كتب ملعونة..الحقيقة تستحق أن يُسعى في طلبها

كتب ملعونة..الحقيقة تستحق أن يُسعى في طلبها

ثلاثية الجنس.. الدين .. السياسة

 علــي حســين

|  17   |

الساعة العاشرة ليلاً من يوم 30 أيار عام 1778 دخل الطبيبان إلى الغرفة، كان الرجل الممد على السرير يئن بصوت خافت، قام أحدهم بفرك الصدغين، ففتح  المريض عينيه وقال"دعوني أموت"، حاولت المرأة التي تسهر على رعايته أن تستدعي القس قال لها بصوت واهن :"لاتحدثيني عن ذلك الرجل..دعيني أمت بسلام"، ثم ناول أحد القريبين منه ورقة أخرجها من تحت الوسادة، كان مكتوباً فيها :"إني أموت على حب الوطن، والإيمان بالله، لم اعتد في حياتي على أحد، ولم أبغض أعدائي، وأحب أصدقائي، ولا أؤمن بالخرافة".

في الثانية عشرة ليلاً كان قد استنفد كل قواه واستسلم للموت، إلا أن حكايته لم تنتهِ، ففي خارج المنزل كانت الحشود تنتظر أن يخرج إليها، ولم يجرؤ المحيطون به أن يعلنوا خبر وفاته، وكان القرار أن تخرج الجثة من الباب الخلفي للدار لتوضع في عربة لتدفن في الضريح الذي أعد له، ومن أجل إتمام مراسم الدفن توجه إبنا شقيقته الى الكنيسة كي تهب خالهما جنازة دينية، وبرغم الوساطات التي قام بها عدد من المسؤولين الكبار، إلا أن الكنيسة رفضت رفضاً قاطعاً منح بركاتها للميت الذي كان يشتم فيها ليل نهار، ويؤلب الناس عليها، وأصدرت تعليمات صارمة بان كل رجل دين يتدخل في هذه القضية سيعفى من منصبه، وجرى الاتصال بالملك، فوجد نفسه في موقف محرج وأجاب :"إنه ما من سبيل سوى ترك الكهنة يقومون بمهمتهم". مر يوم على الوفاة، وكانت باريس ماتزال تجهل ذلك، وفي لحظة ما قررا ابنا شقيقته أن يقوم خالهما باداء دوره الأخير في الحياة، فاستدعوا الى غرفة الميت جراحاً وصيدلانياً، ليقوما بتشريح الجثة، وتحنيطها، وبعد أن انتهوا من المهمة ألبسوا الجثة الثياب ثم وضعوها في العربة بهيئة الجلوس، وشدوا العربة بستة خيول، إذ كان ينبغي التحرك بسرعة..كان الميت يجلس على وسادات، مشدوداً بقوة ومقيداً بأحزمة مموهة، وقد جلس الى جانبه خادم ليكون رفيق سفر، وتبعه ابنا الأخت في عربة أخرى، عند أبواب باريس أدى الحراس التحية للرجل الجالس في العربة وكان واحداً من المشاهير، وانطلق الموكب بسرعة، ليصلوا الى مدينة سيلير ليلاً، كان الدير الذي قرروا دفن الجثة فيه شبه مهدم، فاختاروا أن يدفن قرب المذبح، قاموا برفع حجر كبير وحفروا قليلاً، ووضعوا تابوتاً من أربعة ألواح، مددوا الجثة التي تمردت في حياتها على الكنيسة والملك، وقد تم الاتصال بأحد القساوسة الذي أقام قداسا بسيطاً، ثم ووري التابوت وغطي بالحجر.، بعد أسابيع علم أسقف باريس بان فرانسو ماري آروويه الشهير بـ"فولتير"مات ودفن في سيليير، فاصدر قرارا بمحاسبة رئيس الدير ونبش الجثة، واخبرهم القس بان ابناء شقيقة المتوفي قدموا له بيانا بان خالهم رجع ألى الإيمان، ورفض نبش الجثة قائلاً إن فولتير له الحق في الدفن ولم يصدر بحقه حرمان. الأمر الذي أغضب أسقف باريس الذي اصدر مرسوما كنيسيا بحرمان القس من عمله، إلا ان الأمر كان قد وصل الى الصحافة التي قادت هجوماً ضد الإساءة إلى جثمان فولتير، الذي استطاع في النهاية أن يرقد بسلام ولكن الى حين.
