وما تُفلِحُ عُرْبٌ مُلوكُها عَجَم ُ

Saturday 27th of July 2013 10:01:00 PM ,
العدد : 2854
الصفحة : الأعمدة , طالب عبد العزيز

 بيت المتنبي الذي يقول فيه: "وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ وَما -- تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَم " كثيرا ما ينطبق على واقع حالنا اليوم، ذلك لأن وصف "الأعاجم" ينطبق تماما على الزعامة العراقية، لا لعجمة في ألسنتهم، إنما لأنهم فشلوا في قيادة الجموع وصار بعضهم اعجميا بمعنى الجماد (الذي لا يفكر(.
وكانت العرب قديما تفرّق بين (أهل المدر وأهل الوبر)، وأهل المدر هنا هم العرب المستقرون في بيوت الحجر، فيما يبدو واضحا أن أهل الوبر هم سكان الخيام المترحلون. وما نلمسه من جوقة الحاكمين لا يختلف عن ما ذهب إليه المتنبي العظيم في بيته هذا، إذ من غير المعقول أن محافظا واحداً، عضوا في البرلمان، زعيم حزب سياسي من أهل البصرة، لم يستوقفه مشهد غاية في الجمال والأناقة مثل مشهد شط العرب ساعة تغرب الشمس ويصطبغ الماء بحمرة الشفق، ساعة تنسحب الظلال الخضر من مسرح الطبيعة المذهلة تلك داخل الأنهار الألف لكي يقف ويصرخ بكل ما في فمه من سعة الاشداق قائلاً: هذه مدينة تستحق منّي أن افعل لها المستحيل.
 ولأنهم أعاجمُ بكل ما في الكلمة هنا من معنى (الجماد واللاعقل)، لم يصنعوا لها أي شيء من الذي تستحقه، تركوها كأية خرقة وسخة من ثيابهم، لا بل خرّبوا ما كانت عليه من جمال وأناقة ذات يوم، حين كان ولاتها من أهل المدر، وليس بينهم من اهل الوبر من أحد.
ولكي يمعنوا فيها قذارة اشتروا الأرض والسماء والرياح والشموس والأنهار وكل ما يحيط بها من الفة ورقة وطيبة، اشتروا الدور والبساتين والجسور والضفاف. ولأنهم أهل وبر بحق فقد جرّفوا النخيل حين أرادوا من الأرض الخضراء تلك مساكن لهم، وردموا الأنهار حين وقفت في طريقهم، ثم حين طاب لهم المُقام ملأوها بقناني المياه الفارغة وبالإطارات القديمة وبكل ما في منازلهم ونفوسهم من نفايات.
 في البصرة شارع يتيم مشجر بشجرة اسمها أكينو كاربس، كانت لفظتها شوارع دول الخليج، هذا الشارع يتسابق عليه مراسلو الفضائيات ليتخذوا منه خلفية لتقاريرهم، حيث يتحدث المسؤولون عن أفعالهم ومشاريعهم في مدينة أخرى غير التي نعرفها نحن الذين شهدنا عصرها الذهبي، نحن الذين بحثنا عنها في الكتب لنجدها مدينة تتسع على الحلم، وتفيض عن الرؤيا، لا تنتهي بالماء ولا تسبرها عين حكيم عارف، مدينة لا تشبهها مدن الخيال.
حكام البصرة ومنذ 30 سنة عجزوا عن انتشال نهر واحد من انهار المدينة الألف هو نهر العشار، وسط المدينة وظلت رائحته تزكم الانوف، بما في ذلك انوف المحافظين وأعضاء المجالس والمسؤولين كلهم، ولم نر بينهم من قال: آن الأوان لنهاية هذه المهزلة. بل كانوا يمرون على جنازة النهر التي تتعفن كل يوم دونما ضمير يتحرك لدى أحد فيهم.
أتذكر كلمة للمحافظ الأسبق الدكتور شلتاغ عبود "كنت بكيت حال نهر العشار في أول يوم تسلمت فيه مهامي كمحافظ للبصرة". الرجل بكى ولم يفعل شيئاً. وبين الكثير من أعضاء الحكومة اليوم، من يمر بسيارته المظللة ضاحكا ساعة قراءته لهذا العمود. نحن نخرّف من وجهة نظره كما يبدو.
 حيث يجلس محمد "حداد قرية مهيجران" في الدكان المبني من الطين والسعف والجذوع ذاك الذي ورثه عن أجداده، أجلس غريبا فيمضي الزمن بي الساعة والساعتين، زمن بصري حار ورطب، أجول بعيني بين الأرفف التي ملئت مناجل ومحاريث وحبالاً وأشياء كثيرة من التي يستعملها الفلاح، قدّوم بقبضة من عوسج، مسحاة طويلة، فالة مثلوم مشطها الذي ران الصدأ عليه، فأس مشحوذ مقبضها مصقول كأنما طلي بالزبدة، مناجل تكبر وتصغر حتى لتبدو أنها صنعت للأطفال، هي للعذوق العالية وهي للبرسيم والحلفاء.
يقول محمد -ولا يبدو مطمئنا لغده-:" أبو الخصيب لم تعد أبا الخصيب، كان ابي وعمي وأخي الأكبر لا يتمكنون من تلبية كل الطلبات التي يأتي بها الفلاحون، كان موسم جني التمر فرحاً لجميع أهل الجنوب، لا يقدر اهل البصرة على إتمام اعمالهم وحدهم، يأتي كثيرون من اهل المحمرة وعبادان والأهواز والعمارة والناصرية ليعملوا هنا، اليوم لا أجد المشهد الذي ظل أبي يحدثني عنه سنوات وسنوات. لا أعرف ما الذي حدث، الحكومة غير مبالية بالعار الذي يلحقها من قيام اهل البصرة بشراء التمر من السعودية وإيران.  
 هنا يحدثني الحاج عبدالله العيداني وهو مسن ولد حوالي 1918 وعاش ليتذكر رواية والده عن دخول البريطانيين سنة 1916، بأن الحاج نعيم الداوود، صاحب ماركة تمور الداوود الشهيرة، هو احد ثلاثة كتاب استعملهم المستر أندرو ويت، تاجر التمور الانجليزي لتسويق مئات الآلاف من التمر البصري إلى اسواق اوروبا وأمريكا. كان يملك مكاتب لشركته في نيويورك ولندن، واليوم يتسابق تجار التمور في السعودية والكويت وإيران على الدخول لسوق البصرة، ذلك لأن الحاجة للتمر تجري في أرواح البصريين مجرى الدم في العروق، وحكامنا من اهل الوبر نائمون، مقتنعون بما أقره البرلمان لهم من الملايين السحت.