كتب ملعونة..من يظن ان الانسان يستطيع  ان يفلت من المحبطات؟

كتب ملعونة..من يظن ان الانسان يستطيع ان يفلت من المحبطات؟

ثلاثية الجنس.. الدين .. السياسة


 علــي حســين

|  15   |

"لكي يُولد الإنسان كاتباً لا بد أن يتعلم أن يحب الحرمان و العوز، والعذاب، و المهانة، و فوق كل شيء على المرء أن يتعلم كيف يعيش منفصلاً، أن يبتعد، مثل القرد الكسلان الذي يتعلق بأشجار الغابات الاستوائية .يتعلق الكاتب بغصنه بينما في الأسفل تجيش الحياة و تتلاطم أمواجها، مثابرة صاخبة مشاغبة. و حين يصبح جاهزاً للمواجهة! يسقط في التيار و يصارع من أجل الحياة. أليس ذلك هو الكاتب؟".
هنري ميللر

قال له صاحب دار النشر الفرنسية بعد الإنتهاء من قراءة مخطوطة روايته الأولى :"أخيراً وجدتها..لقد سهرت بالأمس مع مع أفظع وأقذر وأروع مخطوطة قيض لها أن تقع بين يدي، إنني حتى الآن لم أتسلم مخطوطة تماثلها في الروعة والمذاق الحلو في رسم الشخصيات والدعابة الصارخة التي تمتلأ بها صفحاتها"ثم نظر في وجه الكاتب الذي يبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عاماً، وتبدو على ملامحه حالة البؤس والفقر التي يعيشها، ليضيف قائلاً : بالأمس وأنا أقرأ روايتك أحسست بأنني مثل جميع المكتشفين الذين يعثرون على الشيء الذي قضوا سنوات عمرهم في البحث عنه.. أنت رجل عبقري".
كان هنري ميللر قد عاش حياة متشرد في شوارع باريس، عاطلاً عن العمل :"كنت أسير في الشوارع أبحث عن كسرة خبز أو عمل أو عن ركن حيث أهوي بجسدي، لقد قطعت آلاف الأميال ببطن فارغ مثل متسول، أعرف كل المطاعم ليس لأنني أكلت بها، بل لأنني تفرست في وجوه الزبائن الآخذين في ملء بطونهم.. أحياناً كنت أفكر إنني ولد جائع". قال ذات يوم لصديقه بيكاسو :"قررت أن أكتب عن نفسي وأصدقائي وتجاربي ومما عرفته وشاهدته"، ثم أضاف :"هل تدري أشعر بنفسي أحياناً مثل مانعة صواعق تمتص الصعقة ثم تحولها لتيار يسري في نهر الحياة". يكتب في مقدمة مدار السرطان :"ليس هذا كتابا بالمعنى العادي لهذه الكلمة. لا. إنه إهانة متصلة وبصقة كبيرة في وجه الفن والإنسان والزمن والحب والجمال".
وجد هنري ميللر آنذاك في القراءة توازنه النفسي، كان يرغب في تحسين مستواه الثقافي، فخطط لسرقة الكتب من المكتبات العامة ،، ومن بين مسروقاته التي يعتبرها ثمينة، رواية الفرنسي فرديناد سيلين" رحلّة الى نهاية الليل" التي سحرته منذ اللحظات الأولى، ووجد في أسلوبها التجريبي وقفزاتها وصورها الخيالية، ولغتها الحافلة بالتعبيرات المجافية للذوق التقليدي، والمشحونة برغبة واضحة وعمدية لخدش الحياء العام، ضالته ، وقد قرر ميللر أن يكتب رواية شبيهة برواية سيلين تتسم بالقتامة والحدة والمرارة، رواية تعبر عن الصورة المتشائمة التي يتبدى عبرها العالم وكأنه سلسلة من الكوابيس والمغامرات التي تلاحق الإنسان الأعزل، إضافة الى رواية سيلين، كان هنري ميللر قد ارتبط بصداقة مع أندريه بريتون السيريالي الشهير الذي أعلن عام 1924 تأسيس حركة أدبية جديدة هدفها :" الوصول إلى وعي بالحياة أكثر وضوحاً من قبل، إلى وعي بها أعنف عاطفة وأشدّ شعورا"ويذهب بيان بريتون الى أن السيريالية وسيلة تحرر شامل للفكر ولكل ما يشبهه، وإنهم عازمون على القبام بثورة، وإنهم أصحاب اختصاص في التمرد، وإنهم سيحطمون كل القيود بعنف"ويعلنون في مكان آخر إن الثورة السيريالية تهدف إلى خلق حركة في الاذهان وتهدف قبل كل شيء إلى خلق تصوّف من نوع جديد..كان بريتون يسخر من الرواية الكلاسيكية ويصف أبطالها بانهم"دمى مسبقة التصميم والتركيز يستخدمون العقل ويهملون كنز الحلم".يتذكر ميللر أن صداقته مع بريتون جعلت حياته بريئة من أية أسرار دفينة، وفكره خالياً من أي ألغاز.
