التقاطات ناظم رمزي

Sunday 13th of January 2013 08:00:00 PM ,
العدد : 2699
الصفحة : عام ,

يسبغ النقاد على الشعراء صفة <الرائي>؛ الرائي، الذي بوسعه أن "يرى" ما لا نرى!، وأن يستشف في العادي والمألوف، حدثا غير عادي وغير مألوف. من هنا ميزة وتميّز ما يقول، رائيا ومستشرفاً الإبداع في  الكثير بما يحيطنا وما يشكل بيئتنا، مثيرا دهشتنا ل

يسبغ النقاد على الشعراء صفة <الرائي>؛ الرائي، الذي بوسعه أن "يرى" ما لا نرى!، وأن يستشف في العادي والمألوف، حدثا غير عادي وغير مألوف. من هنا ميزة وتميّز ما يقول، رائيا ومستشرفاً الإبداع في  الكثير بما يحيطنا وما يشكل بيئتنا، مثيرا دهشتنا لما يقدمه لنا من رؤى و..رؤيا. وصفة الرائي بمواصفاتها تلك، يمكن لها أن تنعكس، بسهولة، على إبداعات "ناظم رمزي" (1928) المصور الفوتوغرافي المعروف، تلك الإبداعات "الرائية" والمدهشة والتي بمقدورها أن تجد وتكشف لقطات إبداعية عالية الفنية في الأماكن العادية نتفاجأ كيف أننا لم يتسنِ، سابقا، رؤيتها. لقد أنجز الفنان عدداً كبيراً من تلك اللوحات المبدعة على مدار مسار حياته العملية الطويلة. ومجموعة صور كتاب "جولتي مع الكاميرا"، الصادر حديثا (2010)، عن دار الأديب للصحافة والنشر في عمان/ الأردن (80 صفحة بالقطع الكبير)، تؤكد أهمية ذلك المسار الفني التصويري الإبداعي وترسخه في الخطاب. وهذا الكتاب هو الرابع في سلسلة الكتب التي أصدرها رمزي  والمتضمنة نماذج من لوحاته الفوتوغرافية المميزة، التي يعتز المنجز الثقافي العراقي والإقليمي ويفتخر بقيمتها الفنية العالية. إذ سبق ان صدرت له الكتب الآتية: "العراق: الأرض والناس" (لندن، 1989)، و"من الذاكرة" (بيروت، 2008)، وكتاب "العراق: لقطات فوتوغرافية لبعض ملامح الحياة في القرن العشرين" (بيروت، 2009).

يوثق كتاب "جولتي مع الكاميرا"، لقطات مشغولة أثناء أسفار ناظم رمزي إلى بلدان عديدة خارج بلده العراق، وتحديدا لبنان ومصر وتركيا وجيكوسلفاكيا وفرنسا وانكلترا. إنها لقطات فضلا على أهميتها الفنية العالية، فإنها تؤرخ لحيوات وبيئات، هي الآن نص محفوظ في صفحات الماضي، ماضي المدن المزارة وشخوصها الحيويين. فبعض صور الكتاب تعود إلى حقبة الخمسينات، ومعظمها يرجع إلى العقد الستيني. وهي مثلما تعد جزءا من ذاكرة الفنان/ المصور، وأسلوب مقاربته للحدث المرئي، فانها ايضا تشير الى شخصيته. ذلك لان <الصورة الملتقطة - كما يقول المصور السويسري "رينيه بوري" (1933) Rene Burri  المعروف عالميا بالتقاطه صور "جي غيفارا" الشهيرة- لا تكتفي  بان تكشف وتوضح ما يحيطنا، انها تكشف ايضا طبيعة وشخصية الفرد الواقف خلف الكاميرا>!.

