رشيد الخيون
ملأت الشَّائعة العراق، وظلت جارية على الألسن منذ إطلاقها إلى يومنا هذا، وما كنتُ أحسبُ أن الرُّكبان سارت بها إلى خارج العِراق، ألا وهي هجاء الشّاعر محمد صالح بحر العلوم (ت 1992) المزعوم لمحمد مهدي الجواهري (ت 1997)، وهما نجفيان ومِن أرومة الأُسر الدِّينية، وتمتد جذور ثقافتهما إلى الحوزة الدِّينية التي ما زالت على تقاليدها، مِن قبل ألف عام، الطالب يختار معلمه، والطلبة يحيطون بأساتذتهم مفترشين الأرض، ولكنهما خلعا عمامتيهما مبكرًا، فانتظم بحر العلوم في اليسار، وظل الجواهري يساريًّا بلا تنظيم وآيديولوجية.
قرأت للأديب “عابد خزندار” في صحيفة (الرياض) السعودية (5 فبراير 2014) خاطرةً تحت عنوان “شعراء أهملهم التَّاريخ”، تطرق فيها إلى السَّيد الحميري (ت 173 هـ) ومحمد صالح بحر العلوم، على أنهما أُهملا بسبب معارضتهما للحكم. فالأول كان شيعيًّا يرى مهدوية محمد بن الحنفية (ت 81 هـ)، والثَّاني كان يساريًّا حزبيًّا.
أما إهمال الحميري فقد قال به صاحب كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني (ت 356 هـ)، وأفرد له فصلاً من كتابه، متوسعًا بأخباره. قال: “مات ذكره، وهجر النَّاس شعره لما كان يفرط فيه من سب أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأزواجه في شعره ويستعمله في قذفهم والطعن عليهم، فتحومي شعره من هذا الجنس وغيره لذلك، وهجر الناس تخوفًا وترقبًا، وله طراز من الشعر ومذهب قلما يلحق فيه أو يقاربه. ولا يعرف له من الشعر كثيرٌ”. (كتاب الأغاني)، مع ذلك اشتهر السَّيد الحميري، لكن ليس كشهرة مجايليه المعروفين. يقول عبد الملك الأصمعي (ت 216 هـ): “قاتله الله! ما أطبعه وأسلكه لسبيل الشُّعراء! والله لولا ما في شعره مِن سبِّ السَّلف لما تقدمه مِن طبقته أحد”. (كتاب الأغاني).
ليس هذا شاهد مدونتنا، إنما الشَّاهد ما جاء في خاطرة خزندار عن الجواهري وبحر العلوم، فهي شائعة حُفرت في ذاكرة الأجيال، مع أنها غير صحيحة، واعذره لأن العراقيين أنفسهم مازالوا يعتقدون ذلك. فما بين الجواهري وبحر العلوم صلات ومساندة، وللجواهري قصيدة في سجن أبي ناظم بحر العلوم. ربَّما اشتهر بحر العلوم داخل العراق وخارجه، بقصيدة “أين حقي”، وكانت مِن الممنوعات رسميًّا، لكن سرت سريان النَّار في الهشيم، وكنَّا نحفظها على ظهر قلب، ولم تنشر مع ترجمته في “شعراء الغري”، ونشرها الأديب ومؤرخ الطبقات العراقية مير بصري (ت 2006) ضمن كتابه “أعلام الأدب الحديث في العراق” (الجزء الثَّالث).
معلوم أن الحزب الشِّيوعي العراقي، كان حزبًا ثقافيًّا إلى جانب أنه حزب سياسي، ففي وقت من الأوقات كان يُعلي وينزل الأدباء والشُّعراء، وسمعتُ مِن قيادي سابق ورئيس تحرير صحيفة (طريق الشعب) (1973-1979) عبد الرزاق الصَّافي أن جنوح بدر شاكر السِّياب (ت 1964) عن الحزب، واتخاذ موقف ضده بشدة، بسبب تقديم الحزب للشَّاعر عبد الوهاب البياتي (ت 1999)، في صحافته وإعلامه، وبالفعل كان السَّياب مندفعًا بحماسة غير عادية مع اليسار، وبين ليلة وضحاها انقلب عليه وأخذ يهجوه.
