لماذا “بيان 3 حزيران”؟!

Tuesday 7th of June 2022 11:27:40 PM ,
العدد : 5200 (نسخة الكترونية)
الصفحة : آراء وأفكار ,

 خالد مطلك

عرفت البشرية منذ انبثاق مفهوم الدولة؛ طريقتين لتداول السلطة: الأغتيال والتوريث، فلدينا قائمة طويلة تضم عدداً كبيراً من الملوك والأباطرة والزعماء، الذين قطعتهم السيوف، أو الذين قتلوا صبراً بطرق وحشية ليخلفهم من هم أكثر وحشية وقسوة.

في عصر الأنوار، أطل علينا فلاسفة أفذاذ، قالوا بعبارة جديدة هي: “الفصل بين السلطات” وكان كتاب “روح الشرائع” لمونتيسكيو يمثل أول مدونة بشرية تقول بهذا المبدأ، والتي تعزز حضورها بفعل مقولات روسو وهيوم ولوك وسواهم.

ومبدأ “الفصل بين السلطات” يهدف الى تعزيز التداول السلمي للسلطة، من خلال توزيعها على ثلاث جهات: التشريعية والتنفيذية والقضائية. ومن تلك اللحظة، ظهر الفرد القانوني الذي تحكمه التشريعات والقوانين واللوائح والأنظمة، وليس بطش الأشخاص المصابين بعظامات وفصامات وسايكوباثات الحكم.

وأصبح مفهوم الفصل هذا من بديهيات الأمور، وهو لحد الآن، أفضل وسيلة عرفتها الإنسانية للحد من طغيان الحكام.

والسلطة القضائية هنا، هي المظلة التي تحمي الدساتير من عبث ومزاج السياسيين، وتحتكر حق تأويل النصوص والسعي الى تمريرها بعيداً عن مزاجياتهم وخصوماتهم الشخصية.

في العراق، بعد سقوط النظام السابق، وبإرادة من المحتلين بشكل رئيس، تم رسم الشكل الجديد للدولة، أو ما بات يعرف ب “ العراق الجديد” على وفق هذا المبدأ. بالطبع، شهدنا فوضى كبيرة يمكن تفهمها بسبب التربية السياسية الرديئة للذين تصدوا للحكم، ورافقها، عرضياً، هامش جيد من الحريات، وصفها “بيان ٣ حزيران” بأنها ليست نابعة من إيمان اعضاء الكائن الهجين الذي نطلق عليه الطبقة السياسية، بل لإنشغالهم بملفات أخرى؛ هي النهب واشاعة الفساد الإداري والمالي كثقافة تجتاح مفاصل الدولة والمجتمع على حد سواء، من خلال العمل على تأسيس مافيات، تستغل موارد البلد، نطلق عليها اصطلاحاً “ الفصائل المسلحة” أو الميليشيات، وهي تسميات مظللة لأن كلمة (عصابات) هي المفردة المناسبة بتقديري.

في أثناء ذلك، غاب دور الإدعاء العام، وتحول القضاء نفسه إلى مشكلة، وأحيانا إلى اداة يستخدمها من يتمكن من تدجينها لصالح نواياه الشخصية أو الحزبية. وحدث احياناً أن تم نقد الممارسات القضائية، وحتى التظاهر ضدها مرات من قبل ناشطين ومدونين ومهتمين بالشأن العمومي.

مؤخراً، تخلص الجهاز القضائي ممثلاً بالسيد فائق زيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى، من حياة التبعية والحيادية الشكلية، وتحول بنفسه إلى لاعب سياسي، يحتكر سلطة تأويل النصوص، وهشاشة القوى من حوله التي تشكل البرلمان، ليؤدي دور الشخص الأول في البلاد، لدرجة أن اسمه طرح كثيراً كمرشح ساخن لرئاسة الوزراء. وربما، ومن أجل ذلك، وطدّ علاقاته خارج حدود الدولة، وفي الجهة التي يعرف الجميع أنها لاعب مهم في صناعة الطبخة النهائية لإنتاج من يحكم في بغداد. سافر للقاء مسؤولين أجانب، واستقبل في مكتبه شخصيات أقليمية، هي في الغالب، ليست نظيرة له في المنصب، كما تقتضي الأعراف الدبلوماسية في العادة.

