قناطر: صورة البصرة في الحرب

Tuesday 4th of October 2022 11:28:53 PM ,
العدد : 5277
الصفحة : الأعمدة , طالب عبد العزيز

طالب عبد العزيز

أسفر وقوع البصرة في جبهة الحرب مع إيران طوال عقد الثمانينات عن خراب شامل، ما زالت المدينة تعاني منه، وتئن تحت سطوته الى اليوم، فقد أخرجتها الحرب من كونها مدينة زراعية، وحاضرة سكنية، ووجهة سياحية وغير ذلك، الى مدينة تقع الكثير من أحيائها خارج مواصفات الحياة التقليدية، بسبب بيئتها الملوثة بالادخنة والغازات النفطية، وما تعاني منه من سوء في الخدمات والصحة والتعليم والأمن. ولم تكن السلطات المتعاقبة على إدارتها منذ انتهاء الحرب الى اليوم لتفكّر جادة بإنتشالها مما وقعت ضحيته وعانت منه.

معلوم أنَّ الادارات المركزية المستعمِرة هي السبب الاول في خراب المدن، فهي تتسلم خِراجَ المدن تلك، وتنفقه على حروبها ومستعمراتِها، وهذا ما عانت منه البصرة بالذات أيام حكم العثمانيين وبشكل واضح، لكنَّ المدن تخرّب أيضاً بالادارات الوطنية الغبيّة، وتنحدر في أكثر من موطن وزمان، قد يكون أهونها سرقة خِراجها، والعبث بمالها العام، وتخريب بينتها التحتية، ألا وهو تمزيق صورتها المعروفة في التاريخ، وطمس هويتها الثقافية والفكرية والعلمية، وهذا ما عانت البصرة منه، في فترة حكم النظام السابق، وتعاني منه اليوم..

في الحرب مع إيران عاني الجندي البصري من الصورة السيئة عن المدينة، التي سوّق لها النظام السابق، عبر ماكنته الاعلامية، وفي التلفزيون العراقي بخاصة(القناة الرسمية الوحيدة) ببث أغاني الفرق الشعبية الغنائية، أو الفرقة التي أسسها النظام، كواحدة من رافعات معنوية الجيش العراقي في الحرب، والتي صادف أنْ كان غالبية أعضائها من الراقصين والمغنين والمنشدين السود والسمر، من النساء والرجال، حتى بات واحدنا يخجل من نفسه أمام جنود المحافظات الاخرى، كلما اجتمعنا على تلفزيون الحانوت، وأطلت الفرقة بإحدى أغنياتها الراقصة على انغام الخشابة، فنحن في نظر جميع الجنود إنما ننحدر من الصورة تلك، وهكذا كنا ضمن اطار الصورة الدونية عند غالبية الضباط، الذين استجابوا للصورة الراقصة، بوصفها هوية نهائية للمدينة.

كانت الجيوش المنتصرة تبيح لجنودها المدن التي تقع تحت سيطرتها، وهذا ما كانت تفعله الجيوش عبر التاريخ. ضمن المنطوق هذا كانت سلطة النظام لا تحتجز الجندي الداخل الى بيوت الدعارة، في شارع بشار، الذي يقع وسط المدينة، أو الذاهب الى حي الطرب، على طريق البصرة – سفوان، كذلك لم تكن لتغلق البارات والملاهي، الكثيرة في شارع الوطني، وبذلك كان الضباط والجنود، الذين تسنح لهم فرصة التجوال في المدينة يتمتعون بلحظات التفريغ في الاماكن تلك، فضلاً عن عدم احترازهم من التحرش بنساء المدينة عند تجوالهم في أسواقها، أو وقوفهم وامام ابواب مدارس البنات فيها، كل ذلك كان يتم تحت أعين النظام ذاته، فقد كانت البصرة مدينة مستباحة عند هؤلاء ضمن التصور التاريخي، لا بمعنى وجودها كمدينة تعرضت لغزو أجنبي، ولجيش فاتح منتصر إنما في تمكين الجنود من الاستمرار بالحرب، وإن كان الامر لا يخرج عن الاساءة للمدينة وإذلال سكانها.

بعد انفتاح العراقيين على السفر إثر سقوط النظام وامكانية تواجدهم مجتمعين في رحلة سياحية، أو زيارة دينية كثيرا ما كان البصريون والبصريات من غير السود والسمر يسألون عن حقيقة كونهم بصريين أم لا؟ أمّا من كان منهم أشقر الشعر أو أبيضَ، شابته حمرةٌ فهذا من عجائب وغرائب التكوين المجتمعي عند هؤلاء. قد يرى البعض في الصورة هذه مبالغة ما، لكنها لا تخرج عن الحقيقة، وليس أغرب منها اليوم إلا خروج المدينة عن كونها منبت النخل والانهار الالف، والقبلة المدنية، والحاضرة الثقافية، ودار سكنى الاثنيات المختلفة، وموئل الزهد والاعتزال والتصوف عبر التاريخ. المدينة التي عرفت بالتسامح والطيبة هناك من يسعى الى تمزيق هويتها عبر جعلها مدينة أحادية الدين والمذهب، وبئراً كبيراً للنفط، يتصارع حوله أصحاب النفوذ، وهي أكبر منتج لصراعات العشائر.