ما إن قامت الثورة الفرنسية عام 1789 حتى بدأ رجال الثورة يفكرون في نقل جثمان الفيلسوف العظيم كما كان يسميه روبسبير، وبسبب الاضطرابات تم تأجيل الأمر لأكثر من عامين، وبدأت بعض الصحف تطالب بتكريمه باعتباره آباً للثورة، وهكذا صدر القرار في 1 أيار عام 1791 بنقل الرفات، وأحيطت الجثة المحنطة بورق السنديان، وحملت على مرأى من الجموع التي كانت تلقي بأوراق الزهور على الميت، جرى تحديد يوم 11 تموز موعداً لنقل الرفات الى باريس، وهو اليوم الذي قرر فيه الملك لويس السادس عشر الهرب من القصر الا ان ةمحاولته احبطت حيث تم توقيفه في مدينة فارين، وتصادف أن تلاقيا الموكبين، موكب الملك أسيراً في عربته يحيط به حرس الثورة، وموكب جثمان فولتير يحيط به حرس الشرف، حيث يدخل الأول إلى باريس أسيراً مهزوماً، فيما يدخل الثاني منتصراً محاطاً بالحرس الملكي الذي كان يطارده بالأمس، والملك يرفع ستارة العربة لينظر إلى الرجل الذي تسبب في تَصدع مملكته ولم ينفع السجن والنفي في إسكات صوته.
في باريس التي وصل إليها النعش كان مئات الآلاف قد تجمع لاستقباله وهم يهتفون تحية للتابوت، فيما الخيالة يتقدمون الموكب، وأرتال لانهاية لها من المشاة تحيط بالتابوت الذي كان يجد صعوبة في شق طريقة وسط الحشود الهائلة، كانت باقات الزهور ترمى من النوافذ.
ولد فرانسو ماري آروويه"فولتير"في باريس عام 1694 من أبوين من طبقة الأثرياء، فقد كان والده كاتب عدل مدينة باريس، وأمه من الطبقة الأرستقراطية الفرنسية المعروفة بثرائها وبذخها.
ومثل عدوّه اللدود جان جاك روسو، الذي جاء الى الدنيا بعده بثمانية عشر عاماً، لم يشاهد أمّه، إذ لم تستطع الأمّ تحمل متاعب آلام الوضع فماتت إثر ولادته، وكانت الممرضة التي سهرت على ولادته قد أخبرت والده أن ابنه لن يعيش أكثر من أربع وعشرين ساعة بسبب ما كان عليه من ضعف شديد. وحين عرض على الأطباء كان قرارهم انه لن يعيش أكثر من أيام معدودة، لكن الأقدار تشاء أن يعيش لأكثر من ثمانين عاماً، ألّف فيها أكثر من مئة كتاب ورسالة فلسفية، سلّم في نهايتها برميل الثورة المتفجر الذي ظل يصنعه لأعوام طوال، الى كل من روبسبير ومارا ودانتون، ليفجروه صبيحة يوم 14 تموز عام 1789،. وقد استمدت الجمهورية الفرنسية أفكارها من كتابات فولتير وروسو، فكانت أول ثورة تقرر فصل الدين عن الدولة والمساواة وحرية التعبير، وتلغي الإقطاع وامتيازات النبلاء ورجال الدين، وتضع أموال الكنيسة تحت تصرف الدولة، وتنشر مبدأ مجانية التعليم، ومشاريع العدالة الاجتماعية.

