جيل  BP الجديد

Tuesday 6th of August 2013 10:01:00 PM ,
العدد : 2863
الصفحة : الأعمدة , طالب عبد العزيز

كلنا يعترف بان القوى (الإسلامية) التي حكمت العراق منذ العام 2003 حتى اليوم لا تختلف عن سابقتها في كونها لم تتمكن من ترسيخ منظومة القيم الانسانية النبيلة، التي منها المواطنة والإخلاص بالعمل وحب الحياة والتسامح والتساوق مع قيم مواطني الدول المجاورة، بل ان سلوكا غريبا مدمرا اجتاح المجتمع العراقي في ظل حكمهم، كان القتل والكراهية والطائفية والفساد والخراب والجهل من علاماته الفارقة، ولن أقول بان الحكومة الحالية قادرة على الإتيان بجديد وجوهري ذلك لأنها لم تُشرع بعْدُ بالتفكير بإصلاح منظومة القيم الإنسانية تلك التي منها الخير والصدق والتسامح وحب الانسان لأخيه ، بل كما يبدو جليا ان امرا من النوع هذا هو  آخر ما تفكر به التيارات السياسية-الدينية في عراقنا اليوم.
   منذ أكثر من 4 سنوات وشركات النفط العملاقة تتخذ "خائفة" من فنادق الدرجات الرفيعة، متينة الحراسة مقارّ لها، أو يقيم غالبية موظفيها في نهايات الرمل، على مشارف صحارى الزبير والرميلة ومجنون والرطكة، الشركات صعّدت انتاج النفط إلى ما يناهز الثلاثة ملايين برميل يوميا، وبموازاة هذا هناك  شريحة من الشباب البصري العامل في الشركات هذه ممن تعلموا الاختلاط والانضباط والعمل الجاد المخلص وفي المناطق النائية ،الموحشة وسط الصحراء على الحدود وفي الاهوار حين اتيحت لهم صحبة الانجليز والألمان والكوريين والصينين والروس وسواهم، وبذلك تمكنوا من تحسين أحوالهم المعيشية أولا فضلا عن تعلمهم للانجليزية والسلوك المتحضر في الحديث والاهتمام بالمظهر مذكريننا بجيل العاملين الأُول في شركة ( British Petroleum plc ) التي عملت في البصرة بعد الحرب الكونية الأولى.
 جيل (البي بي) البصري القديم الذي أخذ على عاتقه من حيث يعلم او لا يعلم ، انطلاقة المدنية التي منها حب الظهور اللائق والتعلم والاقتداء بمن هو متطور متمدن. ومن يستقصي أسر جيل الموظفين الكبار في شركة النفط الوطنية ودوائر مثل شركة الموانئ والمطارات والسكك الحديد والمتخرجين من كليات الطب والهندسة وسواهم من نخبة المجتمع، يجد ان غالبية آبائهم كانوا من العاملين في شركة البي بي . وبمعنى ما فان جيل ابائنا كان اكثر أحلاما منّا،أكثر تطلعا وأكثر سماحة وتقبلا للآخر المتمدن. ذلك لأن فسحة تقبل الآخر الرسمية والشعبية لديهم كان أوسع .
   على خلاف ذلك نجد أن غالبية قياديي الحكومة العراقية والمحلية في البصرة وسواها من الإسلاميين تحديدا، إنما قَدِموا من منافيهم في أوروبا، وكنا نتوقعهم الأصلح لزعامتنا، لكنهم كانوا نتاج ازمات نفسية هناك، بل عاودوا سلوكهم الريفي- العشائري الضيق والمتخلف حال عودتهم حكّاما ومسؤولين، ولم يجلبوا لنا الحَسِنَ والجميلَ والحضاري في السلوك الانساني التي منها سبل التقدم والتطور في الصناعة والصحة والبناء، ظلت اوروبا في ضميرهم بصورة الكفر والتحلل والحانات والديسكوات لا أكثر، وهنا تبلغ درجة اليأس في نفوسنا أقصاها نحن جيل الحالمين،- أبناء البي بي - اليأس الذي منه استمرار نظام حكم القبيلة والمسجد والمضيف والتكية ،أولئك الذين لم يأخذوا من أساليب الحياة في الدول التي تربوا سوى الثياب ومحاولة الظهور بها بمظهر المتحضر، غير انهم لم يتخلوا عن سلوكهم الذي كانوا عليه قبل مغادرتهم العراق. ولم يكن الدين سوى الجمل الذي دخلوا به  دار الإمارة .
