المؤتمر العالمي لمكافحة التطرّف على الانترنت في باريس: الانعكاسات على الحالة العراقية

آراء وأفكار 2019/05/22 12:00:00 ص

 المؤتمر العالمي لمكافحة التطرّف على الانترنت  في باريس: الانعكاسات على الحالة العراقية

د. أحمد عبد الرزاق شكارة

الدور النيوزلندي المميز في قيادة مكافحة التطرّف على الانترنت تبلور بصورة غير مسبوقة تأريخياّ كنتيجة طبيعية لإحداث مؤسفة مآساوية إنسانياً ذهب ضحيتها أكثر من 51 قتيلاً وتقريباً ذات العدد من جرحى الاعتداء الارهابي على مسلمي نيوزلندة في مدينة كرايست تشيرش Christchurch في شهر آذار 2019. ضمن هذا السياق استقبل الرئيس الفرنسي إيمانوئيل ماكرون رئيسة وزراء نيوزلندة جاسيندا ارديرن التي بادرت أصلاً بطلب عقد مؤتمر عالمي لمكافحة التطرّف على الانترنت في باريس .
ترتيباً على ذلك، تشكلت (قيادة مشتركة نيوزلندية – فرنسية ) على إثرها عقد مؤتمر باريس في الفترة بين 15 -16 من شهر أيار الجاري . ضم المؤتمر عدداً من قادة دول العالم وبحضور أبرزمنتجي شركات التكنولوجيا تم إطلاق مبادرة حيوية جديدة تهدف إلى مكافحة التطرّف على الانترنت. جذر المشكلة يرجع للدور الإجرامي – الإرهابي الذي لعبه منفذ الجريمة "استرالي الجنسية" في التخطيط والتنفيذ لجريمة بشعة ضد الأقلية المسلمة المسالمة النيوزلندية في مدينة كرايست تشيرش .
رجل من مناصري تيار العنصرية البيضاء white- supremacist نفذ جريمته مستخدماً السلاح بإطلاق النار "بدم بارد" على المصلين في المسجدين الرئيسين في مدينة كرايست تشيرش Christchurch التي تقع في الجزيرة الجنوبية لنيوزلندة . الشيء الإضافي الخطير الذي تم استخدامه من قبل القاتل أيضاً تمثل بعملية تصوير لشريط يوضح الفقرات التفصيلية للجريمة البشعة ومن ثم بثها مباشرة على الفيسبوك من كاميرا مثبتة على رأسه ، وبسرعة خاطفة عرض الشريط على مئات الآلاف من الأشخاص الذين بدورهم أسهموا بنقله إلى آخرين بإعداد كبيرة جداً تصل إلى ملايين البشر. أي إننا أمام حالة عرفت أو تعرف بالتشارك المجتمعي واسع النطاق لإحداث الجريمة . هدف المؤتمر مطالبة المشاركين "تنفيذ تعهدات لوقف المضمون الارهابي والعنيف على وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الكترونية أخرى".
حضر الاجتماع السياسي نحو 80 مسؤولاً من رؤساء الدول ومسؤولي شركات تكنولوجيا الانترنت في باريس . الهدف المراد تحققه ضرورة إيجاد أفضل السبل لتوظيف التكنولوجيا الجديدة للانترنت من أجل الدفاع عن المصلحة العامة Public Interest وهي مسألة من الصعب تصورنتائجها طالما كان وراء هذه الشركات أهداف ربحية مادية تود تحقيقها على حساب منظومة المبادئ والقيم . إحدى الاشكاليات الأخرى التي تواجهها النظم السياسية في عالمنا (بضمنها النظام السياسي العراقي) لها علاقة بإستمرار حالة القلق العام المرتبطة بكيفية "مطالبة الدول وكبريات الشركات الرقمية – غوغل ، تويتر وفيسبوك - بالتحرك ضد الارهاب والتطرّف العنيف على الانترنت"؟ جدير بالإشارة إلى أنه بالنظر لغياب مؤسس الفيسبوك (مارك زوكربرك) عن حضور جلسات مؤتمر مكافحة التطرّف على الانترنت فأن جزءاً حيوياً من الإجابة عن دور الفيسبوك له علاقة مباشرة بإرادة صنع التغيير الايجابي لمنصات التواصل الاجتماعي التي تصل مشاركاتها بمئات الملايين من الدولارات . مع ذلك جاء إعلان شركة فيسبوك Facebook واضحاً متمثلاً بضرورة "تشديد القيود على خدمة البث المباشر لمنع التشارك الواسع لتسجيلات عنيفة كما حصل خلال مجزرة كرايست تشيرش ".
