الدولة و فرضية عنق الزجاجة

Tuesday 24th of May 2022 11:30:58 PM ,
العدد : 5190
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د. إسماعيل نوري الربيعي

في جوف الملتبس و المهتريء، و العقيم البليد، و التداعي و التنائي، و الصراع السادي المتوحش حول السطوة و الهيمنة، يتعرض مفهوم الدولة في الفضاء العراقي للرضة و الانكسار و الانقطاع و الانفصام.

حيث الانحلال على أشده و الانفضاض وقد تغوّل، و التفرّق و قد أضحى سيدا للمواقف، و الانفلال بات الحاضر الأهم، و الانهزام وقد غدا قرينا لأي نشاط ممكن. و التحطم سّيدا و التجزوء مرتعا، و الخوار يقينا، و الضعف إيمانا، و الفتور إدراكا، و الاخفاق بصيرة، و الاستسلام ثباتا، و الانفلال دراية، و الانهزام فقها، و الخيبة قطعا و الاندحار معرفة. حتى اختلطت المعايير و المعاني، و غاب الجوهر، و بات الحق و الصواب يعاني الانجذاذ و الانقطاع. كلٌّ يسعى لمناوئة الكل، بعد أن تعرشت في الواقع أحوال العداوة و البغضاء و الخصومة و الاقصاء و التهميش و الكشح.

ماكس فيبر يعمد إلى تحديد صورة الدولة، بوصفها؛ (نظام إداري و قانوني) يتم من خلاله تنظيم و تكييف عمل السلطة التنفيذية، داخل اقليم محدد بناء على ممارسة الهيمنة الشرعية. العلاقة هنا تقوم على أن الدولة تتبنى مسألة (تعديل النظام) استنادا إلى توظيف القانون في (توجيه الممارسات) الخاصة بالجهاز الإداري التنفيذي. الأصل هنا ينطلق من مكنونات أهمية الوعي بالنظام الموّجه نحو توفير الخدمة العامة للمجتمع، بعيدا عن الانحيازات و التقسيمات، استنادا إلى حق ممارسة الهيمنة و السطوة و العنف الشرعي، سعيا لتوضيح ابعاد السيطرة على المجمل من السكان الذين يشكلون جسد الدولة، انطلاقا من الوعي الجوهري بفكرة الاستقلال الصريح و المكين. دولة تتفشى سطوتها و سلطتها في المجمل من التفاصيل، في أدقها و أهمها، في التافه منها و الهزيل. في الكبير و الصغير، و العظيم و الحقير. في المهم و الأهم و الأكثر أهمية. في الغزير و الشحيح، في الجزيل و الضئيل، الجم و القليل، العديد و المنقطع، الغفير و الممتنع، الفائض و المنحبس، الكثير و النزير، المتتابع و الزهيد، المتدفق و الطفيف. دولة مسؤولة عن المجمل من النشاطات و الممارسات و التوجهات و التجليات و المجالات الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية و السياسية. نظام يتجلى في السياسات الناظمة للتعليم و الصحة و الخدمات و الدفاع و الأمن و توفير سبل العيش الذي يكفل حق الإنسان في المأكل و المشرب و السكن و تأمين الحقوق دون منّة أو مكرمة من أي طرف أوجهة. دولة تستطيع أن تكشف عن أهميتها و قدرتها على التعاطي الفعلا من خلال الملاحظة البسيطة غير المتكلفة لــ المرافق الصحية في صالات المطار الدولي؟! دولة تنهض بدورها في تحقيق حاجات الناس الأساسية، دون الانحدار في وهدة تداخل المعاني، لتجعل من الحقوق و كأنها الأحلام المستحيلة؟! دولة يتحصن بها الإنسان بوصفه كائنا يحوز على الحضور الشرعي و القانوني و الإداري.

إنها أحوال الحضور الكثيف لثنائية (الوجود و الوعي) حيث الوجود الذي تتبدى به الدولة، بإزاء الوعي بمعناها و أهميتها و طريقة تأثيرها في الواقع. وجود يقوم على (فعالية التحديد) للأدوار المفترضة للمجمل من أدواتها و أجهزتها و مؤسساتها، بإزاء (فعالية التأثير) العميق و الجاد و الجوهري الذي تقوم عليه ممارسة الأطر القانونية و الإدارية، التي تشكل الأصل و المبتنى الدال و العميق الذي تنهض من خلاله الدولة بواجباتها. دولة لا يمكن لها أن تتبدى قسماتها الفارقة، دون أن تتمثل التشكيلة الاجتماعية ببنيتيها (التحتية و الفوقية). سعيا نحو الاندراج الفعلي و المؤثر في صلب الممارسة السياسية. ممارسة تنطلق من طريقة الوعي و الإدراك العميق لمفهوم القوة و التفصيلات المتعلقة بها، من حيث الترشيد و التمكين و التنمية المستدامة و كل ما يتعلق بالمضامين التامة و السليمة و الصحيحة، حيث التوجه نحو تقنين عتوّ القوة و تخفيض الافراط باستخدامها من خلال المسعى نحو ارساء معالم الشرعية.

حسنا، عن أية شرعية ممكنة يكون الحديث؟ دعونا نعود إلى ماكس فيبر و كيف تطلع نحو معالجة مفهوم الشرعية، الذي يتنافح به الجميع بافراط لافت. و لاضير من التوقف عند جملة من المفاهيم التي يتسرب في مضمونها المزيد من التداخل، و الزعم و الادعاء في الكثير من الأحيان. و لنتوقف عن طريقة تحديد العلاقة القائمة بين؛ القوة (السلطة) و مستوى التعاطي مع الحقوق و الواجبات؟ بين السلطة و طريقة تفاعلها مع القانون؟ مع الديمقراطية بوصفها ممارسة أم مجرد شعار يتم التنادي به بغزارة مريعة؟ مع الجهاز الإداري و المؤسسات العاملة التي تشكل العصب و المكون الجوهري لعمل الدولة؟ وسط هذه الأسئلة يتبدى دور (الحزب السياسي) الذي يعرّفه ماكس فيبر بأنه (جهاز اجتماعي تطوعي، يساعد القيادة في تحقيق الأهداف. الأعضاء فيه على منافع فردية).

من واقع التأمل في المجال العراقي تبرز هيمنة الروح الحزبية على المجمل من الفعاليات السياسية، حتى باتت مفردات مثل؛ الكتلة السياسية، زعيم الكتلة، تحالف الكتل. تحتل الأكثر شيوعا و تداولا في الواقع البرلماني العراقي. حتى انحسرت المفاهيم و لم يعد يستبان منها سوى الظلال الكئيبة لــ (الكتل قراطية)، حيث التصحيف الأكثر وقعا في وصف تلك الظاهرة المريعة و المقيتة. التي راحت تمارس السطوة و الهيمنة على المجمل من الفعاليات و التفاعلات و الممارسات المتعلقة بعمل البرلمان و الدولة و السلطة، هيمنة تتجذر في صميم ممارسة (المحاصصة الطائفية). الأمر الذي أحال الدولة و البرلمان إلى مرجل ما انفك يغلي، سعيا للتسابق المحموم من أجل السيطرة على تلك الوزارة أو هذه المؤسسة، لتشكل مركز قوة للتفاوض بإزاء الطرف الآخر، سعيا نحو امرار الصفقات الحزبية و تحقيق أهداف الكتل على حساب الدولة و المواطن. دولة راحت تتوجه بكل ما فيها نحو ترسيم معالم (حكم الأقلية)، عبر الاستثمار الموجع و المقلق لمفهوم الديمقراطية المفترى عليها ظلما و عدوانا.