ثمة اهتمام كبير يوليه ناظم رمزي إلى بيئة المدن المصورة ومفرداتها العمرانية المتنوعة: شوارعها ومبانيها وتفاصيلها العديدة المؤثثة لفضاء تلك المدن. لكن الأهم في ذلك هو حضور الإنسان فيها، الإنسان بكل حالاته. ونادرا ما تخلو صوره من وجود إنسان. (في كتابه الاخير، احصيت ست صور فقط من مجموع صور الكتاب المنشورة التي تفتقد حضور القوام الإنساني فيها!). ثمة دلالات ترمز إلى اهتمام الفنان ببنى شخوصه الملتقطة. فهو متعاطف لفرحهم وترحهم، ومشارك في تجمعاتهم كما انه شاهد أمين على تنوع أمزجتهم وتعدد مظهرهم المثقل بالإيحاءات. من هنا يتعين فهم طبيعة "الرسالة" التي يود ان يبعثها الفنان/ المرسل إلى المتلقي. فحالات مدنه من حالات شخوصها؛ هم الذين يمنحوا صفة الحيوية والانتماء والالفة اليها. لقد لاحظ احد النقاد المعماريين مؤخرا، بان تخطيطات المشاريع المعمارية المعاصرة، المشغولة آلياً، تخلو من وجود لرسوم الناس، الذين كانوا في السابق، جزءا لا يتجزأ من مفردات مخططات المشروع المقترح. فبهم يمكن التعرف على مقياس المبنى وتحديد مقاسات عناصره، كما ان حضورهم يضفي على اللوحة المرسومة احساسا بانتماء المبنى لهم ويؤكد علاقتهم به. ويتساءل في الاخير، هل من ثمة دلالة مقصودة بخلو لوحات المشاريع المعمارية من حضور الناس فيها؟ هل ان ذلك الخلو كناية عن "غربة" العمارة المعاصرة عن متلقيها او حتى مستخدميها؟ ولعل نوعية اللوحات الفوتوغرافية المشغولة من قبل رمزي، المسكون بإحساس الالفة والانتماء وعدم التغريب، يمكن لها ان تشكل صيغة جواب عن مثل ذلك  التساؤل المطروح.

توضح صور "جولتي مع الكاميرا"، مرة اخرى، مهارة ناظم رمزي ومقدرته في تأليف لوحات فوتوغرافية فنية عالية الجودة، ان كان لجهة الصياغات التكوينية المعبرة، ام لناحية حرفيته المكتملة في التعاطي مع آلته التصويرية، ومعارفه الدقيقة والشاملة في إجراءات ما بعد التصوير. لكن ما يسم صور رمزي بشكل عام، هو جهوزيته وحضوره في اللحظة المناسبة إياها، التي تتجمع فيها كل عناصر التكوين الناجح: من مفردات الصورة المستقبلية، وتآلف تلك المفردات فيما بينها، وعن حضور كمية الضوء والعتمة المناسبيين، وعن اختيار وضعية ومكان الالتقاط؛ وبالطبع وجود الكاميرا مع الفنان في ذلك الوقت المحدد. وهذا التجمع النادر، الذي يدعوه المصور الفوتوغرافي "هنري كارتييه- بريسون" (1908-2004) Henri Cartier- Bresson  <باللحظة الحاسمة>، هي التي يصفها المصور الفرنسي العالمي، بكونها "شعور حدسي أكثر منه.. فني!". وهو تصريح يحيلنا، مرة أخرى، للتنبيه، بان عملية "تخليق" الصورة واجتراحها، هي مهمة معقدة وغامضة، وأحيانا غير قابلة للتفسير. وهي بالتالي، توضح لنا ندرة المصور الموهوب في المشهد، رغم وجود عدد هائل ممن يتعاملوا مع الكاميرا اليوم.

تشترك صور الكتاب جميعها، بكونها مشغولة بالأبيض والأسود، وبكونها ملتقطة بكاميرا عادية، اي غير رقمية. كم أن الصور التي نراها في الكتاب، هي ناتج عمل المصور الشخصي وجهده لما بعد التصوير. ثمة إحساس تعبيري ممزوج (هل أقول مدجج؟) بالرمزية، يشع من غالبية الصور المنشورة. وهو احساس سيفضي الى تكوين حالات مزاجية مختلفة ستنتاب المشاهد لحظة تقليب صفحات الكتاب ومشاهدة الصور المطبوعة. اذ سيشعر بالمتعة، مع فرح الناس المبتهجين باللعب، وسينفجر بالضحك، لقاء أفعال شخوص اللوحات و"بوزاتهم" المصطنعة. كما سوف يحس بالألم والتعاطف مع مصائر غير سعيدة لأناس صورهم ناظم رمزي، من دون سابق معرفة. لكن المتلقي سوف يدهش كثيرا لتوقيت فعل اقتناص "اللحظة الحاسمة"، التي يقبض عليها ناظم رمزي باقتدار؛ مانحاً قيمة جمالية مضافة لنا، نتيجة عمله المبدع والمتفرد.

في لوحة "على ضفاف نهر السين، باريس 1965" (ص 24)؛ (وأنا اسمّي صور ناظم رمزي "لوحات"، نظراً لجماليتها ومساواتها مع قيمة اللوحات المرسومة الفنية)؛ في تلك اللوحة إذاً، تحضر مفردات  اللحظة الحاسمة "البريسونوية" (نسبة الى بريسون)، بصورة مفاجئة وسريعة. وسيتواجد ناظم رمزي في المكان إياه، عند "مرورها" تماما، ماسكاً بها، منجزاً لنا لوحة، أراها واحدة من أجمل صور الكتاب، نظرا لتميزها وقيمتها الجمالية الاستثنائية، بالإضافة الى إتقانها الفني والحرفي.