من المهم الإشارة إلى أن الفيسبوك وفور حصول الحادث الجرمي قد قامت بإزالة ما يتجاوز 1.5 مليون شريط في خلال 24 ساعة فقط . لكن هذا لم يمنع أن عدداً كبيراً من أشرطة الفديو قد تم الاحتفاظ بها أو لم يتم التخلص منها كلياً ؟ إن الفيسبوك وغيرها من أدوات الاتصال الاجتماعي الرئيسة لازالت تتعرض للنقد كونها جميعاً لم تستطع إيقاف تيار قوي من حالات التطرّف والعنف هذا من ناحية ، كما إن مثل هذه الأدوات التي في متناولها ليست بعيدة عن كونها قابلة للاختراق من قبل جهات أخرى ما يجعل عامل الثقة المتبادلة بين وسائل الاتصال والجماهير الواسعة (بضمنها منظمات المجتمع المدني) ضعيفة نسبياً.
علماً بأنه لامناص في عصر الانفتاح الكبير على المعلومات والاحداث الساخنة من التعامل الجدي مع مثل هذه الشركات الكبرى للتواصل الاجتماعي والالكتروني لإنها اضحت جزءاً من عمليات التواصل الانساني الحر "اللبرالي" وجزءاً حيوياً من خارطة الإعلام الجديد ولذا نجد أنه من الصعب جداً تقيد حرية عملها برغم من التداعيات السلبية المرافقة . من هنا، استشعرت الدول ذات المؤسسات الديمقراطية الحقيقية وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا وكذلك المنظمات الدولية بل وحتى الأفراد أهمية عدم ترك الأمور على عواهنها والتحرك سريعاً لإطفاء نيران خطاب الكراهية والتطرف أو العنف .
السؤال الآخر المهم هو لماذا لم تحضر منظمات المجتمع المدني الرئيسة المؤتمر ؟ يتبع ذلك سؤال أخر مهم : هل لدى منظمات المجتمع المدني رؤية عملية – إستشرافية واسعة تبحث في كيفية التعامل مع الشركات الكبرى للتواصل الاجتماعي ؟ كما وهل لديها قدرات تنافسية تمنع أو تردع الجهات الإرهابية والمتطرّفة منها على وجه الخصوص من استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لإغراض التشجيع على العنف والجريمة .
أزعم انه ولحد كتابة هذا المقال لم تتوفر بعد أجابات نهائية حاسمة حول اسباب عدم الحضور ولكنها ربما ترجع الى ضرورة تفادي الإحراج الذي ستقابل به من قبل حكومات بعض الدول التي ليس من بينها الولايات المتحدة الاميركية في عهد الرئيس ترامب التي وإن لم تظهر معارضة لأنعقاد المؤتمر إلا أن المشاركة الاميركية أبدت تحفظاً رئيساً تمثل بضرورة التزام شركات الانترنت بتحديد الاطار العام لمحاربة الارهاب أولاً وفي المقابل أن لا تكون سياسة معارضة الارهاب سبيلاً لقمع حرية التعبير. من منظورمكمل لازال عدد من هذه الشركات تعيش مرحلة جنينية لاتسمح لروادها بعد أن يلعبوا دوراً معرفياً – علمياً – ثقافياً (مادياً وروحياً) مؤثراً وعميقاً تجاه المجتمع بشرائحه المتنوعة وطيفه المتلون .
إن سعي نيوزلندة الحثيث بإتجاه تجميع قدرات شعبها ومؤسساتها الرسمية وغير الرسمية ومن ثم توجيهها وقيادتها بإتجاه عمل عالمي مشترك يخفف من مخاطر الارهاب ومن ثم التصدي له بكل اقتدار مسألة غاية في الاهمية نظرا لإن الجهود الفردية والثنائية ليست كافية على الاطلاق لحل مشكلات وأزمات كونية. هذا ومن المناسب للعراق أن يكون جزءاً مبادراً لقيادة مشروع التصدي لمضمون التطرّف والعنف في منطقتنا طالما اعتد وجاهر بدوره الريادي في القضاء على داعش عسكرياً – أمنياً خاصة وأن لهذه المنظمة الارهابية والتي على شاكلتها أدوار سياسية وأيدولوجية تحمل مضامين هدامة ومدمرة لمنطقتنا العربية وللعالم الخارجي.
