البهائيّون بين علي الوردي وعبد الرزاق الحسني

آراء وأفكار 2015/04/01 12:01:00 ص

البهائيّون بين علي الوردي وعبد الرزاق الحسني

إعادة قراءة تاريخ الطائفة البهائيّة في العراق  (2)

 

يكنّ البهائيون احتراماً لعلي الوردي بوصفه باحثاً أنصفهم على خلاف غيره من المؤرخين ،مثل عبد الرزاق الحسني، فقد أتمّ الوردي عملاً لم يسبقه إليه أحد من قبله من الكتّاب العرب، ألا وهو الكتابة عن "قرّة العين".

لكنه ما كان لينجح بمهمة التصدي لهذا العمل لولا استعانته بواحد من أذكى وجوه الطائفة البهائية في العراق، والمقصود هنا "عبد الرزاق العبايجي" الذي يعد مصدراً حياً ولا غنى عنه لتسجيل التراث الشفوي "الشفاهي" لتاريخ البهائيين في القرن العشرين.
وعلى خلاف الجزء الأول من كتاب الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق) ،الذي استوعب ثلاثة قرون، تناول الجزء الثاني أحداث نصف قرن (من بداية ولاية علي رضا باشا 1831م وإلى ولاية مدحت باشا 1872م)، هذه الحقبة شهدت نمو تيارات وحركات دينية، وكان مهماً في كتابة تاريخ اجتماعي للعراق أن يمر الوردي على الدعوة البهائية، ويحاول دراستها على نحو مغاير لتناولها من ناحية لاهوتية، أو من خلال الترفع عن منهج الخصوم والمخالفين، كما فعل الحسني في مساهمته التي صنفها في مقدمة كتابه عن البهائية ضمن الأخيرة.

 