ثمة هندسية طاغية تجزأ اللوحة إلى قسمين متماثلين، يفصلهما خط مستقيم مائل، يحدد منطقة مياه النهر المضيئة، عن منطقة يابسة الساحل المعتمة نوعا ما، والمرصوفة بأحجار تعكس احياناً نقاط الضياء "المسكوب" عليها، مخففة بذلك من لون سواد يابسة الساحل. في أعلى الصورة ثمة جزء لجسر، (نخمن انه "بون نوف"  <الجسر الجديد>)، تشكل قناطره ذات العقود النصفية مع اسقاط انعكاساتها المائية دوائر كاملة، كانت دائما مدار افتنان الرساميين وخصوصا الانطباعيين منهم. تتوازن كتلة عقود الجسر القديم هذه، مع كتلة السلم في اسفلها؛ هو الذي يحضر بمدرجاته الحجرية الواضحة، والمؤكدة من خلال تناوب مثلثات القسم الافقي المضاءة، مع مثلثات أجزائه العمودية المعتمة. ثمة شخص بلباس داكن، يقف اسفل السلم، يماثل وجهه ويداه المضيئتان، لمعان سطوح بعض حجر الساحل المرصوف الواقف عليها. وكما تخفف اغصان الاشجار الجرداء الشتوية المتدلية عند منطقة الجسر من غلواء الهندسية، فان "اثاث" الرصيف النهري المقننة والمبعثرة وكذلك عناصر السلم الذي يقف المصور في اعلاه، تكوّن معادلاً لطبيعة حركة تلك الاغصان العفوية والانعكاسات المتكسرة المائية لقناطر الجسر. واللوحة التصويرية في الاخير، تحمل قوتها التكوينية في ذاتها، وفي الصيغة التى تطالعنا: هندسية تماما، ومتماسكة تماماً، ومتضادة تماما. قادرة على خلق انطباعا يشي بالحيوية المفعمة بالبهجة، يدهشنا كيف تمكن رمزي من التعبير، بفنية، عن كل ذلك!.

ليست في النية، بالطبع، الحديث عن مجمل صور الكتاب، معترفاً بان المتلقي له تمام الحق في كيفية "رؤية" ما يراه من الصور المنشورة. لكني أتوق في هذه المقالة، ان اعبر عن رؤيتي السريعة والشخصية عن بعضها. وأشير الى صورة (الشتاء في باريس، 1965). انها لوحة مميزة، تعبر تراتبية وتسلسل وضعية سيقان اشجارها المضاءة جزئياً، عن تميزها واكتمالها. اما صورة (جسر الغرباء، باريس 1965)؛ فانها تعكس بأرضيتها الخشبية الشاغلة لأكثر من نصف تكوين اللوحة، مع " ضجيج" عناصر الجسر التركيبية، بالإضافة الى وجود شكل Figure  المرأة الوحيدة الداكن، تعكس موضوعها باختزال كبير، موحية "بالغربة" التي يستمد الجسر اسمه منها. في صورة "كنيسة سان جيرمان، باريس 1965)، يصل المعنى الرمزي سريعا ومباشرة الى المتلقي، عبر تمثال المسيح المصلوب، والمعلق في اعلى الصورة، و"خوازيق" السياج الحديدي المدببة، في أسفلها. ثمة تدرج متعدد الأشكال والتنوع، يشغل منظور لوحة " هايد بارك، لندن 1992)، مؤلفا مفردات تكوين تلك اللوحة المعبرة، وهي بالمناسبة الصورة الوحيدة الأحدث تاريخا من كل الصور المنشورة في الكتاب. لكن لوحة (زقاق في مدينة رين، فرنسا، 1965)، تشير الى ولع الفنان وحبه للتفاصيل المعمارية المميزة والغريبة.  والكتاب، في الاخير، حافل بالصور ذات المستوى الفني الرفيع.

