال العام يمكن أن يمثل نوع من الضمانة ضد اختطاف الحكام المستبدين لعملية التغيير الشامل أو الفوضى التي غالباً ما تصاحبها، لكنهكذا تغيير له شروطه ومخاطره أيضاً. فالمشروع الوطني ينبغي أن يقدم حلولاً ومعالجاتٍ تمس جوهر الأزمة السياسية في العراق، ويمثل البديل الواقعي لنظام المحاصصة الطائفية الذي أدى الى الانغلاق السياسي الحالي. كما إن هذا المشروع يجب أن يكون العمود الفقري لجبهة وطنية سياسية عريضة مدعومة من حركة الاحتجاج التشرينية بما يمكن أن يشكل الضغط الشعبي المطلوب للتغلب على نفوذ وسلطة الأقلية الحاكمة نحو إنجاز عملية التغيير السياسي. كذلك فإن تفاقم حالة الانغلاق السياسي بدون آفاق واضحة للتغيير يمكن أن يزيد من احتمالات الذهاب إلى المجهول وإعادة انتاج الأنظمة الاستبدادية ذات الشرعية القاصرة مع ما يصاحب ذلك من حلقة مفرغة من العنف والفوضى والتدمير.

فرص التحالفات السياسية على أساس المشروع الوطني

حالياً، لا يبدو أن هناك فرص نجاح فعلية لمحاولات بناء تحالفات سياسية وطنية عابرة للطوائف تتمكن من فك عقدة الانغلاق السياسي؛فتحالفات أطراف الطبقة الحاكمة نحو «الأغلبية السياسية» لا تحظى إطلاقاً بثقة جمهور ثورة تشرين، حتى لو تم تطعيمها بجهات يمكن أن تمثل قوى التغيير السياسية الناشئة أو القديمة بسبب التجربة المريرة التي مرت بها الحركة الاحتجاجية على أيدي أطراف الأقلية الحاكمة.

أما الممارسات الحالية لأطراف ثورة تشرين والداعمين لها فهي مشتتة ولا يبدو أنها تستوعب مقتضيات المرحلة التي تتضمن تشكيل تحالفات سياسية واسعة تتمحور حول مشروع وطني موحد يمكن أن يحظى بدعم جماهير ثورة تشرين وإسناد بقية المجتمع العراقي الطامح الى التغيير السياسي. فالتحالف بين حركة امتداد وحراك الجيل الجديد يقتصر على العمل الرقابي كمعارضة نيابية، بينما الخطاب السياسي للتيار الديمقراطي بقيادة الحزب الشيوعي العراقي يدعم أي تحول نحو الأغلبية السياسية باعتباره يقدم البديل لنهج التوافقية والمحاصصة، وكل هذا يتجه نحو التغيير التدريجي للنظام السياسي الذي فاتت فرصته.أما القوى التشرينية خارج البرلمان فهي إما لاتزال في طور البناء المؤسساتي والتحضير للاستحقاقات الانتخابية القادمة مثل حزب البيت الوطني، أو تركز على توسيع العمل الاحتجاجي مثل الناشط ضرغام ماجد أو مثل آخرون يسعون إلى محاسبة قتلة المتظاهرين وتطبيق قانون الأحزاب على أطراف الأقلية الحاكمة.

على الرغم من ذلك، فان فرصة العمل على بناء الهيمنة الثقافية لمشروع التغيير السياسي الشامل لا تزال متوفرة، لكنها تقتضي وجود دور طليعي يستثمر العلاقات والتواصل والجسور بين أطراف ثورة تشرين والداعمين له التحفيز الشروع في تنضيج المشروع الوطني المشترك الذي يمكن أن يشكل الأساس للتحالفات السياسية المطلوبة وتحشيد الجماهير الداعمة لهذا المشروع.وهذا بالتالي يتطلب جهة ذات مصداقية وتمتلك النضج السياسي والثقافي للتفاعل الإيجابي مع قوى التغيير السياسية من أجل تطوير برنامج المشروع الوطني وترويجه للجموع المساندة.

وعلى الرغم من أن العديد من أطراف ثورة تشرين والقوى المعارضة للنظام لديها برامج للتغيير السياسي، إلا أن هذه البرامج إما ذات عناوين عامة لا تشكل رؤية سياسية واضحة، أو غير جوهرية تعالج جوانب محدودة فقط من المعضلات الراهنة، أو شديدة التفصيل بحيث تضيع فيها الرؤية السياسية البديلة للنظام السياسي الحالي. إن ما نحتاجه اليوم لدعم عملية الشروع في التغيير هو رؤية سياسية واضحة تلخّص ستراتيجيات الحلول الجوهرية للأزمة العميقة التي يمر فيها العراق، لكن في نفس الوقت تكون معيّنة يمكن استيعابها بسهولة وبديهية بحيث يسهل توصيلها وترويجها بين الجماهير الساندة.