كان بريتون قد طلب من ميللر أن يجمع في كتاباته بين الحقيقة الداخلية والحقيقة الخارجية، وأن يتمرد على ما تراه العين المجردة من ظواهر، فالصورة حلم :"إن الصورة السيريالية خلق حر لا يعترف بالعوائق، كأحلام الليل وأحلام اليقظة، وهي في النهاية وسيلة لإطلاق التراكمات الكامنة في النفس، وتعبير عن نزعة الحرية في الإنسان".ولقد عبر أندريه بريتون عن هذا المعنى بقوله"يجب تغيير اللعبة، وليس مشاهد اللعبة، وهو يقصد باللعبة الحياة، أما مشاهد اللعبة فهي الأدب والفكر والفن، وهي مشاهد لاينظر إليها بريتون على إنها قطع ديكور، ولكن على أنها عناصر"فوق إنسانية".. هذه العناصر التي تغنى بها من قبل كل من إدغار آلان بو، وهي أيضاً عناصر سفينة رامبو السكرى، وسيكتب هنري ميللر فيما بعد وهو يخصص كتاباً خاصاً عن الشاعر الفرنسي آرثر رامبو إن :"المتمرد لديه طبيعة خائنة، تميّزه عن القطيع، إنه يخون وينتهك دائماً، إن لم يكن بالكلمات، فبالروح، إنه خائن في أعماقه، لأنه يخشى أن توحده الإنسانية التي في داخله، بابن جنسه، وهو مُحطم تماثيل، لأنه من فرط تبجيله الصورة، يغدو خائفاً منها، ما يريده، قبل كل شيء، هو إنسانيته المشتركة، قدراته على التقديس والتبجيل، إنه مريض من الوقوف وحيداً، فهو لا يريد أن يظل إلى الأبد، سمكة خارج الماء، وهو لا يستطيع العيش مع مُثُله إلا إذا حظيت هذه المثل بالمشاركة. لكن، كيف يستطيع أن يوصّل أفكاره ومثله إن كان لا يتحدث باللغة نفسها التي يتحدث بها ابن جنسه؟، كيف يستطيع أن يكسبهم، إن كان لا يعرف الحب؟، كيف يستطيع إقناعهم بالبناء، إن كان يقضي حياته كلها بالهدم؟".
ورغم الحماس الذي كان يبديه الناشر لرواية ميللر"مدار السرطان"وتعاقده لنشرها، إلا أنه انتظر عامين قبل ان يوزعها على المكتبات ، وقد أحاط المشروع بسرية تامة خوفاً من الرقابة، وحتى يحد من انتشارها حدد لها سعراً مرتفعاً، ووزع على أصحاب المكتبات في باريس نبذة تحذرهم من عرض الرواية في واجهات مكتباتهم، ولكن هذا لم يمنع من تسرب بعض النسخ إلى بريطانيا وأميركا اللتين بادرتا بفرض الحظر عليها، ولم يمضِ عام حتى تنفد خمس طبعات من الرواية، الأمر الذي أغرى مواطناً أميركياً اسمه"ارنست بيسنج"باستيراد نسختين من الرواية عن طريق مصلحة البريد، لكن الرقابة اعترضت على ذلك، مما دفع المواطن أن يعرض الأمر على القضاء، حيث قرر القاضي الفيدرالي إصدار أمر بحظر الكتاب :"من أجل حماية كرامة الإنسان واستقرار النظام العائلي اللذين يعتبران حجرا الزاوية في النظام الاجتماعي الاميركي".
في العام 1951 تمّ تشكيل لجنة من اعضاء الكونغرس الاميركي للنظر في عدد من الكتب ومنها روايات هنري ميللر التي كانت تحصل على شهرة عالمية خارج اميركا، وتدخل منها بطرق غير مشروعة آلاف النسخ، وانتهى تحقيق اللجنة إلى القول بوجود خمسين ألف شكوى قدمها آباء وأمهات وجدوا كتب هنري ميللر ولورنس وبعض مطبوعات الأدب المكشوف عند ابنائهم، وبينت مصلحة الكمارك الأميركية، إنها صادرت أكثر من ثلاثة آلاف نسخة من رواية"مدار السرطان"كان أصحابها يريدون إدخالها الى البلاد، وفي عام 1958 تعرضت مؤلفات هنري ميللر للحظر والحرق واستبعدت من المكتبات بحجة إنها تُفسد الشباب وتُدمر إيمانهم بقيم أمتهم.