ما سمعته مِن الشَّاعر الكويتي علي السبتي، في لقاء معه (2011) بالكويت، وهو الذي حمل جنازة السَّياب مِن الكويت إلى البصرة، قد يؤكد ذلك، بعد أن سألته عن سرِّ ما كتبه السَّياب في سلسلة مقالات “كنت شيوعيًّا”، أو ما نقل عن صراعات سياسية عنه. قال: “أنا بقدر ما أُعظم السَّياب شاعرًا مطبوعًا إلا أني لا آخذ عواطفه تجاه الآخرين على محمل الجد، وكان يبالغ في مثل هذه القصص. وأضاف: حصل مرةً أن اتصلوا بي مِن المستشفى لأمر هام بطلب منه، فهرعت إلى المستشفى، وإذا به يقول: الشيوعيون يحاولون قتلي، هناك عصابة منهم دخلت المستشفى (الأميري)! ضحكتُ في داخلي وهونت عليه، وأتيت له بسلاح (سكينة صغيرة) يضعه تحت وسادته كي يحمي نفسه مِن هؤلاء، مع أني أعلم أنه لا يقوى على الحركة، إلا أنه على ما يبدو اقتنع بالفكرة”.
الكاتب السعودي عابد خزندار
لم يُهمل محمد صالح بحر العلوم لا بمدينته النَّجف، ولا ببلاده العراق، فالحزب الشِّيوعي قدمه باسم “شاعر الشَّعب”، أما رسميًّا فمِن المؤكد أنه كان يُلاقي الإهمال؛ بسبب موقفه، ومثلما سيأتي في قصيدة الجواهري فيه أنه كان “ربيب السُّجون”، ومِن غير شهرته بقصيدة “أين حقي” الخطيرة، التي تناولت نقد السِّياسة والمجتمع، فقد نُشر عن حياته وشعره فصل وافٍ في كتاب “شعراء الغري” (شعراء النَّجف)، ولو اطلعت عليها لأخذك الاستغراب والاندهاش، أنه كيف لمثل شعره يُقال ويُنشر بمدينة النَّجف، وفيه نقد حاد للمؤسسة الدِّينية (مثل طرقت على الحقيقة ألف باب 1926)؟ كذلك له قصائد مبكرة ضد “الطائفية”(1934). لكن بحر العلوم تلك الأيام غير ما رأيناه في شيخوخته، وقد قرأ قصيدة في مجلس التضامن والسلم ببغداد (1975)، ليست مِن عيون شعره المعروف عنه، بمناسبة انتصار فيتنام، وكان قد قدمه الوزير مكرّم الطّالباني.
قال الجواهري في بحر العلوم، وكان الأخير رهين سجن نقرة السَّلمان الرَّهيب في صحراء السماوة (1965):
يا أبا ناظم وسَجنك سَجني ** وأنا منك مثلما أنت مني
وأنا منك في المودةُ حيثُ الـ ** مرءُ سيَّان علمه والتَّظني
أنا عِرقٌ في جسمك النَّابض الحيَّ ** ولمحٌ مِن عقلك والمستضنِّ
(إلى قوله) يا ربيب السّجون، لا المتنبَّي ** عقَّ مَن ربَّه (يربيه) ولا المتُبنَّي
(قصيدة أبا ناظم 1965).
هذا والقصيدة طويلة. أقول: ليس مِن طبع الجواهري أن يُسامح بسهولة، ولو كان بحر العلوم قد قال: “صه يا رفيع” ما غفرها له.
بعد هذه القصيدة نأتي على قضية “صه يا رقيع” مَن قالها وما هي المناسبة؟ هنا يفيدنا الأديب والصحافي العراقي اليهودي مراد العماري (ت 2012)، الذي كان منذ الأربعينات، مِن القرن الماضي، صحفيًّا محترفًا، ويعرف الجواهري عن قُرب، ظل يُقاوم الهجرة والتَّهجير عن بلاده حتى مطلع السبعينات من القرن الماضي. كتب تحت عنوان “قصيدة التَّتويج”، مصححًا ما شاع عمَن هجا الجواهري بسببها.
كانت المناسبة تتويج الملك فيصل الثَّاني (قُتل 1958)، وهي عندي مِن أجمل قصائد الجواهري، وكتبتُ أكثر مِن مرة أن كلَّ ما قاله جميل ولم يكن يبالغ في ما نظمَ:
أبا الشِّعر قُل ما يعجبُ الابن والأبا ** وهل لك إلا أن تقول فتُعجِبا (1979).
لكنه للأسف لم ينشر قصيدة التَّتويج (1953) ضمن دواوينه، وكأنه قد تبرأ منها. فعلى حد كلام مراد العماري، كان قد مدح جد الملك وأباه وأعمامه، فلماذا هذا الموقف؟ حتى سماها في مذكراته بـ”الزَّلة”. أقول: لعلَّ للهجاء تأثيرًا، أو أنها جاءت في فورة حراك سياسي، وأكثر مِن هذا قد يكون لمقتل أخيه جعفر (1948) أثر، مع علمنا أن الجواهري كان قد عمل في التَّشريفات الملكية في عهد فيصل الأول (ت 1933).
