بطانة المصلح فـي الأرض

Sunday 9th of December 2012 08:00:00 PM ,
العدد : 2671
الصفحة : الأعمدة , علي حسين

هل يُمكن لشخص يحكم بسلطات مطلقة أن ينجو من الفساد الذي تولده هذه السلطة المطلقة نفسها؟ هذا السؤال ظل يؤرق ماركيز لأكثر من عشر سنوات، فأراد ان يجيب عليه من خلال  روايته خريف البطريرك التي اراد ان تكون صفحاتها كلها جوابا على سؤال من هو الدكتاتور؟  يقول ماركيز لصديقه يلينيو مندوزا "ما من ديكتاتور يمكنه أن يحكم إن لم تكن هناك بطانة تهتف لكل فعل يقوم به، لا تنظر إليه إلا عبر صورة رسمتها له، على رغم تناقضها الكلي مع صورته الحقيقية عند الناس".
يكتب  الفريد جاري الذي له الفضل في تأسيس مفهوم للدكتاتورية في القرن العشرين من خلال عمله  المسرحي "اوبو ملكا" ان "الدكتاتور لايحتاج الى اكثر من  حاشية لا تفكر.. فمع الدكتاتور التفكير ممنوع".
 يعيش الدكتاتور في عالم من الوهم ينسجه له المقربون من حوله.. يصنع عالمه  الخاص ويعيش فيه، صدق مبارك  التظاهرات  التي انطلقت للهتاف باسمه، فيما ظل القذافي حتى اللحظة الاخيرة من حياته  يردد " الشعب يحبني"  وكان هو قد عبر عن عشقه لهذا الشعب حين وصفهم بالجرذان..  يتوهم الدكتاتور ان سنين حكمه فترة ازدهار للبلاد، في وصيته  يكتب دكتاتور تشيلي بينوشيه "سأموت وأنا فخور بما حققته من انجازات لهذا الشعب" وكانت أبرزت انجازات الجنرال هي قتل معارضيه وتشريدهم وتسليم البلاد الى مجموعة مقربه عاثت فسادا وإجراما.. يقول البير كامو "يعيش الدكتاتور في عالم من القطيعة  والأحكام المطلقة التي لا تفسح مجالا للاختلاف  "أما مريدوه ومقربوه فنراهم أمام شاشات الفضائيات يبثون الفرقة  ويعيدون انتاج الاستبداد..  حاشية  المستبد لا تجد نفسها إلا وهي تدور حول فلك القائد الملهم.. ويستبد بها الحماس احيانا بان تطالب باستنساخ هذا القائد كما في الدعوة المباركة التي تبناها النائب عباس البياتي حين طالب باستنساخ رئيس الوزراء، ولم تكن هذه  اللفتة العبقرية هي الأولى التي يتحفنا بها المقربون فقد سبق أن وصف النائب مهدي الخفاجي، رئيس الوزراء بأنه “علم دار العراق” الذي سيقوم بتصفية جميع المتآمرين.. وبالأمس  فقط خرجت علينا رئيسة لجنة الثقافة والاعلام في مجلس كربلاء  الدكتورة سليمة سلطان،  لتقول ان رئيس الوزراء من المصلحين في الارض، لتضيف على مسؤول حكومي هالة من  التبجيل والقداسة.
في ظل هكذا مقربين وساسة  تصبح السياسة في العراق كانها اوراق متناثرة من كتاب "الامير" لميكافيللي كل واحد يريد ان يصبح جزءا من نظام تسلطي، نظام لا مكان للبسطاء فيه، إلا بالشعارات والخطب وراء الميكرفونات.. فلا واجبات ولا مسؤوليات تجاه هذا الشعب، بل "منّة " اذا تنازل المسؤول وتمشى وسط حماياته في احد الشوارع، ومنّة اذا تواضع وتحدث مع الناس عبر سياج من الحمايات المدججين بالسلاح، ومنّة اذا تكرم وحضر اجتماع للبرلمان ليناقش قانونا يهم الملايين، ومنّة اذا وافق ان يصافح المختلفين معه في الرأي.
يكتب عالم النفس الشهير اريك فروم بان الحاكم المستبد لا يختار حاشيته، بل هم يشكلون الحاشية بأنفسهم..  وتراهم منذ اللحظات الاولى يرصدون وبكل عناية  كيف يتكلم الحاكم، نبرة  صوته  نظراته، وما هي الايماءة التي ستصدر عنه.  
إن نيل المكاسب هو القيمة التي تسود ويعمل على شيوعها وتعميمها أولئك الذين يعتبرون  الولاء بديلا للخبرة والمعرفة وللوطنية، ومع إن هذا الولاء قد يرتدي قناع الحزب الذي يصنعه الحاكم أو يستخدمه لتصنيع نفسه، وليس من المستغرب أن يرى الحاكم المستبد  أن القرابة هي الضمان الأول للولاء، ولهذا يكون أقرباؤه هم حاشيته وهم أول المستفيدين، تعمل الحاشية على إيهام الحاكم بأنه محبوب من الجماهير وذلك من خلال الحشود المسخرة بفعل الإرهاب المنظم لمظاهرات التأييد.
يلغي الديكتاتور، كل شيء يخالفه. ويصدق،، انه كائن مطلق العبقرية، يعرف كل شيء. وهو لا ينتقي للناس ما يناسبها بل ما يريد لها. ولا يسألها رأيها في حياتها بل يفرض عليها الحياة التي يريد.
مشكلة  الحاكم المستبد  في انعدام الوعي، وفي انعدام التواصل مع الاخر، وفي عدم الثقة  بالجميع وفي الاعتقاد بان خطبه يمكن ان تكون بديلا للمدارس والطرقات والصحة  والامن والرفاهية الاجتماعية.. في بلد  المستبد الجميع يتقاتل على حقائب مليئة بالمناصب والغنائم.. وفي هذا التهافت ينسون ان هناك شعبا يعيش على حافة الخطر.
 في العراق اليوم تتحول الدولة إلى حلم للمنتفعين والانتهازيين والسراق ممن يجدون مصلحتهم في مغادرة " البطريرك  " لخريفه..