فوضى البدايات.. كارلو روفيللي يستذكر صفحاتٍ من شبابه

Tuesday 24th of May 2022 11:22:07 PM ,
العدد : 5190
الصفحة : عام ,

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

كارلو روفيللي Carlo Rovelli، بروفسور الفيزياء النظرية وأحد المساهمين في تطوير نظرية الجاذبية الكمية الحلقية، هو أحد العلماء الطليعيين (الشعبيين) في عالمنا.

يُعرَفُ عن روفيللي أنه مؤلف عدد من الكتب التي لاقت شعبية كبيرة ومقروئية عالمية جعلتها تتصدّرُ قوائم الكتب الاكثر مبيعاً على مستوى العالم، كما تُرجِمت لمختلف لغات العالم (العربية واحدة منها). يحاضرُ روفيللي أستاذاً في الجامعة، ويكتب في فلسفة العلم وتأريخه، ويحضرُ المؤتمرات في شتى البلدان، ويكتبُ مقالات في صحف رئيسية في العالم.

إنّ من بواعث متعتي الفكرية العميقة أن أقدّم ترجمة للمقدّمة التي كتبها روفيللي لكتابه المذكور أعلاه (ماهو الزمان؟ ماهو المكان؟) المنشور بالايطالية عام 2004 والمترجم إلى الانكليزية عام 2017، ولم يترجم إلى العربية حتى اليوم. ستزودنا هذه المقدمة بتفاصيل مثيرة عن حياة روفيللي وآرائه قبل دخول الجامعة وبعدها، وسنرى فيها قراءة نفسية لديناميات الرغبة في تغيير العالم والتي يتأجج أوارها في أرواح الشباب ؛ لكن يحصل في معظم الأحيان أن تخالط تلك الرغبة التغييرية نزعاتٌ مؤذية وغير منتجة للفرد ومجتمعه.

العلم له هذان الوجهان: هو أداةٌ لعلاج الأرواح – الشابة بخاصة – من الارهاق الفكري وضياع بوصلة الأهداف المستقبلية التي تستحق الكفاح من أجلها، مثلما هو - وتطبيقاته التقنية - وسيلتنا المعاصرة في تعظيم الثروة والارتقاء بمجتمعاتنا البشرية. هذا بعضُ مانتعلّمه من قراءة أطروحة روفيللي المثيرة.

المترجمة

أقمتُ - بمساعدة مجموعة منتخبة من أصدقائي - محطة إذاعية صغيرة على شاكلة إذاعات (الراديوات الحرّة Free Radios) التي شاعت في تلك الأيام، وأسمينا إذاعتنا تلك (راديو أليس)، وأقمناها في مدينة بولونا. كانت إذاعتنا أقرب إلى (مايكروفون) مفتوح متاح لكلّ من شاء مشاركة الآخرين تجاربه وأحلامه. كتبتُ لاحقاً في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وبمشاركة إثنين من أصدقاء تلك المرحلة، كتاباً يحكي عن قصة ذلك التمرّد الشبابي الذي ساد إيطاليا.

ماحصل بعدئذ كان أمراً مثيراً وبدا عصياً على التصديق. خَبَتْ أحلام الثورة سريعاً، وصار للنظام اليدُ الطولى في حياتي. بدا لي أنّ المرء لايغيّرُ العالم متى ماشاء بطريقة ميسّرة وجاهزة. بدا لي واضحاً بما لايقبل المشاكسة أو الإختلاف أنّ (ماكلُّ مايتشهّى المرءُ يدركه في نهاية المطاف) .

