سحبت خطاي وأنا أخرج من محطة مترو سان جورج في باريس ، أبحث عن الاتجاه الذي يؤدي الى متحف الرسام غوستاف مورو ( 1826 – 1898 ) ، كان عليّ أن أعبر بضعة شوارع ، لتطل يافطة صغيرة برأسها من بعيد وهي تشير الى مكان متحف هذا الفنان الذي طالما حلمت بأعماله وأجوائها السحرية الغامضة . دخلت من الباب الخشبي المليء بالزخارف والذي يؤدي الى سلّم في نهايته طاولات كبيرة تتوزع عليها مطبوعات وكتب كثيرة عن الفنان وبطاقات تحمل لوحاته . من هناك بدأت أتجول في المتحف الذي كان في الأساس بيتاً للفنان ، ومرسماً كبيراً يرسم فيه لوحاته ويعطي دروساً في الرسم .
قُبيل وفاته ، كان هذا الفنان العبقري قد منح بيته مع ألف لوحة زيتية ومائية إضافة الى سبعة آلاف تخطيط الى مدينة باريس ، وبقي قبل رحيله أشهراً ، يرتب الأعمال ويصنفها ويعلقها حسب حجمها وموضوعها وتاريخ رسمها ، حيث أن كل ما رأيته كان قد علقه هو بنفسه قبل أكثر من 116 سنة ! أعمال عملاقة أراها أمامي في قاعة مترامية الأطراف بحيث يتجاوز ارتفاع بعض اللوحات الأمتار الخمسة . بعد أن تجولت بين الأعمال وسحرها الأخّاذ ظهر وسط القاعة سلَّم لولبي يعود طرازه الى بداية القرن التاسع عشر ، سلكته الى الأعلى واذا بي أمام قاعة أخرى بحجم القاعة العملاقة الأولى ، يا للدهشة وأنا أرى كل هذا الجمال وقد قام به رجل واحد يدعى مورو ، رسام باريس وقدوة فنانيها ، مؤسس الفن الرمزي ومعلم الرسامين الكبار .
ولد هذا الرسام العجيب في باريس ودرس في مدرسة البوزار للفنون ، وبعد تخرجه بسنوات أعطى دروساً في نفس المدرسة ومن تلاميذه هنري ماتيس والبير ماركيه وجورج روو . استمد مواضيع أعماله من الميثولوجيا عادة ، وكان يغطي لوحاته بمسحة من السحر والغرابة والحكايات القديمة . ومثل أي فنان في ذلك الوقت ، سافر مورو الى إيطاليا ليطلع على أعمال الأساتذة العظام ويدرس أعمالهم عن قرب . وحين عاد الى فرنسا اشترك في صالون باريس الشهير من خلال لوحته الكبيرة (أوديب يلتقي مع أبي الهول ) سنة 1864 ، وهذه اللوحة هي التي أدخلته عالم الشهرة والمجد وأعطته مكانة كبيرة بين فناني باريس في ذلك الوقت (كان الرسام أنغر قد رسم نفس الموضوع سنة 1808 ، لكن بطريقة كلاسيكية ) . بعدها توالت أعماله المهمة مثل (سالومي ) و ( سباستيان وأنجلين ) وغيرها الكثير . ومن أهم ما قام به في حياته هي الأعمال التي أكملها سنة 1881 والخاصة بكتاب ( فابلس ) للشاعر والكاتب لافونتين ، وقد وجد في هذا الكتاب ضالته لأن موضوعه كان حول بعض الحكايات الأسطورية التي تتناسب وتنسجم مع رؤيته كفنان . نفّذ مورو رسومات الكتاب بألوان مائية وبطريقة جديدة وغير معروفة وقتها وعلى سطوح مغطاة بمادة تشبه الشمع أعطته تقنية فريدة من نوعها ، وقد تفرغ لهذه الأعمال خمس سنوات كاملة ، لتخرج من بين يديه تحف لا يشبه جمالها شيئاً آخر .
يعتبر مورو أحد المؤسسين الكبار للفن الرمزي كما ذكرت ، وقد تأثر به فنانون كثيرون ، ووصل تأثيره حتى الى السرياليين فيما بعد ، وهذا ما ذكره أندريه بريتون أكثر من مرة . ومثلما كان هذا الفنان يستلهم مواضيعه من الأساطير القديمة والكتب المقدسة ، فهو كان يعتمد في تقنيته على الألوان الكثيفة وطبقاتها التي يضعها واحدة فوق الأخرى ، ويعالج أجزاءً كثيرة من لوحاته على طريقة المنمنمات أو التفاصيل الصغيرة التي تحتاج الى عين فاحصة لتراها وتطّلع عليها . والشيء الذي يضيف غموضاً لأعماله هي تلك الألوان القاتمة التي يضعها في ثنايا لوحاته بحيث تخرج الشخصيات المرسومة من الظلمة ، يتلألأ فوق وجوهها شيء من النور في مشهد مهيب ومقدس.
اترك تعليقك