إنيو: الموسيقى والصورة حبٌ من النوتة الاولى

Wednesday 30th of November 2022 11:46:25 PM ,
العدد : 5318
الصفحة : سينما ,

علي الياسري

«انا مصنوع من كل شيء يمثل الموسيقى»

موريكوني

كانت موسيقاه استعارات لأنفاس الضوء ومحاكاة لقطرات الماء، مشتعلة مثل النار، زمجرتها اشبه بقرع رياح البرد القارس، لها ديناميكية الطيور وحيوية الحيوان وتسامي همس النباتات وسحر حفيف اوراق الشجر، غير انها بشرية جدًا تتلمس افعال الانسان الغريبة والمفاجئة بتلك الاستعارات النزقة والنافرة لأصوات حادة وقاسية وضاجّة. معه بدأ عصر اللغة الموسيقية الجديدة المُلاحِقة للصورة والمتفوقة عليها احيانا بتلك الصدمة النغمية الفاتنة والتي ستولد نمط جديد في ثقافة البوب آرت بعقد الستينيات من القرن العشرين حيث التحدي الفكري لماهية الفن.

يمنح المخرج جيوزيبي تورناتوري في فيلمه التسجيلي (إنيو) مساحات واسعة لرصد وتوثيق وتحليل العاطفة الناشئة من تراكمات المنجز الابداعي في السيرة الشخصية ورحلة الحياة الفنية للموسيقار المايسترو إنيو موريكوني. لحظة يتحول فيها النتاج الهندسي للعقل المُنظم والفكر المتقد الى ذاكرة نوستالجية تستعيد ذاتيًا سمات العبقرية والخلق النغمي في موازاة فعل الدراما بالصورة السينمائية مع اتساقات لحنية تضيف الكثير اليها بل وتصبح مع الزمن انعكاسها الاثير لدى الجمهور.

يلتقط الصانع صورة الانغماس الجدي في العمل ويتحرك من والى الشخصية ووجهات النظر الاخرى فيما قدمه بمستويات تنبثق من النمو الشخصي لموريكوني كراوٍ مع تلك الانطباعات التي تؤطر صورته العامة عند الاخرين فيعمد الى مونتاج يتدفق سريعًا في تنويعات متكررة للرأي والرأي الاخر وهو مسعى يبدو كمقاربة بصرية لنهج موريكوني بكتابة الخلق الموسيقي حين يمزج لحنين فتخرج الاشياء ملتوية لكنها انيقة ومتعرجة غير انها حسية تفيض بالشعور. لقد ابتكر إنيو العبارات الموسيقية التي تتوالى وراء بعضها بأستمرار. يعمل تورناتوري ذات الشي فتدور الاحاديث بنفس النسق ترتفع او تهدأ تتقاطع او تتفق لكنها تنسج صورة بهارموني يمنحها اصالة تعبيرية لا يمكن انكارها حتى وأن بدت وسائلها في استقاء المعلومة تقليدية. لم يشأ موريكوني مغادرة اسسه الكلاسيكية في الكتابة الموسيقية لكنه سعى لأضفاء المزيد من الجاذبية عليها خارج نطاق الرتابة والصرامة المُعتادة. فواحدة من اكبر ميزاته مقاطعة فكرتين لجعلها اكثر مرونة وايضا تكرار الاشياء دون ان تصبح مستهلكة. تورناتوري على مدى ساعتين ونصف انشأ فيلم تسجيلي يعتمد السمة التفاعلية الرصدية في توثيق الحدث بتوالي المقابلات دون ان يسمح لهذا التكرار سلب الحوارات والاسترجاع للوقائع دهشة الاكتشاف للمعلومة او لمسة البانوراما لثقافة المراحل الزمنية التي مرت بها موسيقى الشخصية او تأثيرات الاخرين في حياته سواء من الناحية العملية او الحياتية.

