العراق الذي في ضمائرهم

Wednesday 9th of January 2013 08:00:00 PM ,
العدد : 2696
الصفحة : الأعمدة , علي حسين

أخطر ما ابتلي به العراق ان تولى امره  وتحدث باسمه من لا يعرف قدره ومكانته  ..بالامس كنت انظر الى وجوه مجموعة من الجالسين في احدى المقاهي القريبة من الصحيفة .. شباب وشيوخ ، وفي وسط المشهد امرأة في منتصف العمر تنظر بقلق الى شاشة التلفزيون  ، كانت المناسبة لعبة كرة القدم التي جمعت المنتخب العراقي بمنتخب الكويت.

كنت انظر الى وجه المرأة  ، وانا اقول لصديق متحديا ان يجد سياسيا يحب العراق مثل هذه المرأة  ، التي قالت انها لم تستطع صبرا حتى تصل البيت لتتابع اولادها حسب قولها  ، فاجبرت ابنها ان  تجلس في المقهى  لترى ابناءها وهم يرفعون اسم العراق على حد قولها .. حين تحدثت المرأة ران الصمت على المقهى  وكأن الجميع يتعبد في محراب الكلمات .. لمعت العيون بدمع واحد ، لافرق بين ماتراه في عيني شاب يسكن مدينة الصدر ،  وعيني رجل جاء من الموصل .

الجميع يتنفسون نفسا واحدا مع تصاعد وتيرة المباراة ، وكأنهم في مهمة وطنية يستمعون الى معزوفة  " ياموطني "  فتلمع عيونهم بالشجن .. حتى يُخيل للناظر اليهم انهم يكتشفون معنى المواطنة للمرة الاولى  ، او يكتشفون العراق الكبير الذي يريد له زعماء الطوائف ان يظل  تحت ركام الفساد والانتهازية والطائفية المقيتة والمعارك السياسية السيئة السمعة. 

تستمع الى تعليقات  المتابعين للمباراة  وهم يرددون كلمات التشجيع لاعضاء المنتخب  بخشوع، فتشعر معهم  ان الجميع يستحضر ذكريات سنوات جميلة وسعيدة من حياته ، أو لعلها اشبه  بنوبة حنين إلى العراق  كما ينبغي له أن يكون، كبيرا ، فتيا ، شامخا ، مرفوع الجبين ، متدفقا شبابا وحيوية ، ، لا يتحسس الضربات التي نالت منه  ، ولا ينشغل بالنظر في المرآة طويلا ذعرا من تجاعيد الزمن وقسوة السنين، والاعيب صبيان السياسة.

وانا انظر الى وجوه المتابعين للمباراة والتي انمحت منها علامات الطائفية والمذهبية .. وجوه تعيد اكتشاف  جوهر هذا الشعب .. وجدت نفسي امام مواطنين بسطاء يريدون ان ينفضوا عن هذا الوطن غبار الطائفية والمحسوبية والانتهازية،  ولعل  أجمل ما في وجوه المتابعين للمباراة أنها أثبتت أننا شعب لم يتفسخ بعد، رغم سياسة التنكيل والإفساد وشراء الذمم التي مورست خلال السنوات الماضية، شعب لم يفسد رغم محاولات البعض بإفساد مناخ الالفة فيه  وزرع قيم الطائفية فيها، وبث الفرقة بين أبنائه، وسياسة التخويف والقتل على الهوية، دهشتني وأفرحتني هذه الاستعادة المبهجة لأصالة ووطنية الشخصية العراقية في لحظة تصور البعض أن أحزاب الطوائف استطاعت أن تحرق مساحات الفرح والخضرة فيها ، وهل هناك وطنية اكبر وانضج من الموقف الذي اتخذنه هذه المرأة التي  لا نعرف الى اي طائفة تنتمي، حين وقفت  تهتف بصوت عال وهي ترى احد ابنائها كما سمتهم، يسجل هدفا في مرمى الكويت لم تسأل إلى اي طائفة ينتمي، وفي اي محافظة يسكن اهله واقاربه ففي عتمة الانتهازية السياسية وألاعيب القرقوزات لتشويه صورة هذا الشعب ، ووسط غبار كثيف لإلهاء الناس في الهم اليومي، بحثا عن الخبز والأمان وفى ظل مخطط شديد لتسفيه المتظاهرين ووصفهم بالعمالة،  نجد اناسا بسطاء يتحدثون عن الضمير فنشعر بنبرة الصدق تشرق في ملامح وجههم ، لا فرق بين مسلم ومسيحي، بين سني وشيعي، كردي وعربي بين من يقرأ الجريدة ومن يستخدم الفيسبوك، بين عامل وعاطل، بين المرأة والرجل، الجميع انصهر في بوتقة واحدة اسمها العراق، هذا الشعب قفز فوق أحزابه الكرتونية، وسياسييه المتعجرفين.

من ينظر الى وجوه متابعي المباراة سيكتشف ان كل دعاوى  وادعاءات أن المناوئين للحكومة يتآمرون على العراق، وانهم ينفذون اجندات خارجية  على العراق مجرد نكتة سخيفة، تلوكها ألسنة صغار الساسة من هنا وهناك، من اجل اعلاء مناخ الطائفية الذي يغوي كل من يجد في نفسه ميول زعامة سهلة ومريحة وكاذبة.

ياجنرالات الطائفية انتم مهزومون حتما .. ستهزمكم دموع الفرح التي سكبتها هذه المرأة وهي تهتف باسم العراق .. سيهزمكم عراق واحدا يدافع عن نفسه ضد ارهابكم ، ويرفض أبناؤه ان يختبئوا خلف طوائفهم. 

في الانبار وفي ميسان، كما في النجف واربيل وصلاح الدين والبصرة، كان هناك صوت واحد لعراقيين حقيقيين يحملون هذا الوطن في ضمائرهم.