وكانت الدعوة التي مهدت وبشرت بظهور البابية والبهائية في العراق، قد بدأت في كربلاء والنجف، ثم في بغداد والكاظمية، ثم من بعدها في أطراف العراق، وسميت بالشيخية نسبة إلى الشيخ أحمد الإحسائي، وكان ذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد استعان الوردي بعبد الرزاق العبايجي، أو على نحو أدق وضع العبايجي نفسه في خدمة الوردي من خلال توفير المصادر العربية والانكليزية، فضلا عن بعض المخطوطات، ووجد الوردي تاريخا لم يكتب من قبل على نحو موضوعي، فكانت هذه فرصة نادرة لكي يتوسع في الكتابة عن البهائيين، إلى أن جاءت فيه دراسته بمقاربات جديدة. 
درس الوردي تاريخ الدعوة البهائية بكثير من التفصيل، منذ إعلان السيد علي محمد الباب دعوته بتاريخ 1844، التي اتبعها علماء دين وطلاب علم مثل ملا علي البسطامي، ملا حسين بشروئي، الشيخ صالح الكريماوي، وعبد الهادي الشعرباف، والملا إبراهيم الحمداني، والحاج محمد الكرادي، وسعيد الجباوي، وعبد الهادي الزهيراوي، وسيد عبد الله شبر، وحسن الحلاوي، والشيخ محمد الشبل، وسيد جواد الكربلائي، وقرة العين أو الطاهرة كما يسميها البهائيون. 
وكان اكتشاف الوردي لهذه الشخصية النسوية الفريدة وما قدمه من قراءة حداثوية لرمزيتها ومكانتها عملا عزيزا على قلب الوردي، ويتضح ذلك من خلال إعجابه الذي تفصح عنه عبارات الوردي، إذ يصفها في الجزء الثاني من كتابه اللمحات بالقول: " أعتقد على أيّ حال، أنّ قرّة العين امرأة لا تخلو من العبقريّة، وهي قد ظهرت في غير زمانها، أو هي سبقت زمانها بمئة سنة على أقل تقدير، فهي لو كانت قد نشأت في عصرنا هذا، أو في مجتمع متقدّم حضاريًّا، لكان لها شأن آخر، وربما كانت أعظم امرأة في القرن العشرين".
اتّباع قرة العين الدعوة البهائية مع جمهرة العلماء والطلاب أحدث جدلا داخل العقل الإسلامي بعد أن عانى من الركود لعدة قرون، وحصل تحول روحي اتبعه آخرون وخالفه كثيرون. وترتب على التحول وما رافقه من جدل نتائج سياسية وصراعات كان من مخرجاتها الحكم على الملا علي البسطامي بالسجن في بغداد، وحكم رجال دين شيعة وسنة بارتداده، وبعد نفيه إلى الاستانة قتل في ظروف غامضة في سجن (تكرلي طاغ) قرب اسطنبول. 
ثم كان من نتائج هذا الصراع، وهو ما يهمنا هنا، بروز اتهامات وتشويهات رسخت في ما بعد في تنميط البهائية، وإشاعة خرافات عنها، وترجع جذور بعض الصور النمطية عن البهائيين إلى هذه الحقبة بالذات، وكان مسؤولا عنها هذه المرة رجال الدين المخالفون، وتمحورت الاتهامات حول "شخصية فريدة" دون عداها، لتحديها الواقع الاجتماعي آنذاك، وهي الطاهرة أو قرة العين، التي كانت ذا شخصية كاريزمية وثقافة دينية تقليدية تنافس وتتحدى سلطة الإكليروس الشيعي، وحبست في دار مفتي الديار الإسلامية السيد محمود شهاب الدين الآلوسي لمدة ستين يوما، لحين ورود الأمر السلطاني بنفيها إلى إيران، ويبدو أن الآلوسي قد أحس بخطورة هذه الاتهامات، فحاول الدفاع عنها في آخر إسهامة له والمعنونة "نهج السلامة إلى مباحث الإمامة" وهي مخطوطة محفوظة في مكتبة الأوقاف في بغداد. 
وبعد إعدام السيد علي محمد الباب في تبريز سنة 1850، نفي بهاء الله إلى العراق من إيران بصفته أبرز زعماء البابيين، وذلك بأمر ناصر الدين شاه، بعد إطلاق سراحه من السجن سنة 1853، فقام بهاء الله بإدارة شؤون الأتباع في جميع الأقطار من بغداد، فأصبح العراق مركز الدين الجديد لمدة عشر سنوات، وخلال هذه المدة توسعت الدعوة وانتشرت في أطراف العراق من المدن والقرى والقصبات، وتوطدت العلاقات بين حضرة بهاء الله وبين شخصيات بغداد المعروفين، من رجال علم ودين وموظفي الدولة الكبار وقضاة وغيرهم. ويبدو أن تاريخ تلك الحقبة، وحضور بهاء الله وتأثيره أحيط بقدر من الغموض، أو عتّم عليه، فكم من الاشخاص قد تبعه في دعوته، وكم انتقل من هؤلاء المؤمنين بدعوته من إيران إلى العراق؟ 
