تأسيسان للدولة العراقية الحديثة:1921 و 2003 (تشابه بالتأسيس وتباين في النتائج)

Monday 18th of July 2022 10:45:55 PM ,
العدد : 5224
الصفحة : آراء وأفكار ,

 عبد الحليم الرهيمي

(2-2)

وخلال هذه الظروف والاوضاع ونتائجها بوشر البدء للتأسيس الثاني للدولة العراقية، فبعد الفراغ السياسي والاداري الذي حصل في اعقاب التدخل العسكري كلف الرئيس بوش في ايار/ مايو 2003 الدبلوماسي بول بريمر كحاكم مدني في العراق والذي ساهم مع الاخضر الابراهيمي ممثل منظمة الامم المتحدة وبالتنسيق مع سياسيين عراقيين من المعارضة ومن شخصيات من الداخل على تشكيل (مجلس الحكم)،

من 25 عضواً على اساس نسب محددة ممثلة للكيانات السياسية الدينية والعرقية والمذهبية، وهنا يمكن تشبيه مجلس الحكم بحكومة عبد الرحمن الكيلاني بأعتبارها خطوة اولى لأقامة ادارة (حكومة) عراقية تستكمل بأقامة الادارات والموسسات اللازمة للتأسيس الثاني للدولة. وقد تحقق ذلك باقامة حكومة مؤقتة برئاسة اياد علاوي التي غادر بعدها بريمر العراق ثم تشكيل حكومة انتقالية برئاسة ابراهيم الاشيقر (الجعفري)، ثم تلا ذلك انتخابات الجمعية الوطنية لأقرار الدستور ثم اجراء الدورة الاولى لانتخابات البرلمان الذي شكل الحكومة الدائمة، ثم تكررت الدورات الانتخابية وتشكيل حكومات على اساس اتفاقات طائفية وعرقية شابها الكثير من التلاعب والتزوير حسب شهادات الكثير من المنظمات المحلية والدولية المعترف بها.

كان المساران اللذان اتخذهما التأسيس الاول والتأسيس الثاني للدولة العراقية واتسما بالتشابه والتباين في ظروف التأسيس توصلا الى نتائج مختلفة التي يمكن تحديدها ومعرفتها، لكل منها خلال العقد الاول من التأسيس. وأذ ادى ما استند عليه التأسيس الاول من قواعد وأجراءات الى التمهيد لبناء دولة عصرية متقدمة خلال الاربعة عقود التالية، اي حتى عام 1958، فأن ما استند اليه التأسيس الثاني من اخطاء ورؤى قاصرة لبناء دولة أنشأت على اسس وقواعد طائفية وعرقية وأفتقاد الكفاءات العلمية والكوادر التي يتطلبها السعي لبناء الدولة إذ جرى بأبعاد وعزل الكثير من الكفاءات والكوادر، بمختلف الذرائع والاسباب، وذلك خلافاً لما قامت به قيادات التأسيس الاول بالاستفادة من الكفاءات والكوادر المحلية واخرى عربية (سورية ومصرية)، والتي لعبت دوراً كبير الاهمية في بناء الدولة منذ التأسيس وفي المراحل اللاحقة وقد ادى كل ماحصل من أخطاء في بدايات التأسيس الثاني الى ان ينتج دولة فاشلة ينخرها الفساد المتفشي بأجهزة الدولة والمجتمع حيث عجزت عن تحقيق ماكان يعد به التغيير بعد التحرير من بناء دولة عصرية متقدمة ومزدهرة خلافاً لما حصل خلال العقدين الماضيين اي منذ 2003 وحتى الان، لقد وقعت تجربتي التأسيس للدولة العراقية الحديثة بأخطاء أثرت عل مسارها وشكل بنائها التالي. وإذ لم تؤثر الأخطاء القليلة للتأسيس الاول كثيراً في مسارها وبنائها حتى الاطاحة بها والغائها عام 1958، فإن الاخطاء الكبيرة والكثيرة للتأسيس الثاني في بدايته وفي المراحل التالية قد أدت الى ما هو عليه الان من وضع تخلف وعجز وفشل على مختلف الصعد السياسية والعمرانية والاجتماعية والثقافية والخدمية وانعدام الأهلية والنزاهة لكثير من الذين تصدوا لقيادتها وإدارتها.

كانت اخطاء التأسيس الاول على قلتها، وعدم تأثيرها الكبير على هذا التأسيس والمسار التالي لبناء الدولة، قد تمثلت بـاستمرار السلطة الجديدة والفتية آنذاك بممارسة نهج الملاحقة والمساءلة للمعارضين والمعترضين على سياساتها دون السعي لمحاورتهم ومصالحتهم، وبما ويقابل ذلك خطاً المعارضين انفسهم بعدم ابداء الاستعداد للتفاهم مع السلطة ومحاورتها حفاظاً على السلم الاهلي والبلاد، فضلاً عن عدم استطاعة السلطة تفهم مطالب الكرد والمعارضين الشيعة وخاصة بعض الزعماء ورجال الدين ورؤساء العشائر الذين يشعرون بالغبن وعدم انصافهم والسعي الجاد لاحتوائهم ودمجهم في المجتمع ودفعهم للمشاركة في بناء الدولة.