****

لسنوات طويلة كان فولتير يحفظ هذه العبارة ويرددها أمام ضيوفه :"إن الإنسان يبغي من المعرفة في حياة خيرة سليمة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتحديد ضوابط الفهم الانساني، فبناء الحياة لا يستقيم إلا بإرساء أسس المعرفة".ويقول عن صاحبها بأنه لايوجد عقل أكثر منه حكمة على مرّ التاريخ.
كان صاحب هذه المقولة ولد في 29 آب من عام 1632 في إحدى قرى الشمال الانكليزي، والده يعمل بالمحاماة، وكان حريصاً أن يكفل لابنه تربية مستقلة متحررة، وقد كان لهذا أثر كبير في اتجاه"جون لوك"منذ الصغر نحو التأمل الفلسفي، وقد كتب عن الآراء التي حصل عليها من والده فيما بعد في كتابه"خواطر في التربية"الذي يوصي فيه بالإستعاضة عن منهج خضوع الطفل خضوعاً أعمى لوالديه، وأن يستبدل ذلك بالرعاية المعتدلة التي تعمق الصلة بين الطرفين، وقد كان واضحاً أن لوك خلق للحياة التأملية، فقد كان رجل دراسة، صحته ضعيفة، يشكو من الربو المزمن، كانت الفلسفة تجتذبه خصوصاً بعد أن قرأ ديكارت لأنه برأيه"الفيلسوف الأكثر وضوحاً"، كما تفرغ لدراسة آراء الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز، وفي الجامعة قرر أن يدرس الطب، والعلوم المرتبطة به، فدرس الفيزياء والكيمياء، لكنه رغم ذلك لم يشأ أن يجعل من الطب مهنة له، فسرعان ما امتدت اهتماماته إلى الميادين الاجتماعية والسياسية، وقد كان من أنصار توسع سلطات البرلمان وتضييق الخناق على سلطة الملك، الأمر الذي جعل السلطات تضيق الخناق عليه وتراقبه، فقرر السفر إلى فرنسا حيث قضى بضعة أعوام يدرس فلسفة ديكارت، يعود بعدها ألى انكلترا، فيجد ان تدخله في السياسة ومطالبته برفض الحكم المطلق، تجعله يغادر بلاده من جديدا وهذه المرة منفيا إلى هولندا ليعيش هناك خمس سنوات نشر خلالها رسالته الشهيرة في التسامح، يعود الى انكلترا عام 1689 ومعه مخطوطتي الكتابين الذين صنعا شهرته، الكتاب الفلسفي"بحث في الفهم البشري"والكتاب السياسي والذي عنوانه"بحث في الحكم المدني"، وهو عمل وضع في الاساس للتأكيد على الحق في مقاومة السلطة الجائرة والحق في الثورة كملاذٍ أخير، في الكتاب يسعى جون لوك إلى تحديد السلطة باعتبارها حالة بشرية لاعلاقة لها بالسماء، ولهذا من حق الأفراد التمرد عليها، وكانت الغاية الأساسية من الكتاب هي أن يؤسس للحرية السياسية، ويطمئن لوك المجتمع أن هذه الحرية ليست حالة مطلقة أبداً، ولا تؤدي إلى حرب الكل ضد الكل كما توقع هوبز، لأن العقل الطبيعي :"يعلّم الناس جميعاً، إذا رغبوا في استشارته، إنه لاينبغي لأي واحد منهم أن يُلحق ضرراً بغيره، لا بحياته، ولا بحريته، ولا في ماله، طالما إنهم جميعا متساوون ومستقلون".ويضع لوك ببراعة تفسير لأصل الحكم المدني بالتمييز بين السلطات، فللانسان في حالة الطبيعة نوعان من السلطات، وبدخوله الحالة المدنية يتخلى عنهما لحساب المجتمع، الذي يرثهما.للانسان سلطة أن يعمل كل ما يراه مناسباً لبقائه وبقاء سائر البشر، وهو يتخلى عنها لكي تكون هذه السلطة مضبوطة ومُدارة بقوانين المجتمع، وهكذا يملك المجتمع، وريث البشر الأحرار في حالة الطبيعة سلطتين أساسيتين، الأولى هي التشريعية التي تنظم كيف ينبغي استخدام قوى الدولة من أجل بقاء المجتمع وبقاء أعضائه، والثانية هي التنفيذية، التي تؤمن تنفيذ القوانين، لكي تسير أمور المجتمع على ما يرام ينبغي على الناس أن يحترموا المواثيق والعهود التي قطعوها على أنفسهم. فإذا أخل كل واحد بكلامه أو لم يحترم الوعد الذي قطعه على نفسه فإن المجتمع يخرب وينهار. وبالتالي فالحرية تعني احترام كل هذه المبادئ. الحرية مسؤولية في نظر جون لوك. وقوانين الطبيعة هي التي تفرض علينا ذلك. وهي قوانين عقلانية تنطبق على جميع البشر.