إن مفهوم الأمة العراقية السياسية الواحدة المنتشر حالياً بين قوى سياسية منبثقة من ثورة تشرين وناشطين في الحركة الاحتجاجية،يمكن أن يمثل الرؤية السياسية البديلة لنظام المحاصصة المكوناتية، والتي تشكل الأساس لبرنامج المشروع الوطني للتغيير السياسي.فالدولة السيادية مع حقوق وواجبات المواطنة القانونية المشتركة هي من أهم ركائز الأمة العراقية بمفهومها الحديث، بينما يمثل الانتماء الوطني الجامع المادة الرابطة بين أعضاء الأمة. وهذا بدوره يوفر الأساس لأولويات البرنامج الوطني للتغيير عبر صيانة السيادة الداخلية واحتكار استخدام العنف من قبل الدولة والذي يتطلب إعادة هيكلة القوات الأمنية كافة لضبط السلاح وتطبيق القوانين والتعامل بشدة مع أي تحدي لسلطة الدولة، بالإضافة الى إعلان حيادية العراق عبر توقيع اتفاقات ملزمة مع تركيا وايران والولايات المتحدة لمنع اختراق السيادة العراقية. كذلك يضمن تطبيق النظام اللامركزي للمحافظات والفيدرالي مع إقليم كردستان على أسس سليمةالحقوق والواجبات المشتركة لجميع المواطنين خاصة مع تأمين الغلبة للحكومة الاتحادية فيما يتعلق بالحفاظ على المصالح الوطنية وتطبيق القوانين الاتحادية في مختلف انحاء البلاد، بينما يدعم تعديلُ النظام البرلماني الحالي الى نظام شبه رئاس يعبر تعزيز صلاحيات رئيس الدولة وانتخابه مباشرة من الشعب البعدَ الوطني للسلطة التنفيذية ويعمل على تجاوز المحاصصة المكوناتية.

هذه نماذج من حلول ومعالجات نوعية تمس جوهر الأزمة السياسية في العراق، لكنها مع ذلك غير مستفيضة أو صعبة الاستيعاب، بل تمثل حلولاً بديهية مرتبطة بمفهوم الأمة العراقية السياسية الواحدة والذي يمكن أن تتقبله الجماهير وتتفاعل معه بإيجابية كاطار جامع لأولويات برنامج المشروع الوطني وكبديل منطقي لنظام المحاصصة المكوناتية.إن هكذا برنامج وطني يمكن أن يتطور الى ثقافة مهيمنة على المجال العام في المجتمع العراقي بمختلف مناطقه وفئاته، لأنه يقدم المعالجات لأزمات يعاني منها مختلف العراقيين ويؤدي الى تقوية مؤسسات الدولة وتشجيع الاستثمار وتحسين الاقتصاد والخدمات الذي يخدم مجمل العراقيين سواء في إقليم كردستان أو في الانبار أو في البصرة، إذ أن الجميع الآن يبحثون عن الاستقرار المجتمعي والعدالة الاجتماعية وليس حماية هوياتهم القومية او الطائفية.

في النهاية لابد من التشديد على أن فرصة التغيير التدريجي للنظام السياسي عبر التحالف مع أطراف الأقلية الحاكمة قد انقضت، وإن الفرصة المتاحة الآن – وقد تكون من آخر الفرص – هي للتغيير الشامل وفق برنامج وطني يمثل هيمنة ثقافية في المجال العام. إن الخطوة الأولى في هذا المسار هو طرح وتطوير رؤية سياسية ترتبط بمفهوم الأمة العراقية السياسية الواحدة وتتمحور حول تحصين السيادتين الداخلية والخارجية للدولة والتطبيق الصائب للنظام الفيدرالي وللإدارة اللامركزية مع تعزيز السلطة التنفيذية للدولة العابرة للمحاصصة المكوناتية من خلال النظام الشبه رئاسي.وإذا أردنا للتغيير السياسي الشامل أن ينجح، فينبغي أن تتبنى هذه الرؤية جبهة سياسية وطنية عريضة تعمل على نشرها في وجدان غالبية المجتمع العراقي من إجل إنجاز هذا التغيير.