تمثل الرحلة العاطفية للروي في فيلم (إنيو) مسار تقليدي لرصد صورة مُحاكية للمصداقية التاريخية للحدث دون نسيان ان الانطباع الشخصي وانعطافات خيال الذاكرة الشخصية هي جزء اساسي من منهج الاستعادة خصوصا وأن الموسيقى التصويرية والالحان التي انتجتها مسيرة الابداع لموريكوني ستكون خير داعم للمنطق الشعوري الذي تركن اليه شهادات الشخوص من فنانين زملاء واصدقاء ورفاق طريق. وعليه سنرى كيف نشأت الشراكة الفنية بينه وبين سيرجيو ليوني حيث تحولت مع السنين الى رفقة عمر. ومعه ندرك ان افلام الويسترن سباغيتي الايطالية عاشت لأنها تحمل بصمات موسيقى موريكوني الذي بث فيها حياة ابدية بعد ان جعلها جزء من البناء الدرامي للفيلم وما يُشبه الحديث الموازي للحوار والمشهد.

مع رحلة لحنية تجاوزت الخمسة عقود وضع فيها الموسيقى التصويرية لما يزيد عن 500 فيلم يبتعد المخرج تورناتوري عن الوقوف كثيرًا عند محطات الحياة الشخصية لموريكوني سوى طفولته ونشؤه. نحتت صرامة ابيه وتقتيره شخصية الابن الموسيقية حينما ذهبت اماني دراسة الطب ادراج الرياح وصار البوق هو الارث الذي عليه حمله، وبين ذل العمل في النوادي الليلية لكسب القوت من اجل لقمة العيش والسعي لدراسة الموسيقى اكاديميًا بدأت رحلة كفاح طويلة. هكذا ستنزوي الاخفاقات الى الهامش ومع مرور الوقت يتقلص حجم الصراعات والمشاكل التي عاناها من اجل اثبات رؤيته الموسيقية ولا تظهر الا لمامًا وبالطبع على هذا النسق يتم تحييد اللحظات الصعبة وصدمات الحياة فيما يظهر لنا كمتلقين ان الفيلم يحاول الاحتفاء بالمسيرة الضخمة والمنجز الكبير باعتبار انيو علامة مضيئة في سماء الموسيقى وعبقرية لا تختلف باِبداعها عما قدمه بيتهوفن او موتسارت حسبما يرى المخرج تارنتينو في معرض رأيه المُقدم بالفيلم وبالطبع هناك من يُشكِل على جزمه هذا ويجادل ان الحاجة لمضي قرنين من الزمن هو ما يثبت صحة الكلام من عدمه. لكن الثابت كما تسجله الشهادات المتتالية وتقاطعها مع وجهة نظر موريكوني ضمن دقائق العرض ان امكانياته في الابتكار الفني سمحت له في غرس الاصوات النافرة ببيئة نغمية هادئة فكانت موسيقاه اصلية الطابع من حيث الاستخدام الاوبرالي بنبرة غير مسبوقة كتلك الاضافات للصافرة والجرس وصوت الطرق على السندان وجلدات السوط. كما ان قدرته على الاختزال اضافت مساحات مهمة لوقفات الصمت بين النغمات، او مزج النغمات الكنسية مع الحان سكان اصليين تتسم بطابعها الموسيقي البدائي.

يصل المخرج تورناتوري في فيلمه الى محصلة تتراكم مع استعراض العديد من الاراء ان إنيو موريكوني وجد نقاط التقاء بين الموسيقى البحتة بصيغتها الكلاسيكية التي تعزفها الاوركسترا وبين التصويرية السينمائية بحيث اثرت احداهما في الاخرى سواء بالمفهوم او الجوهر بسبب قدرته على ترجمة السينما وإيجاد الفكرة المناسبة التي ترتبط عضويا بالفيلم وبناؤه السردي. لقد كان بارعًا في خلق الشخصيات بموسيقاه ومنحها سمتها الخاصة بلمسة صوت معين مستفيدًا من مزاجه اللحني القوي الغالب على شخصية المؤلف السيمفوني.