**********
في مقال عن"مدار السرطان" يكتب ماريو فارغاس يوسا إن من وظائف الأدب تذكير الرجال والنساء أنه مهما بدت الأرض التي يسيرون عليها ثابتة، تبقى هناك شياطين في كل مكان.
ولد هنري ميللر في مدينة نيويورك في السادس والعشرين من كانون الأول عام 1891، كان والده خياطاً، يعاني الإفلاس الدائم، والدته من أصول ألمانية أصرّت أن تعلّم ابنها لغة بلدها وخلال السبعة عشر عاماً الأولى من حياته كان متشنجاً بقسوة جراء تأثير والدته عليه، في سن التاسعة عشرة قرر أن يترك الجامعة ليعيش ضائعاً متشرداً، بعدها ينصرف للعمل في مهن غريبة كان آخرها موظف خدمة في شركة للهواتف، عاشر ميللر نساء كثيرات، لكنه تزوج بأربعة منهن :"أنا أحب النساء القويّات، فأنا ضعيف إلى حد ما، لذا انجذب إلى النساء ذوات القوة والشخصية، معركتي معهن معركة ذكاء، كما إنني أجد نفسي مأسوراً بنساء يراوغن، ويكذبن، ويلعبن عليّ، ويغششنني بحيث يبقينني طيلة الوقت على السياج، ويبدو إنني أتمتع بذلك"، حاول منذ أن كان في المدرسة الثانوية أن يكتب، لكن لم يتمكن من نشر كتاباته بسبب فضائحيتها، سافر الى باريس عام 1928 ، لكي يلتحق بزوجته الثانية وقد حاول هناك أن يحصل على وظيفة لكنه فشل.. في باريس استطاع نشر مدار السرطان أولى رواياته، بعد هذه الرواية توطدت شهرة هنري ميللر وتلقى التشجيع والثناء من الشاعر الانكليزي الشهير"ت.س. اليوت"الذي كتب له رسالة يقول فيها :"لقد وجدت طريقك في الحياة كاتباً أصيلاً.. مفعماً بالحيوية ومطرزاً بزخارف وبذاءة ماضيه الخاص ومحاولاً أن يعبر عن آرائه بصدق عن الحياة والموت والقدر والأخلاق والحقيقة".
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية سافر الى اليونان ليقضي فيها فترة قصيرة يلتقي هناك بالكاتب لورنس داريل، وقد كتب عن هذه الرحلة في روايته"عملاق ماروسي"، بعدها يعود إلى اميركا ليستقر في كاليفورنيا، يستمر بالكتابة..حيث نشر في هذه المرحلة الكثير من الكتب..في العام 1936 تصدرمدار الجدي لتكتمل لديه ثنائية روائية.. وقد سارعت اميركا بفرض الحظر عليها، كما إن انكلترا لم تسمح بتداول هذه الروايات.. في العام 1941 ينشر كتابه"عالم الجنس" ويشرع بكتابة روايته"الصليب الوردي"، في عام 1945 ينشر روايته"الكابوس المكيف للهواء"، عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية هاجمها ميللر بشدة وكتب كتاباً بعنوان"لنقتل القتلة"يصف فيه الحرب بأنها سمسرة قذرة للسياسيين وإنها لا تعنيه، وإنه مسالم جداً رغم كل العنف الذي يشعر به في داخله، حتى في حياته الخاصة يكره التقاتل. ويحلم أن يجلس عظماء العالم، متأثرين بالحكمة والصفاء، ومحكومين بنشر السلام العالمي على الكرة الأرضية. ويجد أن حضارة الغرب أصيبت بتصلب الشرايين، وإنهم يعيشون موت الثقافة، وأحاطوا أنفسهم بجميع الظروف لموتهم الوشيك. ويقول إنها النهاية، لقد صنعنا كل شيء من أجل الانفجار، والنهضة مجرد شكاوى للمتفائلين.
