رواية من ذاكرة الصور للعراقية صبا مطر: عن نساء يبتكرن الحكايات ويبكين

Sunday 19th of March 2023 11:06:09 PM ,
العدد : 5393
الصفحة : عام ,

شاكر الانباري

هي حكاية ياسمين، المرأة المتزوجة القلقة التي شارفت على منتصف العمر. المرأة التي تتنقل بين ثلاثة بلدان وعدد كبير من الشخصيات، أما البيوت فيصعب عليها تذكرها أحيانا.

تروي عن كل ذلك بذاكرة فائرة، وعينين ذكيتين تراقبان أدق التفاصيل، والتعابير، والأفكار. إنها حكاية الحياة، وهي تتقلب بين الذاكرة والوقائع، بين الماضي المؤلم والحاضر غير الأكيد، وهي صوت امرأة تتقاذفها الهواجس والبلدان والشكوك والأحزان، وكأن الفرح غادرها منذ أن خرجت من بلدها الأم العراق. الحالة التي تشترك فيها ياسمين الراوية مع غيرها من البشر، بغض النظر عن البلد والدين والمنشأ، هي إرث الماضي، هنا نجد هذه الظاهرة تنيخ على كاهل ديفيد الفنان الدانماركي، وإيفا معلمة اللغة الألمانية في مدينة فورتسهايم، وإليزابيث الدانماركية مجنونة الوشم على جسدها، وميلاد العراقية صديقة المنشأ والهموم والغربة.

إرث الماضي يشمل بخيمته الجميع، لكنه إرث له وجوه عديدة، وغريبة بعض الاوقات. إرث الحرب، والعلاقات الأسرية الفاشلة، والطبائع الفردية، والأخطاء المرتبكة في مسيرة حياة كل فرد. هذا هو الخيط الإنساني المنتظم للجميع على هذه الأرض. تنقلات ياسمين بين ثلاث بلدان، تجربة المقتلعين والمهمشين وفاقدي البوصلة، هي ألمانيا والدانمارك والعراق أكسبها قدرة على تأمل أصدقائها بعمق، ربما بسبب حساسيتها الفائقة كامرأة ما زالت تتذكر شجرة الياسمين في حديقة بيتهم الأول، وتعليمها الناضج، وفي الأخير شخصيتها الشفيفة في تعاملها مع الطبيعة وسلوك الأشخاص وهمومهم. فصاحب المعاناة يصبح بعض الأحيان أكثر تحسسا لمعاناة الآخرين، الأمر الذي عكسته ياسمين في روايتها للأحداث، وتفسير تلك الأحداث، وتقييم الشخصيات التي تقاطعت معها. عكسته في تعاطفها مع إليزابيث رغم أنها قاتلة، أغلقت على زوجها السكير في قبو بيتها حتى مات من الجوع والعزلة، لكنه الخطأ الذي ستدفع ثمنه طوال حياتها. علاقات حميمة مع الجميع ممن امتلكوا إرث الماضي الثقيل الذي وضعهم في سحابة طائرة من المعاناة التي لا تغيب.

نرى انتقالات حرة تجري في ذهن راوية الأحداث ياسمين بين الماضي والحاضر، وبين شخصية وأخرى، وقد تعلمت هذه التقنية من مدرّسها في الفن واللغة الألمانية ديفيد الرسام الذي ابتكر جدارا يعرض عليه صور كل من عرفه في حياته، أصدقاء وحبيبات وأقرباء. كان شخصية استثنائية لرسام يعيش في عزلة ذاتية وغربة عن محيطه، حيث تجد ياسمين معه مشتركات كثيرة. وقد أنشأت في أول انتقال لها من مدينتها السابقة كولند إلى العاصمة كوبنهاغن، ذات الجدار المقام في بيته الريفي، وهو يحمل صور كل من عرفتهم في حياتها. أولئك الذين يعيشون معها في القطارات والمدن والبلدان، كل واحد منهم له قصة، وكأن ياسمين تحولت إلى شهرزاد معاصرة تروي الحكايات لتستمر حياتها، إلا أن علاقتها مع أبطال حكاياتها أشد التصاقا بها، ولهم هيمنة أكبر على وعيها ونظرتها للحياة.