  وبالمقابل من ذلك يجد من سنحت له فرصة اللقاء بالشباب العاملين من البصريين مع الشركات النفطية الأجنبية  الرغبة الخالصة في تعلم الحياة وعلى وفق نمطها الحضري، المتمدن لكنها رغبة مقموعة وغير ممنهجة، ولو أتيحت لهم ولأقرانهم في المدينة والجامعة والسوق والمقهى والشارع فرص اللقاء بالعاملين النفطيين وسواهم من العاملين في شركات البناء التركية وغيرها من مواطني الجنسيات المختلفة لاتسعت مداركهم، وتغيرت وجهات نظرهم في الحب والصداقة والتعلم وممارسة الحياة، وما يجب أن تكون عليه فرص المنافسة والتطور، ولكان لدينا إنسان مختلف في تطلعاته. ولو انتقلت مقار الشركات مع احيائهم السكنية من الصحراء إلى المدينة وضواحيها الداخلية وصرنا نراهم في السوق والسوبر ماركت ومفاصل الحياة الأخرى كما كانوا قبل 70 سنة، لأخذنا عنهم الكثير من طرائق الحياة الحرة الكريمة التي افتقدناها في سنوات الحروب والحصارات والتي اورثتنا التخلف والضغائن والترهات، حتى بتنا معها لكأننا لم نضع الحجارة الأولى في صرح الانسانية الكبير .وهذا مرده إلى أن حكّامنا الجدد لم يتمكنوا من إقناعنا بنموذجهم، ولم يجترحوا لنا سبل الحياة كما يجب ان تكون عليه .   
   ولكي لا نجتهد أكثر نقول: على مدار عقد من الزمان لم يتمكن سياسيونا الجدد من أصحاب الثروات الكبيرة والقادمين على أنهم الرسل، من تأسيس معلم مدني واحد يحمل أسماءهم وبما ينفع الناس، كل فضائلهم -إن كانت لهم فضائل- هو بناء المساجد والحسينيات والدواوين الكبيرة، حتى لكأن البلاد لم تكن مسلمة قبل مجيئهم، إذ لم نرَ بينهم من تبرع ببناء مدرسة، مستشفى، دارا للأيتام ... فيما نقرأ عن اثرياء ومحسنين من العالم انهم بنوا الجامعات والمراكز العلمية والحدائق العامة وأماكن التطبيب والأحياء السكنية وغيرها مما ينتفع منه بنو البشر، وهنا سمعت ممن سمع من أحد أعضاء حكومة البصرة انه قال لرجل مُحسن أراد ان يتبرع ببناء مسجد في البصرة: "يا أخي يكفي مساجد، يكفي حسينيات، نريد مدارس، البصرة بحاجة لأكثر من 300 مدرسة" .
  إسلاميو السياسة، المتأسلمون، حكام العراق الحاليين أوهموا جيلنا الجديد بحياة لا جدوى منها، لا قيمة لها، وما عندك من فقر وجوع وحرمان هو ما يجب أن تصطحبه معك إلى القبر، وهو الخالد الأبدي الذي يغنيك عن كل فعل ،بعد أن أطفأوا جذوة الأمل في نفوسهم، واغلقوا عليهم منافذ النور، بعد ان أشاعوا لغة الظلام ضمن سلسلة ممارسات ليست من الدين في شيء لا أقل منها أن الاختلاط بهؤلاء الأجانب رجس وخطيئة وابتعاد عن القيم الأصيلة حتى بات الرضى بالتخلف في فهم الحياة هناك معادلا موضوعيا لتقبل تدينهم الشاذ الغريب .