اتسمت علاقته بأبيه بالبرود المتبادل وغياب التفاهم، عانى كثيراً من تسلط أمّه وقسوتها :"لم أشعر بدفء منها، أبداً لم تقبلني، ولم تحتضني، ولا أتذكر إنني طوقتها يوماً بذراعي، ولم أكن أعرفأ الامهات يفعلن ذلك، لقد كان الناس في هذا الحي الألماني شديدي الانضباط “وقوماً قساة حقاً"، بعد الحرب العالمية الثانية وبعد دخول الجيش الأميركي باريس لتحريرها من النازية، اكتشف الجنود الأميركيون كتاب"مدار السرطان"وسرعان ما راحت نسخ الكتاب تنفد من المكتبات، في هذا الوقت كان هنري ميللر يعيش بائساً في كاليفورنيا، يستأجر كوخاً على الشاطئ بسبعة دولارات في الشهر، وذات يوم وصلته برقية من الناشر الفرنسي تبلغه بأن أرباحه من كتاب مدار السرطان بلغت الخمسين ألف دولار، عندها فقط تمكن من شراء بيت خاص به في منطقة تدعى"بيغ سور"والذي عاش فيه الى نهاية حياته
في الخمسينيات نشر هنري ميللر خطاباته المفتوحة ليلفت الأنظار الى محنة الفنان في بلاده،الأمر الذي جعل منه بطلاً ورمزاً في عيون جيل كامل من الأدباء والفنانين، وقد هاجم ميللر الرقابة التي تمنع كتبه في أميركا، فما أعتبره الرقيب بذاءة في رواياته، أعتبره ميللر صدقاً في التعبير عن الواقع الإنساني “
توفي ميللر في منزله في السابع من حزيران 1980 عن عمر يناهز الـ88 إثر مشاكل في الدورة الدموية.، وحسب وصيته تمّ حرق جثمانه وتوزيع رماده بالتساوي بين ابنه وابنته .
ولد لوي فردينان سيلين عام 1894 لعائلة يهودية وتوفي سنة 1961، وقضى بداية حياته في باريس، ثم رحل مع عائلته الى جنوبي فرنسا حيث التحق بكلية الطب ليتخذ من الطب مهنة له، عام 1928 افتتح عيادة طبية في تلك السنوات بدأ بكتابة روايته الاولى"رحلة في آخر الليل"، وقد وجد الناشر فيها شيئاً جديداً وجريئاً، ظهرت الرواية عام 1932 فأحدثت ضجة كبيرة، وقد استمد سيلين أحداث روايته من تجاربه الشخصية وبعض ما شاهده من مآسٍ في الحرب العالمية الأولى، وفيها يصوّر البؤس والظلم الاجتماعي من خلال التجارب الشخصية التي يعيشها بطل الرواية باردامو، الذي يرسم لنا صورة لا رحمة فيها لمشهد عبثية الحياة، تلك الحياة المكونة من"الأكاذيب الصغيرة وضروب قسوة الإنسان على أخيه الإنسان". إن العالم الذي صوّره سيلين في هذا العمل، يبدو على الدوام لا مهرب منه ولا يحمل بارقة أمل... ومع هذا ها هو سيلين نفسه يقول لنا:"ما هي خلفية هذه الحكاية كلها؟ لست أدري، إذ ما من أحد فهم حقاً هذه الخلفية، ومع هذا أقول لكم ببساطة إنها الحب.. الحب الذي لا نزال نجرؤ على التحدّث عنه وسط هذا الجحيم".
بعد الرواية ينشر سيلين بياناً بعنوان"سفاسف من أجل مذبحة"وفيه يُظهر عداءه لليهود، وفي البيان يطالب سيلين بهدم كل النزعات الفاسدة تمهيداً لإقامة معالم الفكر الأدبي الحديث، وبعد عام ينشر روايته"مدرسة الجثث"التي زادت فيها حدة هجومه على اليهود، فحكمت عليه المحكمة بغرامة بتهمة السب العلني، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية يعتقل في كوبنهاكن ويحكم عليه بالإعدام ، لكنه يفرج عنه عام 1946 تحت تأثير مرضه الشديد، في سن 1950 تَحكم عليه المحاكم الفرنسية بالسجن عاماً ووصمته بالخسة القومية وصادرت أملاكه، وفي عام 1951 يخرج من السجن فيعمل طبيباً في الأرياف يعالج الفقراء، ويتفرغ لكتابة عمله الروائي الكبير"من قصر لآخر"، ظل سيلين يعد كاتباً ملعوناً، فالحظ لم يكن من نصيبه، وقد تعرض في حياته للهجوم من سارتر وألبير كامو. فهو في نظرهم المفكر والكاتب الفوضوي اليميني الفرنسي الذي لم يتورع عن مناصرة النازيين خلال الثلاثينيات والأربعينيات، حيث منعت كتبه وتعرضت المكتبات التي عرضتها للهجوم والحرق. ولكن برغم هذا يعترف سارتر إنه كثيراً ما فكّر بشخصية باردامو بطل رواية سيلين"رحلة في آخر الليل"وهو يكتب روايته ، كما أن كامو يعترف بتأثره بالرواية