اما اخطاء التأسيس الثاني التي بدأت تبرز منذ البدايات الاولى لإعادة بناء الدولة، وتضخمت واستفحلت في المراحل التالية فقد تمثلت بحل الجيش بقرار اتخذه بول بريمر في ايار/ مايو 2003، رغم ان الجيش انفرط عقده وحل تلقائياً مع بسط قوات التحالف الدولي وخاصة الامريكية ـ البريطانية سيطرتها على العراق، وكانت اسباب ودواعي الحل برغبة ودفع من قوى سياسية من احزاب كردية واخرى موالية لإيران وكل لأسبابه، وكان لمجلس الحكم والحكومات التي اعقبته أن يبقي على الجسم الاساسي للجيش وبنيته وتطهيره من القيادات والعناصر الفاسدة والسيئة التي الحقت اضراراً بالعراق وشعبه، وكان يمكن اتخاذ اجراءات مماثلة دون حل الاجهزة الامنية باستثناء تلك التي لعبت دوراً قمعياً شرساً ضد العراقيين وفي الدفاع عن النظام الدكتاتوري ورئيسه، أما الخطأ الثاني فهو اصدار قرار (اجتثاث البعث)، الذي كان فيه الكثير من الاجحاف لمئات الالاف من العراقيين ومن الكفاءات الذين كان يمكن احتوائهم ودمجهم بالمجتمع وابعاد ومحاسبة الذين تثبت عليهم تهم الفساد وقمع الشعب العراقي خلال الحكم الدكتاتوري (وقد تم اعادة الكثير منهم الى مواقعهم في مؤسسات الدولة بعد مساومات بين كتلهم السياسية وبعض رؤساء الحكومات)، اما الخطأ الثالث فقد تمثل في ابعاد وعزل الكثير من الكفاءات والكوادر المؤهلة بتهم أنتسابهم لحزب البعث، دون تهم محددة ولم تشمل ب(صفقات)، الاعادة. اما الخطاً الرابع، فتمثل بكتابة دستور 2005 والمصادقة عليه بالاستفتاء بعجالة ودون مساهمة واخذ رأي الخبراء وذوي الأهلية في القانون وكتابة الدساتير وتمت الاستعاضة عنهم بأشخاص (سياسيين)، ورجال دين غير مؤهلين، لذلك اتسم الكثير من مواد هذا الدستور بالطائفية والعرقية ومواد اخرى لاتساعد في بناء عراق ديموقراطي متقدم، واخرى تمنع تعديله لاحقاً.

اما الخطأ الخامس فقد تمثل في سعي احزاب وتيارات الاسلام السياسي الشيعي والسني للهيمنة على السلطة وتعميم افكارها وايديولوجياتها على الدولة والمجتمع، وأتهام بعض رموزها بالتلاعب بالانتخابات وتزويرها في بعض الدورات وذلك لاستمرار تصدر شريحة سياسية طائفية عرقية للمشهد السياسي والتحكم به لمصالحها الخاصة والحزبية والفئوية.

اما الخطأ السادس فقد تمثل في عجز الحكومات المتعاقبة منذ بداية التأسيس الثاني على مكافحة الفساد المالي والإداري وعجز البرلمان بدوراته الخمس عن تشريع القوانين الصارمة التي تمنع وتحد هذه الظاهرة التي تفشت بمؤسسات الدولة والمجتمع طيلة السنوات الماضية، فضلاً عن الهدر والفساد المالي واستنزاف موارد الدولة والمشاريع الصناعية والتعليمية والصحية والثقافية الذي حصل ـ ومايزال ـ في عهد جميع الحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ بدايات التأسيس الثاني، وهذا ماادى الى وصف الدولة العراقية بالفاشلة تبعاً لتقارير دولية ومحلية رصدت الحالات الواقعية للاوضاع في العراق على مختلف الاصعدة.

ان الخلاصة التي يمكن استنتاجها من التأسيسين الاول والثاني هو ان التأسيس الاول الذي بدأ من الصفر استطاع ان يبني دولة عصرية متقدمة رغم الثغرات والاخطاء، اما التأسيس الثاني الذي بوشر به والعراق يمتلك امكانات كبيرة في الموارد والاقتصاد والطاقة البشرية والكوادر والكفاءات العلمية فقد عجز، بعد ان اطاح بالدولة التي سبقته، من اقامة دولة عصرية وحديثة كالدولة التي اسسها وبناها التأسيس الاول، لاسباب رئيسية منها توفر القيادة السياسية المؤهلة والنزيهة خاصة في فترة الملك فيصل الاول، ومنع تفشي الفساد، رغم قلته او انعدامه خلال العقد الاول للتاسيس الاول الذي وضع العراق على سكة البناء والتقدم والاعمار على مختلف الصعد خلال اربعة عقود، أسست عليها العقود التالية ابتداءاً ثم الخراب وانهيار الدولة ومواردها بسيطرة النظام الدكتاتوري على الحكم الذي اطيح به في 2003 والتعثر الكبير والعجز عن تأسيس دولة ديمقراطية عصرية راشدة وهو الهدف الاساسي للتحرير والتغيير على نقيض ذلك الحكم.