نهاية الحياة وفقدان الذاكرة في رواية أوتسوكا عن الشيخوخة

Tuesday 27th of September 2022 11:51:22 PM ,
العدد : 5273
الصفحة : عام ,

ترجمة:عدوية الهلالي

في روايتها (خط السباحة) الصادرة عن دار غاليمار الفرنسية للنشر،تستكشف الروائية الامريكية من اصل ياباني جولي أوتسوكا نهاية الحياة وفقدان الذاكرة في اجواء يختلط فيها الحزن بالفرح..

وكانت أوتسوكا قد حازت على جائزة فيمينا للمرأة الاجنبية قبل عشر سنوات عن روايتها (البعض لم ير البحر مطلقا) وهاهي تنشر اليوم كتابا مؤثرا عن نهاية حياة سيدة عجوز تعاني من الخرف. وتتناول الرواية قصة المسنة أليس التي تذهب يوميا الى المسبح لتمارس السباحة ضمن الخطوط المحددة لها. وفي هذه الحجرة المغلقة المليئة بالكلورالمسماة”هناك، في الأسفل “ تلتقي اصناف مختلفة من الناس، وتختفي اختلافاتهم وتذوب في لون البركة الأزرق، وفي أجسادهم شبه العارية. ففي حجرة “هناك في الأسفل “، ينتمي الجميع فقط إلى واحدة من هذه الفئات الثلاث في السباحة: السريع والمتوسط والبطيء.”حيث لا توجد ساحة، ولا أفق، ولا قيلولة، ولا سماء - وهذا هو الشيء السيء. ولكن لابد من الإشارة إلى أنه لا يوجد فيها قنديل بحر، ولا تيارات، ولاحروق من الشمس، أوزقاقيون، والأهم من ذلك، لاوجود للأحذية.” هناك هدوء فقط،بعيدًا عن ضجيج العالم.

وتعتبر أليس جزءًا من مجتمع السباحين هذا وتجد راحة كبيرة في النزول إلى “هناك، في الأسفل “ للقيام بتمارين السباحة الخاصة بها. ولكن في يوم من الأيام، ظهر صدع في قاع الحوض،وظهر صدع آخر، ثم ظهرت العشرات من الصدوع، ما أدى إلى تكسر قاع الحمام الكبير، معلناً عن تلك الفترة التي لا رجعة فيها والتي تبدأ بكسر دماغ السيدة العجوز.فعندما يغلق حمام السباحة أبوابه، تأخذ حياتها منعطفاً جديدا حتماً اذ تنسى كل شيء تقريباً وبشكل تدريجي، لكنها تتذكر اللحظات المهمة في حياتها: طفولتها، الحرب، الاعتقال في معسكر، حبيبها فرانك، زواجها من شخص آخر وفقدان ابنتها الأولى بعد نصف ساعة من الولادة. فجأة، تقترب منها ابنتها الثانية، الروائية، بعد سنوات من القطيعة،في محاولة منها لاعادة لصق أجزاء محطمة من علاقة معقدة.

ومن خلال هذا الكتاب الجديد الجميل،تستكشف جولي أوتسوكا الشيخوخة، ومايبقى مقيدا في اللحظات الأخيرة من الحياة. إنها تلتقط الصدوع والخسائر والانكماش الذي يحدث ببطء، ولكن أيضًا اللحظات المعلقة الصغيرة التي تقود المرء الى الموت بشكل لايمكن تفاديه..

لقد خصصت الكاتبة النصف الأول من الكتاب لحمام السباحة حيث تطفو شخصية أليس في بيئة موصوفة بدقة من عالم في الأنثروبولوجيا، لتتم دراسته مثل عالم منفصل. ويحتضن حمام السباحة مجتمع السباحين كما تدعونا الكاتبة إلى ملاحظة ما يحدث في هذا المكان المغلق، حيث يتم تنظيم السباحين والسباحات مثل النوتات الموسيقية وكأنهم يؤدون رقصة على انغام سيمفونية معزوفة بإتقان.ثم تظهر الشقوق الغامضة التي تعلن إغلاق المسبح بشكل مؤكد ونهائي كما تعلن الشقوق في دماغ أليس عن وفاتها. لكنهاوفي الوقت نفسه، تفتح منظورًا لعالم آخر، لواقع جديد حيث يصبح السباحون “أكثر اهتمامًا، وأقل تعلقًا”، وحيث “تُنسى الضغائن”،ثم نقرأ هناك استعارة مجازية لما سيحدث لأليس بمجرد ظهورها على السطح، في العالم المليء بالضوء الساطع.

وفي الجزء الثاني من الكتاب، نترك حمام السباحة لنغوص في العلاقة الحميمة غير المكتملة لأليس، التي تعاني من الخرف. ثم تنتقل القصة إلى ابنة أليس، الكاتبة الأربعينية، التي تخبرنا عن نفسها ثم نعود بالزمن إلى الوراء من خلال عيون هذه الفتاة المذنبة التي غادرت والدتها مبكرًا..وتحاول الابنة إيجاد حلول، وتبحث عن مؤسسة لاستقبال والدتها المريضة، فتجد مركز(بيلا فيستا)، وهو نوع من دور رعاية المسنين الفاخرة على الطراز الأمريكي. ولكنه مخالف للاعلان الذي طرحته المؤسسة، والذي يصفه بأنه المكان المثالي للعيش لكبار السن الذين يعانون من فقدان الذاكرة، اذ يتبين بعدها أن بيلافيستا هي مثل معسكر اعتقال يحرم السكان من إنسانيتهم.

ويستكشف النص، المشبع بالحزن، هذه المساحة الخالدة التي هي نهاية الحياة عندما تضيع الذاكرة، والعلاقة الصعبة بين الأم وابنتها. ومن المفارقات أنه في الفراغات التي نحتتها الشقوق، وفي الوقت الحاضر الذي تتقاسمه المرأتان،وعندما تختفي الكلمات تمامًا، تصبح العلاقة بينهما أكثر قوة،ماذا سنفعل في هذه اللحظة العابرة اذن، في آخر فترة مسموح لنا بها؟ هذا ما تقوله هذه الرواية الحزينة الجميلة والسعيدة في ذات الوقت، والمكتوبة بلغة مجازية مشبعة بالحيوية.