كان السؤال الذي يشغل بال جون لوك هو: كيف يمكن التخلص من الحكم الديكتاتوري؟ وهل يتمكن الشعب أن يؤسس لنظام حكم قائم على الحرية، و احترام كرامة الانسان الفرد؟ ويحاول لوك من خلال الفصول الأولى من الكتاب أن يدحض فكرة وراثة السلطة، ثم يبدأ في الفصول الأخرى تقديم صورة واضحة المعالم لنشأة الحكم المدني ومدى أهميته لينتهي الى القول :"فمن شاء أن لا يفسح لنا مجال القول إن جميع حكومات الأرض إن هي إلا وليدة السطوة والعنف، وإن البشر انما يعيشون معاً كما تعيش البهائم حيث الغلبة للأقوى، فعليه أن يبحث عن منشأ آخر للحكم، ومصدر آخر للسلطة السياسية". أثناء إقامته في هولندا حاول عدد من أصدقاءه تهريب مخطوطة"في الحكم المدني"إلى انكلترا، إلا أن السلطات الملكية ألقت القبض على الورد ويليام راسل والجرنون سيدني، وكانا قد نظما حركة سياسية ضد الملك تشارلز الثاني طالباه ومعهم جون لوك بان لايورّث العرش لأخيه، ووجهت لهم الاتهامات بالخيانة العظمى، وكان من ضمن القرائن التي استخدمتها المحكمة وجود مخطوطة كتاب"في الحكم المدني"الأمر الذي أدى الى إعدامهما، ومطالبة الحكومة الهولندية بتسليم جون لوك لأنه يُشكل خطراً على التاج الملكي البريطاني، فيما أصدرت الكنيسة قراراً بتحريم الاطلاع على كتب جون لوك وخصوصاً كتابيه"مبحث في الفهم الإنساني"و"رسالة في الحكم المدني"الأمر الذي أثر كثيراً على لوك الذي تدهورت حالته الصحية في سنواته الاخيرة، فاعتزل الناس في الريف إلا أنه توفي في 27 تشرين الاول عام 1704.

