غالباً ما يكمُن خلف بساطة الأشياء عمقها ، وخلف الهدوء ثورته ، وخلف السهل امتناعه وهذا ما يُلامسه الكثيرون ممن عاصروا العلّامة العراقي الراحل حسين على محفوظ الذي تناسى المظاهر إلا أنهُ صنع صرحاً من الأدب والعلم والتأريخ الكبير ليُخلّد روحه رُغم رحيلهُ جسداً ، فكانت ذاكرتهُ حاضرة في جلسةِ استذكارٍ أقامها بيت المدى صباح أمس الجمعة في المتنبي .
رحل عاشِقُ بغداد بعد مسيرةٍ دامت ثمانين عاماً توّجت بأهم أثارهِ التي خلفها بعد رحيله بين مقالٍ وكُتبٍ وبحوث ، منها "أصالة البحث العلمي والعمل المكتبي والتوثيق في التراث العربي ، الفارابي في المراجع العربية ، الفيروز أبادي والقاموس ... وغيرها الكثير "
سيرةُ مرموقة
ذكر الباحث رفعت عبد الرزاق أن محفوظ كان شخصية مرموقة واستاذاً جامعياً قديراً. ولِدَ في الكاظمية عام 1926 نشأ فيها وتخرج في دار المعلمين العالية عام 1944، ثم أكمل دراسته العليا ونال الدكتوراه من جامعة طهران عن رسالته الموسومة "المتنبي وسعدي" ، وهي دراسة أدبية ولغوية مقارنة. وواصل دراسته وأكملها في الاتحاد السوفيتي وتخرج عام 1959 ، وبدأ محفوظ الكتابة منذ منتصف الاربعينيات في المجلات العلمية والصحف المحلية ، كما بدأ الكتابة في الصحف والمجلات العلمية الرصينة في الستينيات ونال أوسمة وجوائز ورُشِّح لعدد من المجامع العلمية العربية والشرقية و كان شخصية اجتماعية معروفة في المجالس الأدبية ، له 100 كتاب مطبوع ومشهور ومئات الكتابات والنبذ والتعليقات وكان مترجماً عن اللغة التركية والفارسية ، كما يعرف شيئاً عن اللغتين الروسية والتركية، وكان يستقبل مُحبيه بكل ترحاب وبشاشة ويعتني بطلابه ومُجالسيه عناية فائقة . وكتب عنه الكثير في حياته وشيع في بغداد عام2009 تشييعا مهيبا . ويجب أن يكون الاحتفاء أولاً بمؤلفات محفوظ وليس باستذكاره هنا وهناك .
شيخ بغداد
الكاتب والباحث عبد الوهاب حمادي اكد أن محفوظ يعود إلى أُسرة علمية وكان من أعيان العلماء في عصره وبدأ يتألق في صغره .وكان معلم العربية يباركه في خطبته ولقب "بشيخ بغداد" ،لأنه من أُسرة كلها شيوخ ، برز في التعبير والكتابة والمُناظرة في صباه و كان صادق الملائكة يشجعه وينشر مقالاته في مجلة العرفان وجريدة كل شيء اللبنانية آنذاك ". قال عنه علي جواد الطاهر "كان محفوظ اكبر من عمره"، وفي الأربعينيات رعاه أستاذه الشيخ محمد رضا الشبيبي وكتب عنه مصطفى جواد " حسين علي محفوظ خريج دار المعلمين العالية كان من أنبه الطلاب في الكلية و أذكاهم و أنبلهم وأشدهم حذواً بمكارم الاخلاق " أثنت المجامع العلمية والادبية على جهده و أكبرته وتحتفظ مكتبته على مجموعة نفيسة من الكتب وكان خطيباً في مواسم الأدب ومواسم العلم وشاعرا في مجال الشعر وكان ظلا حقيقيا للشريف الرضي ، وقد تغنى كثيراً بقصائده, وقد ألف كتاب عن الشاعر عبد المحسن الكاظمي جمع فيه الكثير من شعره وله مخطوطه بعنوان " الكاظمي في العراق " .
العلّامة والإنسان
وبيّن الأستاذ الجامعي نجاح هادي كبة أن العراقيون يعتزون برموزهم وتأريخهم القديم والحديث لأنهم يدركون من خلاله حب الوطن والدفاع عنه ولأن الوطن ليس أرضاً مجردة بل هو بعلمائه ورجاله الذين يدافعون عنه بالعلم والسلاح .ومن الرموز التي فارقتنا جسداً لا روحاً هو محفوظ بصورتيه العلّامة والإنسان . ترعرع محفوظ في محلة التل التي تعتبر من محلات الاعيان والسادة في الكاظمية ، وقد نشأ متوشحاً بوشاح أهل محلته ، وقد لازم الكتاب والقلم منذ 1933 وحوت مكتبته معارف عديدة في أصول أدب وتاريخ لغة وشعر ، كان حسين علي محفوظ محط أنظار رواد المجالس الثقافية ولاسيما مجلس آل الخاقاني في الكاظمية الذي كان يديره العلامة الدكتور محفوظ. وزيادة على دوره الثقافي فقد عني بالجانب العلمي أيضاً . وتميز محفوظ بهدوئه وبساطته فضلاً عن غزارة علمه و أدبه وكان يرتدي الزي الشعبي العراقي البسيط وكأنه يريد أن يثبت أن الله لا ينظر للأشكال والصور بل ينظر إلى القلوب والعقول, كما شغل مناصب إدارية وعلمية كثيرة .ويذكر باقر أمين الورد في معجمه "أعلام العراق الحديث" أن محفوظ شغل وظائف عديدة بعد حصوله على شهاة دكتوراه الدولة من جامعة طهران في اللغة الفارسية وآدابها وأصبح عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة عام1934، واشترك في كثير من المؤتمرات والاجتماعات الأدبية ، وله عدة معاجم ومقالات مترجمة إلى عدة لغات ، لم يُمنح عضوية المجمع العلمي العراقي حتى وفاته ولم تتح مُحصلته العلمية إلا لقلة من العلماء والمفكرين أمثال نوري جعفر في العلوم التربوية والنفسية وجواد علي في التاريخ وعبد الجبار عبد الله في الفيزياء وكان محفوظ يفتخر بعراقيته وعروبته وإسلاميته.