في رواية صبا مطر شخصيات رئيسية مثل ديفيد يورينسن نصف الدانماركي نصف الألماني، وإليزابيث الدانماركية، وميلاد العراقية، ومعلمة اللغة الألمانية إيفا تسيمرمان الألمانية خالة ديفيد. أسماء تظل تتنفس طوال النص وتدفع بأحداثه قدما نحو النهاية. وهناك شخصيات ثانوية لها علاقة بالشخصيات الرئيسية مثل أم هاني جارة ميلاد، وهانس زوج إليزابيث، وفليمنك جار ياسمين، وأخت ميلاد مارتا التي ذهبت إلى السماء بتفجير كنيسة «سيدة النجاة» في بغداد. وكان حدثا مشهودا وقتها، هز أركان المجتمع البغدادي بقوة. فيما يغيب زوج ياسمين عن الصورة كونه، ربما، دائب السفر بين البلدان بسبب عمله في شركة. ولن نستطيع رؤية ملامحه طوال الرواية. من كل تلك الفصول المتعاقبة التي تطارد الكاتبة عبرها الشخصيات، بعيني ياسمين العميقتين، نحس حين نقرأ شاعرية اللغة وهي تتجسد في خيال امرأة حساسة، مرهفة، مسكونة بالماضي، وتنظر إلى الحياة بعينين متسائلتين دائما. ونحس الرؤية الجمالية لتحليل الأروح ونزعاتها، ونستوعب الأفكار الكامنة خلف الكلمات وهي تشيد تحليلا متماسكا، ومقنعا، لقضية الاغتراب البشري. في بعده النسائي تحديدا. نعم، عرفنا قصص تلك الشخصيات الاستثنائية الملتقطة بدقة، وعثرنا على حيرة معنى الوجود لدى ياسمين، وحيرة الهوس بالانتقالات بين بلد وآخر. معنى الوطن. معنى الذاكرة. معنى تعلم اللغة. وأخيرا معنى الاستقرار.

كما يستطيع القارئ أن يصل إلى تباينات الثقافات وهي تحتك بعضها ببعض، شخصيات الغرب والشرق، الأديان المتباينة، الاحتكاك بين الثقافات والرؤى المتوازية بين الشرق والغرب، إلا أن ثمة مصيرا واحدا يجمعها هو ماضيها القاسي. ماضيها البشع أحيانا والذي يقف عائقا أمامها لممارسة حياة طبيعية لها نبرة من فرح وتفاؤل، وثقة بالمستقبل. الجميع يهرب من ذاته، ويخاف من مواجهة الكوارث الجارية على هذه الأرض منذ أبينا الأسطوري آدم وحتى آخر حرب تهين كرامة الجنس البشري. ياسمين في حقيقتها الداخلية ترغب في أن تكون حرة مع نفسها ومع محيطها، ترغب في أن تستقر عاطفيا ونفسيا، لكنها تطلب أمرا مستحيلا، فمن خرج لن يعود. ومن مضى وغاب يعسر استرجاعه. ومن كل ذلك تظل ياسمين تتساءل عن جدوى هذه الرحلة، رحلة الفرد وتقلبات مصائره مكانيا وزمانيا.

والملاحظ أن معظم الشخصيات المؤثرة في الأحداث هي شخصيات نسائية أجادت الكاتبة في تقديمها من الداخل عن طريق البوح، والحوارات، والتداعيات الذهنية الحرة. معظمها إذن شخصيات جادة، لا مجال أمامها للسخرية أو السطحية في الأفكار. شخصيات تتكلم حقيقتها الداخلية دون خوف. ونحن إزاء حكايات يومية هي في الحقيقة مآس تجري كل لحظة نتيجة حروب، أو تداعيات حروب، أو قلق وجودي لا مهرب منه. مآس تروى بلغة شاعرية بعيدا عن الرومانسيات الشائعة التي تنحو إلى إنشائية فجة تفتقر لضرورات السرد. ماض مفتت تنسج منه الكاتبة صبا مطر معنى، وحكمة وجودية للمغتربين والمقتلعين من تربتهم، والباحثين عن ومضة من النور تنير لهم أماسيهم القادمة. حكاية إليزابيث مع زوجها هانس. حكاية ميلاد المسيحية مع عائلتها في الكرادة. حكاية المعلمة العجوز إيفا في مدينتها فورتسهايم التي دمرت تماما في الحرب العالمية الثانية. وحكاية ديفيد رسام مدينة كولند الباحث عن المطلق. كل ما سبق يلوّن حكاية ياسمين ذاتها. مقاطع تترى من هنا وهناك، ماضيا وحاضرا، تتراوح بين القصر والطول النسبي لتخلق رواية «من ذاكرة الصور». وهي بمجملها مساءلة للاغتراب والعلاقات البشرية، وجدوى أن يحمل الانسان ماضيه مثل قوقعة لا يستطيع إزاحتها عن ظهره. وقد جاءت برؤية ناضجة للمأساة البشرية بشكل عام، حيث تتوالد لغتها من مصهر الأحداث ذاتها.