*****
عاش فولتير ظروفًا صعبة وكلفته جرأته وصراحته الكثير من التضحيات حتى أنه وضع وصفاً طريفاً لحياته :"في فرنسا يجب أن تكون السندان أو المطرقة. أنا اخترت أن أكون سندانًا"، وكان يسعى لأن تصبح الحياة من حوله أكثر حيوية وقوة :"كل مَنْ ليس حيوياً ومستعداً للمواجهة فهو لا يستحق الحياة وأعتبره في عداد الموتى". عُرف فولتير أيضاً بلهجته القاسية واللاذعة وبحسّه الساخر الممزوج دائماً برغبة في التغيير، وشكَّل ظاهرة فريدة في الفكر الفرنسي، انتقلت عدواها الى عواصم ثقافية أخرى فتأسس ما يشبه"المدرسة الفولتيرية الفلسفية"التي بدأت مظاهرها تتوضح أكثر من خلال كتابه الشهير"القاموس الفلسفي"الذي ترجم بعضاً منه المفكر المصري حسن حنفي. ويعتبر قاموس فولتير هذا أهم عمل أنتج خلال عصر التنوير، ففيه نقد للطغيان وفيه كراهية للتعصب، وفيه إدانة للحروب، وفيه انكار للميتافيزيقيا بكل غيبياتها، وفيه دعوة الى المساواة. يُعد هذا الكتاب في نظر مؤرخي الفلسفة، أول مؤلف فلسفي يستخدم اللغة العادية في التعريف بالأفكار الفلسفية، ونرى فولتير من خلال صفحات الكتاب يلجأ الى أسلوب السخرية.
في مقدمة الكتاب يوضح فولتير هدفه من هذا القاموس فهو يبغي أولاً : رفض عقيدة العناية الإلهية التي تدور حولها الديانة المسيحية وبالتالي رفض كل ما يتعارض مع العقل في ميدان العقائد أو ما يتعارض مع الأخلاق في مجال العلاقات الانسانية. وثانياً : هدم الفلسفات التي تحاول أن تدخل الإنسان في متاهات الخرافات. وثالثاً : الدعوة الى السلام والتسامح ورفض الحروب الدينية والدنيوية وشجب التعصب العقائدي. ولعل هدف فولتير من خلال القاموس كان واضحاً حين كتب لفريدرك الأول رسالة يشرح فيها مضمون كتابه :"أسعى لأن أعيد بناء الدين والمعتقدات على أسس عقلية، والقضاء على الخرافة والأساطير وكل ما يشذ عن العقل."
يطرح فولتير في القاموس رأياً جريئاً وصادماً حين يؤكد أن معظم العقائد في الأديان هي نسيج من الأساطير ومن وضع جماعات دينية، ونراه يلخص قضية الدين بجملة مؤثرة :"ان كل المناقشات حول هذه العقائد تضر أكثر مما تنفع، ولايبغي الدين أكثر من الإحسان والعدل، إن هناك فرقاً بين ما قاله المسيح وبين ما يعرف باسم المسيحية، فالمسيح لم يدع الى العقائد بل الى الأخلاق الفاضلة، لم يؤسس عقائد، ولم يقم ديناً ولم يسن شعائر أو طقوساً."وينبهنا فولتير أن الفضائل الحقيقية هي التي تقدم الخير الى المجتمع، فالاعتدال فيه محافظة على الصحة، والإخلاص والتسامح فيهما إبقاء على العلاقات الاجتماعية. وبهذا نرى أن فولتير يرفض الفضائل التي جاءت بها الكتب الدينية، والتي تتلخص بالشجاعة والكرم والحكمة، فالدين بالنسبة له هو الحياة، والحياة هي رعاية مصالح الناس، ويرفض فولتير الفكرة القائلة بأن المتدين لديه أخلاق، أما غير المتدين فلا أخلاق له، ويصر فولتير على أن الدين الوحيد الصحيح الناتج عن استعمال العقل، هو التنزيه المطلق الذي يظهر في الأخلاق العملية، من خلال ممارسة العدل، أو الإيمان بأن تعامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به. ويحاول فولتير وضع المبادئ العامة للدين الشامل ويجعلها في نقاط هي: أن لايقوم التدين على العناية الإلهية أو خلود النفس، وإن عبادة الله بطريقة شاملة، لا بالطقوس، وإن الأخلاق هي الدين الصحيح، ويضع الاعتدال ضد التعصب، ويرفض تقديم القرابين للكنيسة، كما إنه يؤمن أن التوحيد نتاج العقل المستير لا نتاج التوراة والإنجيل.