جُمِعَ العالم فيه
كما ذكر الباحث التراثي رفعت مرهون الصفار أن تقديري واحترامي لمحفوظ شجعني على المشاركة في الاستذكارية بكلمة موجزة حيث أن العلم والفقه والأدب والتاريخ والشعر اجتمعت في شيخ بغداد ، وقد نشأ في بيئة أدبية وليس غريبا أن تجتمع فيه هذه الصفات ،فالشاعر بقول " ليس على الله المستبعد أن يجمع العالم في واحد " وهو موسوعة ومدرسة معارف متنقلة وأديب وشاعر وكاتب ونافذ البصيرة وسَمِح الطباع ويكره كل أنواع التعسف وضليع باللغة والتاريخ والفقه ، فإذا غاب عنك تشتاق للقائه إذا التقيته تأنس لحضوره ،لا تمل حديثه ولا تسأم أمثلته المنتزعة من الواقع ، وإلى هذه الملكات تجد انجذابا إليه ولم تعرف أُمتنا لهذا الرجل حقه في حياته وكان ضحية النسيان والإهمال إلا من قبل القليل .
دارة محفوظ
وقال الإعلامي عادل العرداوي قبل 8 أشهر احتفلت مدينة الكاظمية بإعادة الحياة لبيت محفوظ باعتبار محفوظ من أقدم أساتذة جامعة بغداد ، وتم ترميم البيت على أمل تحقيق رغبة الراحل بتحويل البيت إلى مكتبة عامة ومنتدى ثقافي ،ولكن سرعان ما أُقفل البيت والتقيت بنجل الراحل و أخبرني أنهم يعملون الآن بين دائرة التسجيل العقاري و وزارة التعليم العالي لتحويله من سكني إلى ثقافي و كانت رغبة محفوظ لتسمية البيت بدارة محفوظ .
إشكاليات محفوظ
وقال الشاعر محمد حسين آل ياسين :اسمحولي أن أنطلق من رأي العرب القائل "صديقك من صَدَقك لا من صدقّك" ،لمحفوظ عدة إشكليات أذكرها بمحبة لأننا في رِحابه أولها ما يتكرر عن الحديث عن مظلومية محفوظ لعدم وضعه بالمجمع العلمي العراقي أو إنه حورب أو غُبن وهذا ليس صحيحا محفوظ عاش مدللا من الجهات الرسمية يحبونه ويقدرونه ويبعثونه في الإيفادات المكلفة للبحث في روسيا و بريطانيا وغيرها ولم تكن عدم العضويه لغرض حرمانه من شيء يستحقه , هو في ظل المجمع الاول اللغوي قبل هدمه من قبل صدام سنة 1995 وكانت وظيفة المجمع الأساس هي اللغة،ولكن باسم المجمع العلمي العراقي ،وهذا المعنى لم يكن ينطبق عليه واعضاء المجمع يحبونه ولكن ليس من العدل أن ينضمّ للمجمع كل من يرغب الانضمام إلا إذا توفرت فيه الشروط وهي التمكُن العميق من اللغة وهذا ما كان يفتقر لهُ محفوظ لذلك لم يتمكن الانضمام ،أما الإشكالية الثانية إنه كان يكرر انه صاحب ألف وخمس مئة أثر وحين تصدر أحدهم لإحصاء المنشور من آثاره وجدها قُرابة ال 22 أثراً فقط ! والأثر هو العمل العلمي المتداول مستقل بغلاف وعنوان وإن كان صغيرا وإذا أردنا أن نجد مخرجاً لمقاصد محفوظ وما يعنيه من "آثار" فيبدو إنه كان يسمي كل عمود صحفي ولقاء في جريده أثراً وكل رسالة أثراً وكل تعليق منشور في جريدة كان يسميه أثرا ولم يسرق النظام السابق شيئاً من آثار محفوظ .
فلسفة محفوظ
وأضاف الخبير القانوني طارق حرب إن ما لا يُمكن نكرانه أنه كان موسوعة حقيقية ،كان يقول "الإنسان بثقافته وليس بثيابه رجل النجوم ما لمعت إلا واغتسلت بنهر دجلة"، ولديه الكثير من الإشارات الفلسفية."
اترك تعليقك