ضمن هذا السياق على الدولة أن تبادر لعقد قمة عربية – إسلامية كبادرة أولية لبحث كيفية التعاون والتنسيق المشترك للقضاء على انتشار ظاهرة الجرائم الالكترونية التي تحمل مضموناً قد يشجع على تصاعد التطرّف ، العنف والارهاب خاصة إذا لم تتضح بعد ولم يتم الاتفاق على الحدود الدنيا لصياغة القيود القانونية. إن الاوضاع الطبيعية للعراق تستدعي من القيادة السياسية العراقية بإجهزتها التنفيذية والتشريعية والقضائية العمل معاً بصورة فاعلة وموحدة في التوجهات وإنتاج السياسات الرامية لتغيير واقع سلبي يحمل الكثير من التعقيد ومن بذور تشجيع التطرّف والعنف المجتمعي الذي يأخذ صوراً للارهاب الفكري أو المسلح كنتيجة لإنتشار الجهل وتنامي انتشار السلاح غير المضبط بإيادٍ خارجة عن القانون بعيداً عن تطبيق أحكام ونصوص الدستور العراقي.
نظرا لما تقدم لابد للدولة من دور داينمي Dynamic Roleفي متابعة ما ينشر ليس فقط عبر وسائل الاتصال الجماهيري والتواصل الاجتماعي بل من خلال بعض مواقع الانترنت التي تتبع جهات مشبوهة اوتعمل بعيدا عن المسؤولية الاخلاقية والقيمية بل والوطنية ما ينمي محركات ومتبنيات تيار التطرف الذي قد يقود في مرحلة أو مراحل لاحقة للارهاب وللعنف الشديد الذي قد تنتج عنه جرائم ابادة أومجازر تؤدي بحياة الابرياء من شعبنا بل وربما تمتد آثارها وتداعياتها السلبية لمنطقة الشرق اوسطية الاستراتيجية وما ورائها. من هنا أهمية أن يؤسس لمنظومة قانونية دولية سليمة ، رصينة ورادعة هدفها الاول حماية البشر عموماً من كل المخاطر المتوقعة التي تهدد البناء الفكري والقيمي والاخلاقي وثانياً وبالطرق القانونية الرادعة إلزام مواقع بعض المحطات الفضائية التي ترجع لبعض متنفذي الأحزاب الإسلامية بالحد من ما تنشره بعض مواقعها من "سموم فكرية وصور مسيئة لكرامة الانسان أو للذوق العام" بعيدة كل البعد عن ديننا وثقافتنا وحضارتنا الإنسانية وبالتالي لابد من إزالة كلية لها من ذاكرة الانترنت كي لاتنتشر بعيداً عبر منصات التواصل الاجتماعي المتنوعة .
إن ادوار المجتمع والدولة في العراق لابد أن تتكامل وتتابع منهجياً وعلمياً من نخبنا الفكرية والثقافية والسياسية لإنتاج واقع مدني ديمقراطي حقيقي بعيد كل البعد عن نظام المحاصصة المقيت بكل صوره الطائفية – السياسية والفكرية . إن عراق المؤسسات الحقيقية من مؤسسة الاسرة مروراً بالمجتمع ومختلف شرائحه والدولة بمؤسساتها الرصينة هو العلاج الناجع للبناء الجيد والجديد والجدي المستدام نسبياً . إن التواصل مع مؤتمرات مكافحة الارهاب في الانترنت أمر أساس ما يستدعي تأسيس لجنة عراقية – عربية مشتركة تمارس دوراً تنسيقياً متابعاً لجهود الجهات التي عقدت مؤتمر باريس خاصة نيوزلندا وفرنسا وغيرها من دول تشاركهما الرأي والتوجه كي تكون هناك جدوى ومنافع متبادلة سواءً في تبادل المعلومات المهمة أو مدى حجم شفافيتها وتاثيراتها الفاعلة مجتمعياً – اقليمياً ودولياً ، أو في طرق المجابهة الحديثة مثل استخدام لغة اللوغراميثات التي تكشف طبيعة المضمون السيئ للرسائل الإعلامية التي تحتوي أو تتضمن خطاب الكراهية والتطرّف والعنف. من الأهمية بمكان أن يتوفر أيضاً مناخ مناسب وحر للمراقبة الذاتية والمجتمعي لمنظمات المجتمع المدني المعنية بحماية حقوق الانسان منعا لإمكانية تأجيج وتصاعد خطاب الكراهية بين البشر. إن مهمة الابلاغ عن كل مايسيء للمجتمع وللدولة من معلومات وأخبار وصور مسيئة لحقوق الانسان تنتشر في الانترنت مسألة لابد منها بإعتبارها مسؤولية أخلاقية ، قيمية وستراتيجية شاملة. أخيراً على شركات التواصل الاجتماعي الرئيسة إن تراجع ما تقوم به من مهام بصورة دورية الأمر الذي يستوجب للأفراد وللجماعات وللدول أن تنتهز الفرص المناسبة لتقويم ادائها بصورة تنهي أي تشجيع على العنف أو التطرّف المجتمعي ما يقودنا في العراق إلى تقديم مزيد من الأفكار الايجابية وأساليب التعاون والتنسيق مع جيراننا من العرب وغير العرب بصورة لم تعهد من قبل.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top