وكان الهدف الأول من كتاب فولتير هو الدعوة الى السلام والنظام الجمهوري وللمساواة بين البشر، حيث يرى فولتير أن أفضل نظام سياسي يقوم على العقل، ويصر على إشاعة مفهوم الجمهورية التي تقوم على الديمقراطية ومبدأ تبادل السلطات :"إن الجمهورية هي أفضل نظام ملائم للبشرية لأن الملكية تنتهي الى الطغيان، ولايمكن طاعة البشر باسم طاعة الله، بل لابد من طاعة البشر باسم قوانين الدولة، يصيح الدكتاتور بأنه يحب وطنه وهو في الحقيقة لايحب إلا نفسه."وينكر فولتير على رجال الدين تدخلهم في شؤون السياسة، ويدعو الى علمانية الحكم، ويهاجم إدعاءات الكنيسة التي تريد أن تسيطر على البشر. لذلك اعتبر القاموس الفلسفي لفولتير أهم مصادر الثورة الفرنسية، وظل وقتاً طويلاً بمثابة دستور لها.
يتساءل البعض هل فولتير فيلسوف؟ بعض كتّاب سيرته يؤكدون إنه قاوم إرادة الاشتغال بالفلسفة، في مرّات كثيرة كان يسخر من الذين ينادونه بلقب الفيلسوف، مؤكداً عدم ثقته بالفلاسفة :"يخطئ الفلاسفة حين يعتقدون إنهم عندما يتناولون مسائل نظرية صرفة، يَحلون على الفور مشكلات الواقع."كان يقول إن حلم تغيير العالم يجب أن يقوم به الناس البسطاء، لا أصحاب كتب المنطق، وكثيراً ما كان يسخر من صورة الفيلسوف المتجهم الوجه :"ويل للفلاسفة الذين لايستطيعون إزالة تجاعيد وجوههم بالضحك، إنني أنظر الى الوجوم الذي يسيطر على الفلاسفة نظرتي الى المرض."وعلى الرغم من نأي فولتير بنفسه عن الفلسفة، إلا أن مكانه الشرعي بين الفلاسفة الذين صنعوا فكر التنوير يحتل مركزاً متقدماً
كان فولتير في بداية مساره، كاتباً مسرحياً، وقد انتقل من سجن الباستيل الى الشهرة في زمن قصير جداً، حين قُدمت له عام 1718 مسرحيته الخالدة"أوديب"، وقد حظيت بإقبال كبير حتى أنها عدت آنذاك واحدة من درر المسرح الفرنسي، وقد عادت عليه بأموال كثيرة، جعلت والده يقتنع إن الأدب يمكن أن يجلب المال، فكان يقول لأقاربه وهو سعيد :"فرانسو هذا ولد خبيث استطاع أن يجني المال الوفير من ضحكات الناس ودموعهم."بعد"أوديب"قدم عدداً من الأعمال المسرحية أشهرها بروتوس، موت القيصر، الابن البار، زوليم، محمد، ميروب. وفي القصة كتب الكثير غير أن قصة زاديغ التي ترجمها طه حسين كانت الأشهر. أما رواية"كانديد"، فكانت تمثل خلاصة وجهة نظره بمستقبل أوروبا، وقدمت عبر بطلها ما يشبه السيرة للكاتب. عرفت كانديد شهرة واسعة خاصة أن فولتير، وبعد أن تطرق للأزمنة الماضية وسرد أحداث التاريخ وتطوره، قدم نظرته للعالم الجديد الذي انطلق بعد الحروب التي وصفها فولتير بقوله :"هذا القرن شبيه بحوريّة البحر، النصف الأول منها جميل مثل أسطورة والنصف الآخر قبيح ومخيف في شكل ذيل سمكة."وحين كتب كانديد قرر الابتعاد عن العالم الخارجي وعن صخب المجتمع الذي كان يستهويه، وعزل نفسه:"أريد أن أمتلك الأرض بكاملها أمام عيني في عزلتي".

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top