فهد الأَسدي.. علمنا الحرف الأِول والإِعجاب بحمامة السَّلام

Saturday 12th of January 2013 08:00:00 PM ,
العدد : 2698
الصفحة : عام ,

قيل لنَّا، وهكذا قرأنا في كتب التَّاريخ القديم، أن الأبجدية اُخترعت بأرض سومر جنوب العِراق، وأن منطقتنا القصية، وسط الأهوار الشَّاسعة آنذاك، كانت جزءاً مِن سومر، فبين الحين والآخر كان يعثر السَّفانون بطابوق مِن النَّوع العريض تحت الماء بين غابات القص


قيل لنَّا، وهكذا قرأنا في كتب التَّاريخ القديم، أن الأبجدية اُخترعت بأرض سومر جنوب العِراق، وأن منطقتنا القصية، وسط الأهوار الشَّاسعة آنذاك، كانت جزءاً مِن سومر، فبين الحين والآخر كان يعثر السَّفانون بطابوق مِن النَّوع العريض تحت الماء بين غابات القصب والبّردي، وأن أمهاتنا يتحدثنَ عن قدماء كانوا يعيشون في هذا المكان، لكن إهانتهم للنِّعمة، ويعنينَّ الخبز بالتَّحديد، غضب الله تعالى عليهم وقلب ما فوق الأرض تحت. حقيقة كنا نتعامل مع النِّعمة على أنها الخبز والرُّز فقط، إما بقية الطَّعام فليس منها.

