لا فلسفة في المدن الجاهلة

Tuesday 21st of June 2022 10:27:37 PM ,
العدد : 5210
الصفحة : آراء وأفكار ,

 عبدالكريم يحيى الزيباري

ولا علوم ولا أدب ولا مسرح ولا فنون. اليونانيون شيَّدوا مدينتهم الإلهية في الأولمب كنظامهم السياسي. الفارابي عَكَسَ فكرتهم، وشيَّدَ مدينته الفاضلة كفكرهِ الإلهي الديني الحراني الهرمسي باعتماد فكرة الفيض، واشترطَ للصلاح السياسي صلاح المعتقدات الدينية الفلسفية.

وفي خاتمة فص37، (القول في المدن الجاهلة) من كتابه (المدينة الفاضلة) كتب الفارابي (جنس رأي مَن يرى أنَّ كلَّ ما نعقل اليوم مِن شيء، فقد يمكن أنْ يكون ضدُّه ونقيضه هو الحقَّ... فيلزم من هذا ألا يصحَّ قولٌ يُقال أصلًا، وأن يصحَّ جميع ما يُقال، وألا يكون في الكون محالٌ أصلًا... وبهذا الرأي وما جانسه تبطل الحكمة، وتجعل ما يرسم في النفوس أشياء محالة على أنها حقٌّ). مثقفو الطوائف، مثقفو الإيديولوجيات الجامدة، يستخدمون أعنف الأساليب وأغبى التبريرات من أجل تكييف المعنى الحرفي لمقولات القائد أو أشعار رئيس التحرير السكير مع كلِّ حقيقي وجميل!

إذا ناهَضْتَ السلطة، سيقولون لك، لا تتفلسف، لا تتفلسف. لكنها الفلسفة نقد، وواجبها الرئيس مُناهضة السلطة، ومن مقومات السلطة القوية، وجود فلسفة قوية تناهضها.

إذا خاطبتَ شويعراً في وقتٍ غير ملائم، جلسَ جائعاً، وما ذاق طعمَ كرسيِّ رئيس التحرير إلا في أواخر حياته، ستكون ارتكبتَ ذنباً لا يمكنُ لأحدٍ تقدير أبعادهِ. إذا ناهضتَ سلطة الروائي الذي يرى نفسه فوق النَّقد لأنَّ صديقه الشويعر فاز مؤخراً بكرسي رئيس تحرير، أو لأنَّ صديقه عميد كلية الآداب استضافه في ندوة! سلطة المثقف الذي يجيب كل الأسئلة بلا أدنى تردد. وكذلك السياسي والإعلامي والأكاديمي، وخاصةً أصحاب العمائم، ليس في قاموسهم: كلمة لا أدري، وفي الحديث الصحيح (أنَّ رجلًا سألَ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أيُّ البِقاعِ خيرٌ؟ وأيُّ البِقاعِ شرٌّ؟ قالَ لا أَدري حتَّى أسألَ جبريلَ عليهِ السَّلامُ فسألَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقال لا أدري).

إذا فاجأتهم بفكرة جديدة، كهنة المعبد الثقافي ذوي المناصب، الباحثين عنها المحلقين حولها طَوال أعمارهم، الذين اعتادوا التقليد والتحذلق، لا تتفلسف، لا تتفلسف.

إذا حاولتَ دفعهم للتفكير، أو شرحَ فكرةٍ ما، أو الحديث عن آخر كتابٍ قرأته. لم تصلنا الثورة الديكارتية بعد، نعيش بلا فلسفة، بلا تفكير، لا يتقدم وعينا ولا يتلاءم مع واقعنا، نحن فقراء بلا منجزات غير أمجاد الماضي.

يجب أنْ نفكِّر كيف لنا الخروج من الوعي الأسطوري، رغم غياب البيئة الملائمة للتفكير، رغم غياب الحافز الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، رغم تخلف العامل التربوي والتعليمي، رغم الفساد والانسداد السياسي. رغم كلِّ شيء يجب أنْ نُفكِّر فبالتفكير وحده، يتمايز الإنسان عن عالم الغابة.

الفلسفة نقد الأفكار القديمة البالية البائن ضررها، وابتكار الجديدة النافعة، لكن الأفكار القديمة يحرسها الكَاهن القائل كما (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، وما زالوا يتمتعون بالطاعة العمياء من عبيدهم أو مريديهم أو أتباعهم (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)، ولأنَّ الفلسفة تُشكِّكُ بالطاعة العمياء، سيصرخون وتردد الجوفة وراءهم: لا تتفلسف، لا تتفلسف.

لا تتفلسف، وتذكر جيداً، قديماً قتلوا سقراط بالسم 300 قبل الميلاد، وأحرقوا جوردانو برونو 1600، لأنَّ الفلسفة تحولت مجرد ثيولوجيا محصورة بمحولات إيجاد تفسير عقلاني لنصوص الكتاب المقدس، وظلت كذلك طوال العصور المظلمة. لكن بعد ذلك أيضاً فقد سجنوا بيرتراند راسل لموقفه ضد الحرب العالمية الأولى وفصلوه من منصبه كأستاذ في جامعة كامبردج، وسجنوه ثانيةً عام 1961، لموقفه ضد الأسلحة النووية.

الفلسفة الحديثة كلها نقد، ونحن نعيش بلا نقد للنظام الفاسد وقادته الحمقى أصحاب التفكير ضيِّق الأفق، النظام المتأنِّق البَّاذخ على حساب الفقراء واليتامى والأرامل، النظام الممسوس بتناول ألذِّ الأطعمة والأشربة، المهووس بشراء أغلى وأفخر السيارات والأثاث والساعات والأسلحة والملابس والأحذية وهوس الوصول إلى أبعد وأغلى العيادات الطبية!

قادته الحمقى، الذين لا يقارن أحدهم نفسه بأكبر عالمٍ أو فيلسوف، لكنه أبداً لم يقرأ عن مجمَّع معبد دلفي وسبب اختيارهم سقراط أحكم الرجال، لحكمته القائمة على علمه الشديد بجهله.