يذكر بعض المصادر مثل كتاب رحلات إلى الشرق للرحالة الألماني بترمان: أن بهاء الله بعد أن قضى مدة خمسة أشهر في بغداد سنة 1854 تبعه خمسة آلاف بابي (بهائي) بين مسلمي المدينة ممن فروا من إيران والتجأوا إلى بغداد، ومن ضمنهم قرة العين. وفي سنة 1863 أعلن حضرة بهاء الله دعوته في بغداد، على أنه هو الذي بشر به السيد علي محمد الباب، وسماه في كتاباته "من يظهره الله"، وكان ذلك في حديقة النجيب باشا يوم 21/4/1863 عندما كان مستعدا للسفر إلى اسطنبول. وخلال تلك المدة التي تمتد اثني عشر يوما خاض بهاء الله تجربة روحية شهدها أصدقاؤه وتابعوه، وقد عدّت هذه الأيام عيدا يحتفل بها البهائيون كل سنة، ويسمى عيد الرضوان، من الحادي والعشرين من نيسان حتى الثاني من مايس (أيار).
وفي الواقع هناك جدل حول مدى اعتراف الدولة العثمانية بهذه الدعوة في تلك الحقبة، ولكن يستدل البهائيون بكون الأمر الصادر عن السلطان العثماني نفسه باستدعاء حضرة بهاء الله وعدّه ضيفا على الحكومة العثمانية في اسطنبول، ثم الحماية العسكرية التي رافقته، والرعاية الفائقة التي قوبل بها في جميع المنازل والمدن والقرى التي مر بها الموكب من بغداد حتى وصوله اسطنبول، إنما يدل على اعتراف الدولة بهذه الدعوة الدينية. 
يذكر الوردي دليلا آخر، ففي سنة 1870م عندما زار السلطان الإيراني ناصر الدين شاه العراق، قامت السلطات العثمانية، بطلب وضغط من الحكومة الإيرانية بنفي بعض البهائيين المعروفين من بغداد إلى الموصل وذلك كإجراءات احترازية لحماية الشاه، خوفا من احتمال تعرضه إلى اعتداء يقوم به البهائيون العراقيون. تسجيل الوردي هذا التاريخ، حظي بمكانة في سفره الأكبر، والأهم إبراز فكرة أن الدعوة البهائية نشأت وتأسست في العراق، وانطلقت منه إلى العالم أجمع، وكان حصول الوردي على المصادر المختلفة من " عبد الرزاق العبايجي" قد شجعه على أن يفرد معظم فصول مجلده الثاني من كتاب اللمحات عن البهائية، ومن المصادر التي زودها به "العبايجي" مخطوطة نادرة تتضمن مراسلات قرة العين مع العلماء من مناصريها، وكتاب "مارثا ل. روت" بالإنكليزية عن قرة العين الذي صدرت طبعته الاولى في العام 1938 وحمل عنوان " "TÁHIRIH, THE PURE, IRÁN'S GREATEST WOMAN.
كانت الخطة الأساسية للوردي أن يصدر الجزء الثاني من اللمحات متضمنا ثلاثة فصول عن البهائية، يخصص الأول لقرة العين بسبب شخصيتها الفريدة، والفصل الثاني يخصص عن البهائية في العراق وإيران والصلات بينهما. أما الفصل الثالث فيتناول فيه الوردي البهائية في بقية انحاء العالم.
لكن حين حمل الوردي المجلد إلى وزارة الثقافة لغرض إجازة الطبع، واجه عقبة تتمثل باعتراض وزير الثقافة "شفيق الكمالي" على تخصيص أكثر من ثلثي الكتاب عن البهائية، إذ قال للوردي: كأن هذا كتاب مستقل عن البهائية، وليس الجزء الثاني من تاريخ اجتماعي للعراق، وكان الكمالي تلميذا للوردي ويكن له احتراما منقطع النظير، لكنه حاول الموازنة بين مسؤوليته كوزير في حكومة بعثية معادية للبهائيين، وإعجابه بأستاذه الوردي، في حين كان الوردي من جهته يعتز بعمله عن قرة العين، ويراه عملا أصيلا لم يسبقه باحث عربي إليه، لذا تمسك به أكثر من الأجزاء الأخرى، وهدد بسحب الكتاب إذا لم ينشر هذا الجزء، وبالفعل صدرت إجازة الطبع، وقد استغنى فيها الوردي عن الفصول الأخرى، مع استعمال بعض المعلومات الواردة فيها على نحو مجمل، والتي ظهرت في عنوان فرعي تضمنه الفصل السادس من الجزء الثاني معنونا بـ"بهاء الله في بغداد". 