جاء في “التَّتويج”:
ته يا ربيع بزهرك العطر النَّدي** وبضوئك الزَّاهي ربيع المولد
باه السَّما ونجومها بمشعشعٍ ** عريَّان مِن نجم الرُّبى يتوقدُ
وإذا رمتك بفرقدٍ فتحدها** مِن طلعة الملكِ الأغرَ بفرقدِ
(إلى قوله):
أشرق على الجيل الجديد وجدِّد** وتولى عرش الرافدين واصعد
أنا غرسكم أعلى أبوك محلتي لُطفًا** وشرف فضلُ جدك مقعدي
فجاء الهجاء على لسان إبراهيم الخال، واشتهر خطأً لمحمد صالح بحر العلوم، وهذا يريك أن الخال لم يكن مشهورًا، وظل هكذا، بينما شهرة الجواهري طافت الآفاق. قال الخال مما قال:
صه يا رقيع فمَن شفيعك في غدٍ** فلقد خسئت وبان معدنك الردي
وهذا ما اشتهر مِن القصيدة.
لم يُهمل محمد صالح بحر العلوم لا بمدينته النَّجف، ولا ببلاده العراق، فالحزب الشِّيوعي قدمه باسم “شاعر الشَّعب”، أما رسميًّا فمِن المؤكد أنه كان يُلاقي الإهمال؛ بسبب موقفه المعارض
كان رد الجواهري أكثر شهرة حين قال:
عدا عليَّ كما يستكلبُ الذِّيبُ** خلقٌ ببغداد أنماطٌ أعاجيبُ
خلقٌ ببغداد منفوخٌ، ومُطَّرحٌ** والطَّبلُ للنَّاس منفوخٌ ومطلوبُ
خلقٌ ببغداد ممسوخ يفيضُ به** تأريخ بغداد لا عربٌ ولا نوبُ
إلى قوله:
مشت إليَّ بعوضات تُلدِّغني**وهل يحس دبيب النَّمل يعسوبُ
تسعون كلبًا عوى خلفي وفوقهم** ضوءٌ مِن القمر المنبوح مسكوبُ
ممَن غذَتْهم قوافيَّ التي رضعتْ** دمي فعندهم مِن فيضه كوبُ
مِن قبل ألفٍ عوى ألفٌ فما انتقصت**أبا المحسَّد بالشَّتم الأعاريبُ
(قصيدة كما يستكلُ الذِّيب 1953). ولكم تفسير قوله: “خلقٌ” لا “قومٌ”!
ومع أن للحزب الشِّيوعي موقفًا حادًا ضد نظام العهد الملكي، فالسجون كانت مفتوحة لأعضائه، لكنه لم يهاجم الجواهري بسبب قصيدته تلك، إنما حاول رده من إلقائها، وبعث له أحد القياديين آنذاك عبد علوان الطَّائي، لكن الجواهري أجابه قائلاً: “أنتو الشِّيوعيين تناضلون، وخالين (واضعين) دمكم على راحة أيديكم، بينما أنا شاعر، سلم على الرِّفاق”(الصَّافي، مِن ذاكرة الزَّمن).
كنا نسمع أن مؤسس وقائد الحزب يوسف سلمان يوسف (فهد) أوصى حزبه بالاهتمام والعناية بالجواهري، وللأخير قصيدة في إعدام فهد ورفاقه (1949)، رأيتُ (مارس 1974) بيتين منها نُقشا بالحديد على قبره في مقبرة الغرباء بوسط بغداد- باب المعظم: سلامٌ على مثقلٌ بالحديد ** ويشمخ كالقائد الظَّافر
كأن القيود على معصميه ** مصابيح مستقبل زاهرِ
قالها (1951)، وأقيمت دعوى ضده في حبنها مِن قبل الحكومة (الديوان).
في نهاية المدونة أُقدم الشكر لعابد خازندار، أعطاني مبررًا في كتابة ما تعبنا مِن توضيحه ما كان وما زال خطأً جاريًا على الألسن، والشكر للفقيد مراد العِماري فلولا ذاكرته وما كتبه، لرسخت الشَّائعة في أذهاننا.
عن مجلة المجلة
تعليقات الزوار
قصيدة صه يا رقيع هي من تأليف والدي المرحوم عبد الرحمن محمد الصفار و لدي النسخة الكاملة منها
عادل بوجباره
ليس صحيح !!! من قال صه يا رقيع هو الشاعر ابراهيم الخال وليس اباك محمد الصفار فقط لإحقاق الحق