ألفيتُ نفسي أواسط سنوات دراستي الجامعية أكثر إرباكاً وحيرة عمّا كنته من قبلُ، ومافاقم شعوري بالحزن إدراكي بأنّ الأحلام التي تقاسمتها مع شباب معاصرين لي يعيشون في نصف كوكب الأرض باتت تضمحلُّ وتتلاشى رويداً رويداً، ولم يكن لي حينذاك منظورُ بديل عمّا أعتزمُ فعله في سنواتي القادمة. لم تكن فكرةً رائقةً أو مقبولةً لي أن ألتحق بركب السباق في صعود سلّم التراتبية الإجتماعية، أو الحصول على وظيفة مرموقة، أو أن أحصل على مال أوفر يتيحُ لي ممارسة سلطةٍ ما ؛ إذ كانت تلك الأفكار وأضرابها تشيعُ الحزن في نفسي ولم أجد هوى نحوها بأي شكل من الأشكال ؛ لكنْ وراء هذا المشهد الكئيب كان ثمة شيء واحد في مقدوره بعثُ الأمل في روحي: كان العالم بكامله متاحاً أمام قدراتي على المساءلة والاستكشاف والبحث الدقيق. لم يكن بوسع أحد سلب قدراتي الخفية على تخيّل آفاق خفية لاحدود لها تربض وراء المشاهد اليومية التي لطالما بعثت الكآبة في روحي.

صار البحث العلمي بالنسبة لي في تلك الحقبة من حياتي بمثابة فضاء لانهائي من الحرية والمغامرة الاستثنائية سواءٌ تلك التي إختبرها سابقون لي، أو تلك الجديدة التي تنتظرني في مستقبل قريب. لن أنكر أنني درستُ خلال سنواتي الجامعية للإيفاء بمتطلبات الامتحانات و لكي أؤخر – مااستطعت – أداء خدمتي العسكرية الالزامية ؛ لكنّ ماكنتُ أدرسه آنذاك أثار مكامن الفضول والإثارة في عقلي أكثر فأكثر، وكان لايفتأ يدهشني بمناسيب تتعاظم شدتها يوماً بعد آخر. يدرسُ طالبُ الفيزياء في السنة الثالثة من دراسته الجامعية الأولية مقررات عديدة في الفيزياء « الجديدة « للقرن العشرين: ميكانيك الكم، ونظرية آينشتاين في النسبية، وهما الحقلان البحثيان اللذان تسببا في إطلاق ثورات مفاهيمية كبرى ترتّب عليها إعادة النظر بطريقة جذرية في كيفية رؤيتنا للعالم. يتعلّم طالبُ الفيزياء – وهو ماحصل معي – أنّ ذينك الحقلين البحثيين يمثلان تحدياً للأفكار الفيزيائية القديمة حتى لو كانت شديدة الرسوخ والاعتبار وعصيةً على المعارضة، وقبل كل هذا يكتشف طالب الفيزياء أنّ العالم ليس كما ظنّه من قبلُ، وأنّ الأوان قد حان لكي يرى الأشياء بعيون جديدة. كانت سنوات الدراسة الجامعية تلك رحلة عقلية غير عادية أو مسبوقة بالنسبة لي، وكان من نتائجها المباشرة أن استبدلتُ الثورة الثقافية التي كان ميدانها العالم بأسره بأخرى في نطاق الفكر. حصل الأمر من غير إدراك واعٍ من جانبي.

اكتشفتُ نمطاً جديداً من التفكير هو التفكير العلمي، ذلك النمط من التفكير الذي ينشئ قواعد لفهم العالم، ثمّ يعمدُ إلى مساءلة تلك القواعد ويغيّرها على نحو مستديم. هذه الحرية في المساءلة والتحدّي والتغيير، وهذا المسار الحر في السعي إلى المعرفة، هو من الأمور التي ظلت على الدوام مصدر إثارة مستديمة لي. إنه الفضول فحسب ذلك الذي ملأ كياني بالإثارة والدهشة والسعي الحثيث، مضافاً له ماوصفه فيدريكو سيزي Federico Cesi، صديق غاليليو، بأنه « الرغبة الطبيعية في المعرفة «. هذان الأمران: الفضول والرغبة الطبيعية في المعرفة، هما اللذان جعلاني أجد نفسي - بعد ضياع طويل في متاهة لانهائية – منغمساً في معضلات الفيزياء النظرية. الغريبُ أنّ الامر حصل من غير أن ألحظه أو أتابع مجريات تطوره ومآلاته اللاحقة.

