TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > لحظة إنصات فاجعة

لحظة إنصات فاجعة

نشر في: 4 مارس, 2014: 09:01 م

 أن تصبح كل أراضي المدينة متاحة لجور الجميع، أن تفقد الدولة العراقية في الوسط والجنوب وصايتها على كل مبنى ومعلم من معالم الطبيعة، على كل أثر تراثي وجزيرة وغابة وتل وبحيرة، أن تخرج الطبيعة بكامل بدائيتها، أناقتها بطيورها وأسماكها ووحوشها حتى من قبضة الدولة ومؤسساتها وجهدها الوظيفي.. قضية بحاجة لوقفة تأمل مسؤولة. ولن تكون قضايا مثل الأمن والاقتصاد وسواها حجة وذريعة لتركها العوالم هذه خارج عنايتها.
شرّع الأولون قبل مئات السنين قوانين وأحكاماً ظلت الدولة راعية لها حتى تحولت إلى أعراف وسنن التزم بها العامة والخاصة، فعلى مدى قرون ظلت الأنهار محمية من التجاوز، وظلت ضفافها آمنة مطمئنة من العبث والجور فقد شرّعوا مساحة تفصل ما بين الماء والشجر، سيّما النخل سمّوها (حرمة،حرماً) من التحريم، لأنها تشبه الحرام، ثم جعلوا من الجداول والأنهار قواسم بين البساتين والمنازل. وكانت لفظة الحُرمة والحَرم تعني وتدل على أن التجاوز عليها بمثابة التجاوز على الشريعة وما حرّم الله من الحدود .
حتى نهاية الستينات كانت أراضي وبساتين البصرة في أبي الخصيب والفاو والسيبة وشط العرب والقرنة والأهوار وسواها مستعمرات طبيعية لكثير من الحيوانات البرية والمائية، يلفها غموض من بدئية وأزلية الحياة، هو سحر نغم ومطر خيال وابتدار أمكنة. وحتى سنوات الحرب مع إيران كانت الخنازير الوحشية والذئاب وبنات آوى وعشرات الأنواع من الطيور المهاجرة والمستوطنة تضفي على الحياة في شواطئ شط العرب نوعاً من الألفة والتوازن والجمال. وظلت قصص الجدات والموقد الشتوي تغني وتخصب خيال الرجال والنساء والأطفال، شيء مما لا تستغني عنه الذاكرة. حتى تأسس تناغم حياتي هو مزيج بين الدهشة والخوف والفرح والطمأنينة، وظلت القرية التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن المدينة تغري ابن المدينة، تنعش خياله بجملة أسرارها التي تنطوي عليها أراضيها الشائكة نخلاً وكروماً وحلفاء وأنهارها الممتلئة بالماء والأسماك والطيور. كانت فكرة الغابة واحدة مما تبقى من بكورة الأرض. قبل ان تضيع إلى الأبد.
  بئس الحضارة هذه، الغضب واللعنة على كتل الإسمنت والحديد التي يتبجح بإقامتها المسؤول العراقي على حساب جمال الطبيعة وبديع حسنها، على قتل خنازيرها والفتك بذئابها وطرد ثعالبها، وتفتيت الظلال فيها. لم تأت المَدَنية وحضارة المكينة على الطبيعة في مكان من العالم كما أتت عليه في عراق ما بعد 2003. وإذا كان صدام حسين قد خرّب منطقة الأهوار وجرف غابة النخل فقد أجهزت حكومات ما بعده على مساحات كبيرة في الفاو والقرنة وأبي الخصيب والتنومة. هناك سعي ودأب على تقويض كل ما هو أخضر، كانت طفولتنا تسير على وفق متوالية المشاهدة والمعاينة من جهة والقراءة والمعرفة من جهة أخرى وكنا نعثر في القرية والبرية والمسطح المائي على الكثير من ما نقرأ ونشاهد من الكائنات التي كانت تحتفظ الطبيعة بها لنا ، وتنغلق عليها ، لكننا اليوم نكتفي بالتلفزيون والصورة المطبوعة في المجلة والكتاب لكي يتعرف أولادنا عليها. هذا القطع بيننا والطبيعة، متوالية القص والقتل والتصحير ستحول دون كمال وجودنا الإنساني، نحن أبناء الدهشة والتلقائية والمديات المنفلتة . الحكومات هذه دمرت غابة الحلم، أجهزت على خضرة وينع أرواحنا.
  هناك من يجد في كلام كهذا بطراً وقد يذهب آخرون إلى ان الحياة تتسع وتتحول ولا بد من نهاية صناعية ، وهذا زمن كشف الأسرار، والإنسان غزا الفضاء وما إلى ذلك لكن الحياة والمدنية بكل ماكنتها العملاقة لن تستقيم إلا إذا حافظت على الجبل والغابة والحقل والنهر والكهف. لن تتمكن القصور والصالات الواسعة والشرفات الأنيقة من إعطائنا لحظة البهجة كاملة ما لم تستعن بشلال المياه وتغريدة الطير وحتى من دمية الدب المحشو قطناً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

 علي حسين دائما ما يطرح على جنابي الضعيف سؤال : هل هو مع النظام السياسي الجديد، أم جنابك تحن الى الماضي ؟ ودائما ما اجد نفسي اردد : أنا مع العراقيين بجميع اطيافهم...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان البحر الاحمر فسيفساء تتجاور فيها التجارب

 علاء المفرجي في دورته الخامسة، يتخذ مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي شعار «في حب السينما» منهجًا له، في سعيه لإبراز هذا الشغف الكبير والقيمة العليا التي تعكسها كل تفصيلة وكل خطوة من خطواته...
علاء المفرجي

لمناسبة يومها العالمي.. اللغة العربية.. جمال وبلاغة وبيان

د. قاسم حسين صالح مفارقة تنفرد بها الأمة العربية، هي ان الأدب العربي بدأ بالشعر أولا ثم النثر، وبه اختلفت عن الأمم التي عاصرتها: اليونانية، الفارسية، الرومانية، الهندية، والصينية.. ما يعني ان الشعر كان...
د.قاسم حسين صالح

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

جورج منصور في عالمٍ يتسارع فيه كلُّ شيء، ويكاد الإنسان أن ينسى نفسه تحت وطأة الضجيج الرقمي والركض اليومي، يظلُّ (معرض العراق الدولي للكتاب)، بنسخته السادسة، واحداً من آخر القلاع التي تذكّرنا بأن المعرفة...
جورج منصور
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram