توقفت خطواتي بجانب كاتدرائية نوتردام ، أتأمل عظمة بنائها وأنا أسترجع شخصية الأحدب في رواية فكتور هوغو الشهيرة ، بحثت عن القرص الدائري الصغير في الباحة المقابلة ، وجدته ووضعت قدمي عليه ، أردت أن ألامسه فقط بأقدامي لأنه يعتبر النقطة المركزية في باريس ، وهكذا وقفت على هذه النقطة التي هي وسط المدينة بالضبط . بعد قليل سحبت نفسي ووضعت نوتردام خلفي لأقضي نصف ساعة أسير على ضفة نهر السين ، وأنا أتابع صاحبي الأكشاك الصغيرة وهم منهمكون في ترتيب الكتب القديمة وصور المشاهير واللوحات الصغيرة وتذكارات باريس الي يبيعونها الى السياح ، حتى وصلت بعدها الى متحف أورسيه ، انتظرت نصف ساعة أخرى في الطابور الذي يؤدي الى المتحف المكتظ بالناس كما الأعمال الفنية النادرة .
دخلت بعدها بخفَّة الى المتحف وأنا أشعر برهبة المكان وقوة تأثيره وسطوته ، ياله من مكان ساحر بكل معنى الكلمة ، هذا المتحف الذي تحوّل من محطة للقطارات الى متحف يشع جمالاً . هذه المحطة التي بنيت في نهاية القرن التاسع عشر ، وكانت نهاية الخط الذي يربط باريس بالجنوب . هذه الأعجوبة التي استعملها الباريسيون استعمالات عديدة بعد توقفها عن العمل سنة 1936 بسبب عدم ملائمة القطارات الحديثة والطويلة لها ، فقد استعملت كمركز للبريد وموقعاً لتصوير بعض الأفلام الشهيرة ، الى أن افتتحت كمتحف كبير ومهم على الضفة الغربية لنهر السين سنة 1986 وافتتحها رسمياً الرئيس الفرنسي ميتران . هذا المتحف مترامي الأطراف بطوابقه الأربعة وسقفه المقوس الشفاف الذي يمنح المكان دفئاً خاصاً حيث الإنارة الطبيعية تدخل الى أي مكان تقريباً .
وبما أن هذا المتحف مخصص للأعمال التي أنتجت بين سنوات 1848 – 1915 ، فهذا يعني أن النسبة الكبيرة من معروضاته تمثل لوحات انطباعيي فرنسا المشاهير وغيرهم الكثير من الفنانين الذين سبقوا الانطباعية بفترة قصيرة . هنا نشاهد قاعة خاصة للفنان ديلاكروا وأعماله الرومانتيكية ، تقابلها قاعة للفنان كوربيه تتصدرها لوحته الكبيرة والشهيرة ( مرسم الفنان ) التي كانت إيذاناً ببدء المدرسة الواقعية في الرسم منتصف القرن التاسع عشر ، كذلك هناك مجموعة رائعة من لوحات الفنان غوستاف مورو ، تلك اللوحات التي ظهر من خلالها التيار الرمزي في باريس . في الطابق الأعلى تظهر لوحات الانطباعيين وهي تشير لك بالدخول مثل فتاة ترتدي ملابس ملونة جذابة . ويقف الفنان مونية هنا في الصدارة حيث تُعرض له ( 86 ) لوحة من أعظم أعماله ومنها مجموعته الشهيرة التي رسمها حول كاتدرائية راون . ثم تأتيك ألوان رينوار البنفسجية المحببة وهي تظهر على الراقصين ووجوه النساء أو الطبيعة وهي تحتضن الفتيات العاريات ، ومن أجمل أعماله المعروضة هي لوحة ( ملهى دي غاليت ) 1876 والتي رسم فيها أصدقاءه ونساء مونمارتر في جو بهيج راقص . أما الفنان أدغار ديغا فنصيبه هنا 43 لوحة تتوزع بين المستحمات وسباق الخيول وراقصات الباليه ، لكن تبقى لوحته ( شاربة الأبسنت ) تأخذ مركز الصدارة بتقنيتها الرائعة وأنشائها الفريد ، حيث اختار زاوية المشهد هنا بشكل جديد وهو يضع جريدة تربط بين الطاولتين . أدخل قليلاً لتظهر ( غرفة نوم ) الفنان فنسنت فان غوخ التي رسمها في آرل ، يحاذيها على نفس الجدار البورتريت الذي رسمه لنفسه باللون الأزرق ، بينما يطلُّ الدكتور جاشيه من زاوية أخرى بشاربه وقبعته الغريبة ليعلن أن فنسنت قد رسمه بطريقة تقترب من معجزة فنية . بعد بضعة أمتار تنعم بسطوح الفنان بول سيناك التنقيطية ، هذا الفنان والكاتب الباريسي الأنيق . ومن وسط هذه النعومة يظهر فنان الطاحونة الحمراء الشهير تولوز لوتريك بخطوطه التي تشبه سياط ملونة . أجلس على الأريكة المقابلة لراقصات الكانكان وأنا أفكر بهذه النعمة ، نعمة الفن التي لا تزول مهما تقادم عليها الزمن ومهما تغيَّرت الأماكن والظروف .
يتبع
كيف تحوَّلت محطة القطار إلى متحف
[post-views]
نشر في: 18 يوليو, 2014: 09:01 م