هكذا إذن وُلِد ولعي في الفيزياء. جاء محض صدفة ووليد فضول أكثر من كونه خياراً واعياً من جانبي. عندما كنتُ طالباً يافعاً حقق أدائي في الفيزياء والرياضيات مستوى جيداً ؛ لكنّ ولعي بالفلسفة فاق ولعي بالفيزياء والرياضيات. لعلّ الكثيرين سيتساءلون عن السبب الذي جعلني ألتحق بقسم الفيزياء في الجامعة بدلاً من قسم الفلسفة كما هو متوقّعٌ من طالب أجاد الفلسفة وولع بها في دراسته الثانوية؟ إليكم جوابي الذي سيدهشُ كثيرين: كانت ثقتي معدومة بالمؤسسات الحكومية الراسخة (ومنها الجامعات)، ورأيتها أقلّ شأناً وقدرة على تناول الموضوعات الفلسفية المتّسمة بالجدّة والصعوبة والأهمية !!.

عندما تصادمَتْ أحلامي بشأن إقامة عالم جديد مع حقائق الواقع الصلبة تزايد حبي للعلم الذي وجدتُ فيه إمكانية لإستكشاف عوالم جديدة لانهاية لها، وحيثُ يمكن للمرء المضي في مسار مشرق وحر من البحث في كلّ مايحيط بنا في العالم المادي.

صار العلم - على النحو الذي وصفته أعلاه – نوعاً من حلّ وسطي ينطوي على مخرج توفيقي لما أسعى إليه في هذا العالم ؛ فقد أتاح لي العلم إمكانية عدم التخلّي عن رغبتي الجامحة في التغيير والمغامرة، وكذلك أتاح لي الحفاظ على حرية تفكيري وبلوغ كينونتي الحالية التي أسعَدُ بها، والاهمُّ من ذلك أنّ كلّ هذه العناصر الايجابية الدافعة في حياتي حصلت من غير اللجوء إلى فتح جبهة معركة صراعية مع العالم. ماحصل هو العكس تماماً ؛ فقد برهن عملي في العلم أنه فعالية هي موضع احترام وتقدير من جانب العالم.

أعتقدُ أنّ معظم المنجزات الفكرية أو الفنية الخلاقة إنما تولدُ من لُجّة هذه الحالة الصراعية (بين الأحلام والوقائع الصلبة على الأرض، المترجمة)، وليست المنجزات الفكرية والفنية سوى نوعٍ من الملاذات الآمنة التي يلجأ إليها أولئك الأشخاص ذوو القدرات الكامنة ممّن ليسوا على وفاق مع مجتمعاتهم ؛ ولكن برغم هذا فإنّ المجتمعات تبقى في مسيس الحاجة لأمثال هؤلاء الذين يخالفون صورة (النموذج المتوافق) من الأشخاص. تعيشُ مجتمعاتنا نوعاً من التوازن Equilibrium: ثمة - من جانب - تلك القوى التي تضمنُ إستقرارية ودوام المجتمعات وتكبحُ الفوضى من أن تدمّر مااكتسبته المجتمعات وصار إرثاً ثميناً لها، وفي الجانب الآخر توجد تلك الرغبة الدفينة غير القابلة للاضمحلال والتي تسعى للتغيير والعدالة وإزاحة الأنماط المجتمعية الراسخة لإدامة عوامل التطوّر والمضي الحثيث إلى الأمام، ومن الواضح أننا من غير هذه الرغبة في التغيير فإنّ الحضارات المدنية ماكان لها أن تنمو وتبلغ مابلغته اليوم من رقي وتطوّر. أعتقدُ أنّ الرغبة في التغيير والتي تملأ جوانح الأجيال الشابة هي المصدر الأول لتطوّر المجتمع حتى لو نتج عنها أفاعيل جامحة غير مرغوب فيها. لو كان المجتمع في حاجة لأناسٍ منضبطين يحافظون على النظام والاستقرار ؛ فهو بالقدر ذاته يحتاجُ أناساً يعيشون أحلامهم ويسعون لتحقيقها، ويعدّون أنفسهم لإكتشاف عوالم جديدة، وأفكار جديدة، وطرق جديدة في النظر إلى الأشياء، ومقاربة جديدة في فهم الواقع. الناس الذين عاشوا أحلامهم في الماضي هم وحدهم الذين إمتلكوا القدرة على التفكير وتشكيل عالمنا على النحو الذي آل إليه في عصرنا الحاضر، ولن يكون المستقبل سوى صناعة تتكفل بها أحلام جديدة ينهض بعبئها أفراد طموحون يعيشون الحاضر.