في حين منع الوردي من إصدار الجزء الثاني بناء على حجة تحول الجزء إلى كتاب مستقل عن البهائية، سمح للوردي أن يطبع ملحقا ثانيا للجزء السادس، تناول على نحو مستقل أحداث وقعت في الحجاز ونجد وسوريا، ولم تستعمل الحجة ضد هذا الملحق بكونه لايتعلق بصورة مباشرة بالأحداث في العراق.
اهتمام الوردي بالبهائيين، جرّ عليه بعض الاتهامات بكونه بهائيا، ولم يكن ذلك من دون أساس، إذ لم يخفِ الوردي إعجابه بالبهائية، وينقل عنه مقربون، أنه صرح في أكثر من مناسبة لخاصته، أنه لو اراد أن يعتنق دينا، لكان البهائية، لكنه رجل بعيد عن الالتزام الطقوسي بالأديان، وأنه يحتفظ بجانب إيماني ذاتي فيه نزوع صوفي، وينقل عنه البهائيون قوله أيضا: إن البهائية قد تكون دين المستقبل، وقد يكون ذلك بسبب اطلاعه على آراء المؤرخ "ارنولد توينبي" في دراسته الشهيرة "بحث في التاريخ"، التي كان يرى أن دينا عالميا عظيما قد يولد بين الأنقاض الحضارية، ويعيش ليصبح النواة التي تنبثق منها مدنية جديدة، فالرجوع إلى الأسس الدينية المتمثلة بالأديان العالمية الأربعة التي ظهرت خلال الأربعة آلاف سنة الماضية (المسيحية والإسلام والهندوسية والبوذية في صورة المهايانا) كفيل بربط الحضارة الإنسانية، وهو ما يمكن ان يضطلع فيه دين يجمع عناصر ورؤى الأديان الكبرى مجتمعة، وهو الدين البهائي. 
أما موقف البهائيين من عبد الرزاق الحسني، فقد كان يراعي مفارقة أنه أصبح المرجع الأهم لهم حين صدر قانون تحريم النشاط البهائي، واختفت وسلمت الكتب البهائية إلى السلطة، وفي ضوء الحصار الذي واجهه تداول كتب الوردي الذي صنف كاتبا متمردا ضد السلطة منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي. 
يذكر "العبايجي" حوارا جمعه بعبد الرزاق الحسني، حين أراد الأول شراء مجموعة من مؤلفات الحسني ومنها موسوعته تاريخ الوزارات القديمة، أن الأخير أوضح له بما لا يقبل اللبس، أنه أراد لكتابه الانتشار، ومن دون ذلك ما كان للكتاب أن يطبع طبعات عدة، وان يحظى بقبول السلطة، لكن هذه الموقف الاعتذاري الضمني، وتفهم البهائيين له، يعكس موقفهم المسامح أكثر مما يبرر مقاربة الحسني التشويهية لتاريخ البهائيين في العراق، وهي مقاربة لم تخرج عن منهجه المركزي السلطوي في مقاربة التعددية الدينية في العراق، من خلال ثلاثيته الشهيرة عن المندائيين والإيزيديين والبهائيين. 
مع ذلك فقد كانت هذه مفارقة في تاريخ البهائيين في العراق وتاريخ الحسني الشخصي، ان يجد البهائيون فرصة الاطلاع على نصوصهم الدينية في الكتب المضادة للبهائية. إذاً قدم الحسني من دون أن يقصد خدمة جليلة للبهائيين، ففي كتابه الذي يصنفه شخصيا ضمن الكتب المضادة للبهائية، ولكونه قد طبع في وقت سابق لصدور القانون الذي يحظر البهائية، وبسبب سمعة الحسني كمؤرخ لتاريخ الوزارات العراقية ورضا السلطة عنه، فقد تداول البهائيون كتابه من دون أن يتعرضوا لطائلة الحكم عليهم.

تعليقات الزوار

  • كيف يمكنني التواصل مع الاستاذ عبد الرزاق العبايجي وما هو الايميل الخاص به؟ شكرا سوسن

  • علي

    كيف يمكنني التواصل مع الاستاذ عبد الرزاق العبايجي

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top