نفسها حين كتب “الغريب". تكتب سيمون دي بوفوار في كتابها المثقفون :" لقد كنا في ذلك الحين نقرأ كل ما يصدر من كتب: أما الكتاب الفرنسي الذي كان ذا قيمة أكبر بالنسبة إلينا فكان، خلال ذلك العام (رحلة إلى آخر الليل) لسيلين، حيث كنا نحفظ بعض مقاطع الكتاب غيباً. ذلك أن فوضى سيلين كانت تبدو بالنسبة إلينا، شديدة القرب من نزعتنا الفوضوية. هو أيضاً كان يهاجم الحرب والكولونيالية والتفاهة والأفكار السائدة. كان يهاجم المجتمع بأسلوب وبنغمة يُفتنّنا. في ذلك الحين كان سيلين صاغ أداة جديدة: كتابة لها حيوية الكلام العادي، وهذه الكتابة هي التي جعلت سارتر يتخلى نهائياً عن اللغة المفخمة التي كان يستخدمها من قبل".
********
ظلت الرقابة في اميركا وبريطانيا تفرض الحظر على رواية"مدار السرطان"لمدة ربع قرن، في شهر تشرين الأول من عام 1960 قررت الرسامة"دورثي أبهام"أن تتحدى قرار الحظر وذلك بابلاغ دائرة الكمارك بنيتها إدخال نسخة من رواية مدار السرطان إلى الأراضي الاميركية، فانتظرها رجال الكمارك عند هبوطها في مطار ايديل وقاموا بمصادرة النسخة، وكانت إحدى دور النشر قد نشرت رواية عشيق الليدي تشاترلي للورنس وبعض كتابات صمويل بيكت، وجدت في الخبر فرصة لخوض المعركة مع الرقابة للسماح بنشر الرواية، فتولت على نفقتها مهمة الدفاع عن الرسامة دورثي وكلفت المحامي الشهير افرايم لندن بتولي القضية وقد حددت المحكمة يوم التاسع من أيار عام 1961 للنظر في امر الرواية المحرمة، وفي نفس الوقت أعلنت دار النشر إنها بصدد نشر مدار السرطان، ووقف المحامي أمام المحكمة ليصرح بأن مدار السرطان تخلو من البذاءة وأن مصادرتها إجراء غير قانوني، وأضاف المحامي إن المحكمة يجب أن لاتنظر اليها على إنها رواية جنسية وإنما أمامها تحفة أدبية وإحدى روائع الأدب الأميركي، في ذلك الوقت كان هنري ميللر يقوم برحلة لسويسرا ومن هناك كتب لإحدى الصحف يقول إن ثلاثة من العرافين تنبأوا بان مدار السرطان سوف تُحرز عند نشرها نصراً كاسحاً وبعد عدة جلسات صدر قرار الحكم بالإفراج عن الرواية المصادرة، لكن هذا القرار قوبل بالرفض في العديد من الولايات الأميركية التي رفعت قضايا ضد الرواية مطالبة بمنعها، وما أن نشرت مدار السرطان في تشرين الثاني من عام 1961 حتى نفدت في الأسبوع الأول الطبعات الثلاث، ويبلغ عدد نسخ كل طبعة عشرين ألفا، وقد باعت دار النشر خلال الشهر الأول أكثر من مئة وخمسين ألف نسخة، ولم تنته أزمة الرواية فقد وصفتها مجلة تايم الأميركية بأنها كتاب قذر للغاية، في حين نشرت مجلة لايف على صفحتها الأولى صورة لميللر وروايته واصفة إياها بأنها تحفة أدبية متفجرة ومدمرة، في عام 194 يكتب جورج أورويل مقالاً عن رواية مدار السرطان بعنوان" داخل الحوت"حيث يشبه ميللر بشاب لايطاق في رسم كاريكاتيري، حيث يقول هذا الشاب لعمته إنه ينوي أن يصير كاتباً، فلما سألته عمته عما يعتزم الكتابة عنه رد عليها :" ياعمتي العزيزة إن المرء لايكتب عن شيء بعينه، بل إنه لمجرد أن يمسك القلم ويكتب"
، ويضيف أورويل إن الجديد الذي استحدثه ميللر في عالم الأدب له علاقة بنوع الطبقة التي ينحدر منها، :"فهذا الجديد يمثل صوت الجماهير والمطحونين وراكبي عربات الدرجة الثالثة والناس العاديين والسلبيين يشيحون بوجوههم عن السياسة والأخلاق".


تعليقات الزوار

  • الادب احساس ومشاعر تنبع من القلب

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top