صاغ فهد الأسدي أسطورة الأهوار، المسماة بـ"حفيظ"، في قصة لما قرأناها فهمنا أنها أحد روافده في أن يكون أديباً، وأديباً كبيراً، ولم نقرأها إلا بفضل أنه كان معلمنا للحرف الأول "دار دور"، "قدري قاد بقرنا". كبرنا وكبر معنا الحرف الذي علمه لنا فهد الأَسدي، حتى قرأنا قصصه ورواياته، وبينها أسطورة "حفيظ"، تلك التي كنا نعيشها بعد غروب الشَّمس، فبيوت القصب مطلة على متسع مِن الأهوار وأفق بعيد تجدح منه نار، قيل لنا إنها نار "حفيظ"، الذي ما أن تصل القوارب إلى جزرته، وسط الماء، لا تتحرك بعدها إلا بعد أن يُفرغ  ما أُخذ مِن ترابه، إنه حارس قديم بِقدم ذلك الطَّابوق الغائص في الطين تحت الماء. تلك هي أول قصة قرأتها لمعلمنا حروف الأبجدية، وكنا ندرسها ليس على الطريقة الشَّرقية القديمة: (أبجد هوس)، ولا على الطريقة الأندلسية: (أ ب ت ث)، إنما مِن القراءة الخلدونية، التي ألفها التُّربوي  ساطع الحُصري (ت 1968).
كان فهد الأَسدي أديباً مطبوعاً، وعندما نقول مطبوعاً نعني أي صاحب ميول يكتشف في البيئة ما لا يكتشفه غيره، وكانت بيئة تساعد على الخيال لمَن يُجيد التَّخيل وقادر على فرشه على الورق، والبداية كانت في أساطير الأهوار، ولا نقول خرافاتها وشعوذاتها، فالخرافة والشّعوذة تستهلك العقول بينما الأساطير تنميها وتخلق فيها الاستعدادات، وهي مجذرة مِن الواقع، وذلك موضوع آخر.
تعلمنا مِن فهد الأسدي، ونحن في الأول الابتدائي، وربّما الثَّاني، كيف نحب طير الحَمام، قبل أن نقرأ قصة الطَّوفان، وعودة الحَمامة بغصن أخضر إلى النَّبي نوح، كي يُعلن بداية عصر آخر. في ذلك الوقت كان معلمنا يصنع مجسم الحمامة البيضاء ويُعقلها وسط المدينة، أمام بناية مدرستنا، التي تأسست العام 1924. كانت الحَمامة كبيرة الحجم، تحمل بمنقارها خصناً أخضرَ، إنه السَّلام. كنا صغاراً لم نهتم بنزاعات تلك الأيام الشَّرسة، لكن وقوفنا تحت ظلال مجسم الحمامة يطول لساعات، مع صوت معلمنا فهد الأسدي يخطب في احتفال أو حشد، لم يكن حزبياً لكنه قطعاً كان مِن أهل اليَّسار.
أتذكره جيداً عندما انطلق مسرعاً ليقف أمام حشد الغوغاء، الذين أسرعوا نحو دار أحد أعمامي، وكان رئيساً للبلدية، للفتك به، على أنه مِن بقايا الإقطاع، ومِن أعوان العهد الملكي (البائد)، فسمع الجمع لكلمات فهد الأسدي، وهو يرفع نظارته السَّميكة مِن الأرض ويمسح عنها التُّراب، وارتد الغوغاء ولم يفعلوا فعلتهم. مِن تلك اللحظة، التي كنت أقف فيها عند زاوية مِن الطَّريق قريباً مِن مجسم حمامة السَّلام، أيقنت أنه يعنيها أي يعني السَّلام.
بعد عشرة أعوام تبدلت الأدوار فجاء غوغاء مِن نوع آخر، هؤلاء لم يردهم معلم أو رجل دين، فهم السُّلطة، بينما كان السَّابقين على هامش السُّلطة أو كثرتهم أوحت لهم بذلك. جاء رجل الأمن يبحث عن فهد لأنه عاد إلى المنطقة بعد فراقٍ طويل، وسمعته يقول: أين هو سأغرس زجاج نظارته في عينيه، أخالها هي النَّظارة نفسها، التي كاد يسحقها الغوغاء، لكنهم لم يجرأوا، أو أن أخلاق تلك الجماعة كانت أقل شرِّاً. حينها أسرعنا إلى بيت معلمنا الأول نحذره مِن تهديد رجل الأمن، فغادر المكان.
كبرنا وصِرنا نقرأ لفهد الأسدي، ونجالسه في اتحاد الأدباء ببغداد، ونعطي رأينا في ما يُكتب، لكن ليس بما يكتب هو، فمَن يجرأ! كان عبد الأمير الحصيري (ت 1977) الشَّاعر الصَّعلوك، وهذا للمدح وليس للذم، الموهوب في الشِّعر، موهبة فهد الأسدي في الأدب، يقطع على فهد سيل حديثه الهادر مِن فم مفوهٍ، ببيت شعر أو طلبٍ ما، ويغضب منه معلمنا إلا أنه لا يغادر الطَّاولة إلا بتلبية طلبه.
كان معلمنا الأول مركبا مِن المواهب، كاتبا فذا، وخطاطا يرسم الكلمات رسماً، وخطيبا أمام الجموع. عندما أهداني مجموعته القصصية "طيور السَّماء" (1976)، أخذت احملها معي ليس لقراءتها إنما كي يرى زملائي الإهداء، وبأني أعرف فهداً منذ القِدم، بدليل ما خصني به مِن كلمات، وعندما كنا نجالسه في مقهى أو أسايره في طريق يحدو بنا الغرور حدوه إلى التلفت كي نثبت نحن أصدقاء مثل هذا الرَّجل. آخر مَن ودعت، قبل خمسة وثلاثين عاماً، هو فهد الأسدي، وأول مَن ألهف لرؤيته بعد تلك السنين هو فهد الأسدي.
عاش فهد إلى زمان أغبر، الثَّقافة فيه تحولت إلى ابتذال، وزمن لا يطربه سوى الصِّراخ والأنانيات وكائنات لا ندري مِن أي كوكب نزلت، ولا تهزها سوى الشَّعوذة. فهد هو حفيد عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ)، ليس لبشرته السَّمراء، فالجاحظ كان كذلك، إنما حفادة (إذا جاز لنا الاشتقاق) الأدب الرَّاقي، والقلم السَّيال، والمكان الذي اهتم به الجاحظ، واعتبر الماء بعد خروجه مِن غابات القصب والبردي، متجهاً إلى البصرة، هو أعذب المياه وأصفاها، كذلك ظل فهد وفياً لذلك المكان، وكتب مِن أجوائه رائعته "الصَّليب – حَلب بن غْرَّيبَة". وكنا نعرف مَن هي غَرَّيبة! في الأسبوع الماضي مات فهد الأسدي، فسقط واحد مِن المُتأملات!