صورة مانديلا العراق

Wednesday 12th of December 2012 08:00:00 PM ,
العدد : 2674
الصفحة : الأعمدة , علي حسين

يتحول بعض السياسيين والحكام في مرحلة  تاريخية معينة  الى مرايا تعكس لنا صورة عفوية  للتحولات الكبرى التي تحدث من حولنا.. فمنذ ايام وصورة  الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا  وهو على فراش المرض  تسرق الاضواء من صور متظاهري مصر  وضحايا بشار الاسد  وصاروخ كوريا الشمالية،  ففي واحدة من المواقف المؤثرة شاهد العالم كيف يصلي ابناء جنوب افريقيا البيض قبل السود من اجل ان يتمتع زعيمهم التاريخي بالصحة، فالكل يدرك جيدا ان وجود الرجل العجوز بينهم  هو ضمانة لكل السكان بكل الوانهم واطيافهم وقومياتهم ودياناتهم، المئات يجلسون امام المستشفى وعيونهم على الابواب يسألون عن صحة الرجل الذي جنبهم حروب الثأر والضغينة.

في مقدمة  كتاب "حوار مع نفسي"، وهي نصوص  قصيرة بقلم مانديلا، يكتب الرئيس الاميركي باراك أوباما، أن "مانديلا عاش في غابة السياسة، وكان له نصيبه ‏من الضعف الإنساني، وفيه العناد والكبرياء والبساطة والاندفاع، ووراء ‏سلطته وقيادته الأخلاقيتين كان يخفي دائماً سياسياً متكاملاً وقد ارتكزت منجزاته العظيمة على ‏براعته وإتقانه السياسة بمعانيها العريضة الواسعة”.

سحر مانديلا العالم بتواضعه، وبعفوه الدائم وبابتسامته السمحة التي دفعت ملكة بريطانيا ان  تخالف البروتوكول  فتقرر الوقوف في باب القصر لاستقبال الرجل الذي قرر ذات يوم وفي هدوء ان ينهي سلطة الرجل الابيض على القارة السمراء،  وقبل ان يسحر مانديلا رؤساء وملوك العالم كان قد سحر سجانيه  البيض الذين ظلوا خلال سنوات سجنه الطويلة يهربون له القهوة والشاي والطعام الخاص بهم.

من منا يتذكر اليوم اسم الرجل الذي قرر ان يودع مانديلا السجن،  لقد ظل لوحده الحاضر الوحيد في السلطة وخارجها، سجينا وحرا، يملأ المدن الكبرى بسلوكه  العفوي، الملايين التي ترنو بأنظارها واسماعها الى مستشفى بريتوريا  تشعر بان مانديلا انتقم لها بصفحه وطيبته، وهذه الملايين اليوم لا تطيق ان ترى  الرجل الاسطورة يهزمه المرض وترفض ان تصدق ان المرض يمكن ان يتجرأ ويقترب من انسان قال في لحظة حرجة من تاريخ بلاده: " نحن لا ننسى الظلم.. لكننا نريد ان نعلم العالم التسامح ". 

يبدو الحديث عن مانديلا هذه الأيام أشبه بالحديث عن حلم عاشه رجل في زنزانة ضيقة وحين أطلق سراحه عمل جاهدا على المحافظة على بلد متماسك بكل ألوانه، كان الأمر في البداية أشبه بالمستحيل، فالكل يشحذ سكاكينه، والكل يتهيأ لحرب الانتقام، وكان أمام العجوز الذي خرج منهكا من المعتقل خياران، الأول أن يبدأ حرب الانتقام ضد البيض الذين عذبوه لأكثر من ربع قرن، وحكموا مواطنيه الأفارقة بقوانين تساويهم بالحيوانات، والخيار الثاني ان يحافظ على امن وسلامة البلاد وروحها، فاختار الطريق الثاني وهو ألاّ يلغي مواطنة البيض الذين استقروا في هذا البلد منذ أكثر من ثلاثمئة عام إلى جانب السكان الأصليين ليفاجئ العالم بسياسة اليد الممدودة، وعقاب المخطئين بمحاكمات الاعتراف العلنية لتطهير النفس بديلا للانتقام والقتل، وحين اكمل ولايته الاولى في الحكم عام 1999 قرر ان  لايترشح لدوره ثانية  وذهب يتقاعد، يطوف البلاد ليُطمئن مواطنيه البيض قائلاً "اذا كان الماضي البغيض لكم، فليكن المستقبل الهانئ لكم  ولنا. تعالوا  نعمل معا، سودا وبيضا، من أجل أرض واحدة وإنسان واحد".

ينام مانديلا في المستشفى مطمئنا لانه ترك  بلاده في  تصالح مع المستقبل. لم يطلق النار على المتظاهرين. لم يشتم معارضيه او يخونهم، لم يطلب من الناس ان تهتف بحياته، لم يوزع ثروات بلاده بين مقربيه.. لم يتستر على فاسد.. ولم يضطهد اصحاب الكفاءات.

لعل التجربة السياسية لزعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا تستحق من كل الساسة في العالم وأولهم حديثو التجربة في العراق أن يطالعوها، فالرجل الذي أمضى نصف عمره في زنزانة انفرادية،توقع المقربون منه أن خروجه من السجن يعني أن لحظة الثأر قد حانت، لكنه لم يحقق لهم مبتغاهم ودعا الجميع إلى نسيان الماضي مؤكدا أن “الإنسان الحق هو ذلك الذي لا يكرر خطأ الظلم الذي ناضل كي يرفعه”.

أتمنى ان ينظر ساستنا  الى صورة الرجل العجوز وهو في المستشفى يبتسم لزائريه   ليتعلموا  أن السياسة هي فن المحافظة على الشعوب، لا فن التلاعب بأقدار الناس، وان الحكم لا يعني أن يقول مسؤول البلاد للآخرين إننا حصلنا عليها "وبعد ما ننطيها".