شيئاً فشيئاً، تحول إلى ما يشبه سلطة “ولاية فقيه” تمتلك حق الفيتو - ضد أو مع - هذا الطرف أو ذاك.

من هنا، أصبح الرجل تحت الضوء الساطع، ومن هنا أيضاً، كان لابد أن ينال حصته من النقد المباشر في وسائل الأعلام، ومن قبل صحفيين وكتاب وناشطين، مثله مثل الرؤوساء الآخرين وزعماء الكتل والوزراء. غير أن الرجل الذي استخدم سلطة القضاء ضد اطراف “سياسية” استدار ليوجه سلطته هذه المرة ضد الشعب عبر التلاعب اللغوي بمقاصد النصوص، ومحاولة اضفاء القداسة على مؤسسة “القضاء” بعد أن تمكن من دمج ذاته كموظف خدمة عامة بمفهوم القضاء الشامل، فبدا كما لو أنه و” روح الشرائع” شيئاً واحداً متعالياً ومنزها عن النقد، وأن من يتجاوز هذا الخط الاحمر، مصيره مذكرة القاء قبض فورية، تستمد شرعيتها من قوانين النظام السابق التي لم يجر الغاءها بعد. وكلنا نعرف أن صدور مذكرة قبض يكون فيها السيد زيدان طرف المشتكي، تعني ضياع حاضر، وربما مستقبل من تتوجه نحوه هذه المذكرة، إذا لم يقرر العيش بعيداً عن بلده، الذي كفل له دستورها حزمة حريات متواضعة، تحولت، وللأسف، الى فخ لمطاردته والقبض عليه.

في أثناء هذه التطورات، كان عدد غير قليل من المثقفين والأكاديميين، يبدون تردداً تجاه نقد الجهاز القضائي بالعمق، لأنهم ولمعرفتهم أهمية هذا الركن الثالث في بناء الدولة من جهة، والحفاظ على مستوى ما من الحريات من جهة أخرى، فهم لم يتصدوا بقوة لبعض الاخفاقات في هذه عمل الجسد القضائي، كما هو دأبهم في نقد المؤسستين التنفيذية والتشريعية، غير أن الأمور بلغت حداً صار يهدد آخر آمالهم في الوصول الى “دولة الدستور «.

بصراحة، وفي ما يتعلق بي شخصياً، كنت راغباً عن التورط في أي عملية نقد عقيمة. وكنت أكرر، أن النقد هو ممارسة تقويم الأخطاء يرتكبها سيستم حكومي، ولكنه غير مجد لتقويم الكوارث. لأنني أدركت مع كثيرين، ومنذ وقت مبكر، أننا بإزاء ماكنة عملاقة لأنتاج الكوارث الوطنية.

غادرت منصة الكتابة في الشأن العام، وتفرغت للكتابة في المجالات التي أحب تحديداً، حتى ولادة “بيان ٣ حزيران” وهو بحق وثيقة تاريخية تنم عن وعي عال بضرورة التصدي للممارسات التي تجدها مضرة بسلامة المجتمع. تبنيت الورقة على الفور، ثم تركت عليها توقيعي، ليس لايماني بأنها قادرة على أصلاح خراب الدولة، بل، لأنها تحمي ذلك الهامش المتواضع من الحريات، الذي هو أغلى ما حصل عليه الناس بعد سقوط النظام السابق، وهو الأمل الوحيد المتبقي لهم في حقهم بالحلم،. فالتوقيع على هذه الوثيقة، من هذه الناحية، هو دفاع عن حلم ربما لن يتحقق أبداً.

بيان ٣ حزيران، هو رسالة احتجاج موجهة للسيد رئيس مجلس القضاء الأعلى تحديداً: إن الشعب هو مصدر السلطات، هل لديك مذكرة لإلقاء القبض على روح هذا الشعب؟