مُضناكَ جفاهُ مرقدُهُ

Saturday 8th of June 2013 10:01:00 PM ,
العدد : 2813
الصفحة : الأعمدة , طالب عبد العزيز

في غيابة جب ما يجري من أحداث دموية داخل العراق، قد لا يجد أحدنا الفعل المناسب، الكلمة المناسبة، الدمعة المناسبة حتى، للعثور على فرصة التوازن حين يصبح التفكير بحقيقة ما يحدث عصيا على الفهم ومستحيلَ النهايات.
في دوامة كهذه نلجأ أحيانا للقراءة مرة وسماع الموسيقى مرة أخرى بل وأحيانا ممارسة أفعال هي خارج رغباتنا في العادة. لا لشيء إلا لأن ما يجري من حولنا أكبر مما يتصوره العقل، ولأن أية قراءة تقريبية مستقبلية إنما تقع فوق مستوى الإدراك. هل جن الشعب؟ هل جننا جميعا حتى باتت ممارسات كهذه طرائق ناجعة للتوازن، وخلاصات نهائية للتعبير عمّا يجري؟ هل هي محاولات للتوازن بالفعل، أم هي في يقيننا الكلي محاولات للجنون والهروب مما يقع؟
أنا أسمع رائعة محمد عبد الوهاب التي كتبها أحمد شوقي (مضناك جفاه مرقده) بصوت المطربة المصرية الجميلة أنغام ثم أبكي وأضرب يدي على الطاولة وأصرخ مع المقطع الثاني حيث تقول:
جحدتْ عيناكَ زكيَّ دمي – أكذلكَ خدُّك يجحدُهُ
قدْ عزَّ شهوديَ إذْ رمتا - فأشرتُ لخدِّكَ أُشْهِدهُ
وأظل منفعلا شاكيا مع الأغنية التي أعدت سماعها مرات ومرات، لا أعرف ما إذا كنت أعاني من ألم جرح وجداني عميق أنفغر الآن لسبب أجهله، لكني متأكد بأن القضية أعمق من أغنية لأنغام، وأكبر من هزيمة في قضية عاطفية.
تحدثنا كتب التأريخ ونلمس عن قرب حقيقة عراق قوي، مزدهر زراعيا، فيه من النفط ما يمكن أنْ يذهَّبَ بأمواله كل شبر من شوارعه، وهناك مستقبل واضح اليسر والتحقق لأبنائه يكمل ذلك تمتعه بموقع جغرافي بتوسطه بين الشرق والغرب، وهناك العشرات من الدلائل التي تشير إلى أن الثروة الكبيرة هذه قادرة على جعل السكان هنا من أسعد شعوب الأرض، لكن ما نحياه لا يمت بصلة لأي من ذلك. كان الاعتقاد السائد بأن أصل المشكلة العراقية يكمن في نوعية النظام الحاكم، وجرى الحديث عن الاستعمار في العهد الملكي ثم الانقلابات العسكرية بعد ذلك وصولا إلى نظام صدام حسين بحروبه وحصاراته وقمعه للشعب وتدميره للبنى التحتية حتى بلغنا سقوطه المدوي في ربيع 2003 وكانت السنوات العشر الماضية هي الأسوأ والأكثر دمارا والأغمض نهاية. هل حرّكت الأغنيةُ القضية بهذا الاتجاه؟
إنني أتذكر الذين يبكون مع الفواخت بصوت داخل حسن، وتتكسر أرواحهم مع جرار الماء في حنجرة زهور حسين، وينوحون مثلما الثكالى مع كربلائيات ياس خضر ورياض أحمد ثم أسأل: هل يُبكي العراقيين الحبُّ؟ وأشكُّ كثيرا في ذلك!
تقتل وتجرح التفجيرات المئات في بغداد، وفي يوم واحد ولا تكف التفجيرات فتحصد في اليوم الثاني العدد نفسه أو أقل بقليل. تسأل أصدقاءك هناك عن الحال العام فيقولون لك بأن ما وقع كان فضيعا ومروعا، لكن الحياة كما هي عليه بالأمس، لا شيء يثير أكثر في استمراء غريب للموت والقتل، وهناك ألفة غير متوقعة. المسؤولون السياسيون والأمنيون لا يتجنبون الخوض في تفاصيل الأحداث، هناك من يبرر ويرى بان التفجيرات يمكن السيطرة عليها، ولا بد من تعاون المواطن مع السلطات الأمنية. ويتحدث رئيس الوزراء في زياراته الميدانية عن شحذ الهمم والتصدي للإرهاب، ولا يبخل المحللون علينا بعشرات الرؤى والتفسيرات التي تقرب وتفكك في آن. وتسمع أحاديث في نبذ الطائفية والمذاهب والخطب لكنك في النهاية لن تعثر على من يقول لك باسم من يقف وراء ما يحدث، ولا أحد يسمي أحداً، والكل ينكر والكل يدين، والكل يتبرأ، ووفق المعادلة هذه سيكون الجميع هم السبب، ويكون الجميع وراء ما يحدث، ووراء عزوفنا عن المتابعة والرصد، ووراء هروبنا تجاه ممارسات هي خارج رغباتنا، بمعنى آخر وراء النكوص الذي كثيرا ما يخجلنا من الداخل.
أقرأ وأرى في بوستات الأصدقاء على الفيسبوك العشرات من المقاطع والصور، في ممارسة شبه غريبة ومجنونة. ربما يتبادلون الطرفة والحديث العابر والأمل، وهناك من يتحدث عن طموحات بنهاية لما يحدث من موت وفجائع، ببداية لنهاية الحرب. ومن خلل البدايات والنهايات تلك، من بعيد.. يجيء صوت انغام فأصرخُ مفجوعاً:
مُضناكَ جفاهُ مرقدُهُ - وبكاه ورحَّم عوّدُهُ
حيرانُ القلبِ معذبُهُ - مقروحُ الجَّفنِ مُسهَّدُهُ.