يختتم ناظم رمزي كتابه بصورة، نعتقد ان وجودها في الكتاب، يثير تساؤلات عدة، إن لجهة موضوعها، أم لناحية مرجعيتها المكانية، ام حتى لقيمتها الفنية. نحن نتحدث عن الصورة الأخيرة، التي عنونها الفنان بـ (رقصة غجرية، الراشدية- بغداد، 53-1954). يتعين التذكير مرة أخرى، بان طريقة قراءة النص الإبداعي، كما تتيحه منظومة النقد الحداثي، هي طريقة خاصة وذاتية، تتشكل طبقاً لنوعية ثقافة القارئ نفسه. بمعنى آخر، ان كل نص إبداعي يتحمل قراءات متعددة، وهو بالتالي لا يقتصر على معنى واحد. من هنا، قيمة النص وغناه ... واثره ايضا. بل ويذهب بعض النقاد، الى إجازة قراءة النص بمعزل عن قصد المؤلف ورغبته. ثمة اذا، قراءة روج النقد الحداثي لها واسعا، مفادها "موت المؤلف" بمعناه <البارتوي> (نسبة إلى الناقد الفرنسي رولان بارت)، التي تعتمد على تحرير النص من سلطة مؤلفه. والإشارة الى هذه الأطروحة، هنا، يعدّ أمراً ضرورياً كي يمكن قراءة  صورة <رقصة غجرية> المنشورة في آخر الكتاب قراءة خاصة تقترب من الموضوعية. لنبدأ اولا، من المرجعية المكانية. فالصورة هنا تبدو خارج السياق المعتمد في اختيار صور الكتاب. انها "خارج المكان"؛ فجميع الصور ملتقطة في أمكنة خارج العراق، إلا هذه. وازعم، ثانياً،  ان "فنيتها" ليست على قدر كبير من الاثارة، وليست فريدة في تكوينها: ثمة امرأة راقصة محاطة بـ "قوس" من أيادي الرجال الراقصين. والتساؤل هنا، يظل مشروعا، لماذا اصرّ الفنان اذاً، على ان تكون ضمن صور الكتاب، رغم  انها لا تعود لا الى "ثيمته"، ولا تعد من روائعه الفنية؟ يبقى اخيرا امر "موضوعها". هل بمقدوره ان يكون ذريعة لذلك النشر؟ ربما. فثمة ارتباط قوي (يشي، الآن، بالرمزية)، بين الغجر والترحال، الترحال المستمر والدائم حد اللعنة. فالغجر مسكونون به، وأصبح جزءا من ثقافتهم. إنهم "خارج المكان" دوما، وهم وان سكنوا في ارض محددة، الا ان توقهم الحقيقي هو مكان آخر.

أيريد الفنان أن يرسل لنا رسالة ما ، عبر نشر هذه الصورة؟

هل أراد "رمزي"، من خلال تلك الصورة، التعبير رمزياً عن مصائر كثر (وخصوصا العراقيين الذي هو احدهم)، والذين كتب عليهم التجوال والترحال، وفرض عليهم أيضا البقاء "خارج المكان" بلغة ادورد سعيد، يسكنون ارضا، وعيونهم  تنظر نحو آخرى؟.

قد لا يكون نشر الصورة سببه تلك التساؤلات، بل وربما لم يقصد الفنان أصلا إثارة مثل تلك التساؤلات، فقد يكون نشرها اعتمد على الصدفة، او بموجب سبب آخر لا علاقة له البتة بما افترضنا. ربما كان  هذا الامر صحيحا، بيد أن الاسئلة التي يطرحها أمر وجود الصورة في الكتاب، تستدعي إجابات عنها من قبل المتلقي بطريقة ما.  وقد تكون قراءتنا الخاصة لتلك الصورة، إحداها.  

في حديثي الهاتفي مع ناظم رمزي، الذي به وددت أن اعبّر له عن امتناني العميق لإرساله الكتاب إياه، تحدث بتواضع جم، عن بواعث إصداره الكتاب معللاً رغبته تلك، في ان يرى الآخرون نتاجه الفني، النتاج الذي ماانفك معظمه محصورا في كوادر أشرطة أفلامه العديدة. لكنه استدرك بحسرة، متسائلا هل ظل احدٌ، الآن، يهتم في مثل هذا المنتج؟

أيها الفنان العزيز، لقد أرسيت بنشاطك واهتمامك، وأسست بجهدك جنساً إبداعياً، أثرى خطاب ثقافتنا وأغنى ذائقتنا الفنية بجماليات مميزة. نحن ندين لك بهذا. وأعيد، هنا، مرة أخرى، ما كتبته عنك، محتفيا بنشاطك وفنك، رائيا فيه ردا مقنعا عن تلك التساؤلات التي أثرتها: " ... ولئن كان البعض الان كما في السابق، لم يقدّر ولا يعير اهمية لطبيعة الثروة المعرفية التي تمثلها تلك الصور للعراق ولتاريخه.. ولمستقبله ايضاً، فان ذلك يدخل في باب الجهل والتجهيل الذي ابتلى به البلد على مدى عقود كثيرة. وسيأتي يوم، عاجلا ام آجلا، يقرّ به العراقيون، ولا سيما الباحثين والمصورين على وجه التحديد، بالدينّ الذي "لرمزي" عليهم".

تحية لك، أيها الفنان، لعطائك ومنجزك المهم... والمطلوب.

وشكرا لك، على كتابك الأخير وصوره الرائعة.