آلان تورنغ.. سيرة عبقري

آلان تورنغ.. سيرة عبقري

ترجمة : لطفية الدليمي

15

الإعتقال والمحاكمة

جاء نشر آلان لمكتشفاته الرياضياتية عام 1952 بشأن العلاقة بين أعداد فيبوناتشي وتوزيع البذور في أزهار نبات الشمس ليكون مقدّمة مشروع يمكن أن يفضي إلى مكتشفاتٍ أعظم سعى إليها آلان بكلّ عزم ممكن لكشف النقاب عن الأسئلة الكبرى التي تختصّ بكيفية تشكّل هيكلية الكون في أعظم المقاييس المتاحة ؛ لكن حصل عام 1952 شيء كانت له مفاعيله الخطيرة في التأثير على مسار حياة آلان بصورة مأساوية ؛ بل يرى البعض أنّ تلك المفاعيل هي ماتسبّب في وفاة آلان المبكرة .
أدرك آلان ومنذ بواكير يفاعته ، وعلى النحو الذي شهدناه من قبلُ ، أنه كان ذا نزوع جنسي مثلي ، ولم يعمد من جانبه أبداً أن يُبقي نزوعه المثليّ هذا سراً ملغّزاً ، وكما عرفنا في الفصول السابقة فقد إلتقى آلان خلال عمله في مركز بليتشلي بارك بِـ ( جوان كلارك ) التي إتخذها خطيبة له وكان في النية أن يتزوّجا ؛ لكنه لم يتوانَ عن إخبارها بميوله الجنسية المثلية . من جانب آخر بعد أن رسخت معرفته بالعاملين في مركز بليتشلي بارك راح يخبرهم أحياناً بحقيقة شغفه الجنسي المثلي ، وتعامل الكثير من هؤلاء مع هذه الحقيقة ببساطة ولم يمنحوها شيئاً من الإهتمام غير العادي ، ومضوا في جهودهم العملية مع آلان وكأنّ شيئاً ما كان ؛ غير أنّ بعضاً من العاملين في المركز أبدوا سلكوكاً سيئاً للغاية نحو آلان : كانت واحدة من تلك الإستجابات السيئة قد تبدّت عندما أخبر آلان أحد زملائه العاملين معه في مشروع ( دليلة ) ، وهو دونالد بايلي Donald Bayley ، بشأن سلوكه الجنسي المثلي ، وسواءٌ أكان الأمر يعود لكون الجنسية المثلية الذكورية فعلاً جرمياً يحاسب عليه القانون آنذاك أو بسبب الإنحيازات الشخصية الصرفة فقد أبدى بايلي ، ومنذ البدء ، ردة فعل عنيفة من الإشمئزاز تجاه آلان ؛ الأمر الذي خلق شيئاً من الجفوة والتباعد على علاقة الإثنين فيما بينهما ؛ غير أنّ بايلي صار مع الزمن يتقبّل فكرة كون المثلية الجنسية خصيصة واحدة فحسب مطبوعة في شخصية آلان ولايستطيع عنها فكاكاً ، وأنّ ثمة خصائص أخرى طيبة فيه ، وهكذا إنتهى الإثنان بعد زمن قصير ليكونا صديقين يكنّ أحدهما الودّ للآخر .
إلتقى آلان في ديسمبر ( كانون أول ) 1951 بشاب يافع يدعى ( أرنولد موراي Arnold Murray ) بجامعة مانشستر ، وانغمسا في علاقة ثنائية مع بعضهما . تحدّر موراي من خلفية طبقية عمالية فظّة الطباع ، وفي الوقت الذي إلتقاه آلان وانغمس معه في علاقة حميمة كان موراي مفلساً عاطلاً متبطّلاً رثّ الهندام هزيلاً بسبب النقص المزمن في الطعام الكافي لسدّ رمقه ، وكان موراي رجلاً مختلفاً تماماً عن كلّ الرجال الذين سبق لآلان أن إلتقاهم والذين شاركوه خلفيته الثقافية والإجتماعية من حيث المنبت العائلي المتحدّر من طبقة وسطى وارتياد المدارس العامة والجامعات المرموقة .
قضى آلان ورفيقه موراي الكثير من الوقت معاً في نزل آلن الواقع في طرفٍ قصي على تخوم مدينة مانشستر ، وراح آلان يمنح موراي بعض النقود بقصد مساعدته على تدبير أمور حياته المتعثرة .
حصل في يناير ( كانون ثان ) 1952 أن تعرّض منزل آلان لحادثة سطو ، وصُدِم آلان صدمة كبيرة عندما تناهى لأسماعه أنّ أحد معارف موراي ، وهو متبطّل غوغائي يدعى ( هاري ) ، هو من قام بذلك السطو . وثّق آلان حادثة السطو لدى دائرة الشرطة التي إعتقلت هاري على الفور . إعترف هاري بحادثة السطو تلك ؛ لكنه أباح أيضاً بشأن علاقة آلان الجنسية المثلية مع موراي ، وربما كان هاري مدفوعاً باعتقاده أنه باعترافه ذاك بشأن العلاقة المجّرمة طبقاً للقانون بين آلان وموراي فهو إنما قد يخفّف من عبء جريمته هو وبالتالي سيحصل على عقوبة مخففة .
كانت الجنسية المثلية الذكورية آنذاك فعلاً يجرّمه القانون ، ومن الطبيعي أن نتوقّع ردة فعل إنكارية لدى معظم الذين يُشتبَهُ في ميولهم الجنسية المثلية أو يُتّهمون بالإقدام على تلك الفِعْلة ، وكان ذلك الإنكار يُقبَلُ في العادة حتى في تلك الحالات التي كانت حقيقة الفعل الجنسي المثلي فيها ترقى لمرتبة الحقيقة المقطوع بثبوتها ولكن شريطة أن لاتكون عرضة للبرهان القاطع ، ومن المعروف أنّ الطريقة الوحيدة للبرهان القاطع على تلك العلاقة هي عندما يعترف طرفا العلاقة ( أو أحدهما على الأقل ) بممارسة أفعال جنسية مثلية ؛ الأمر الذي قلّما حصل لأنّ من كان يُقدِمُ على مثل هذا الإعتراف يعرف تماماً أنّه ذاهب إلى السجن لامحالة . في حالة أوسكار وايلد ، على سبيل المثال ، عرف معظم المجتمع البريطاني عام 1895 بحقيقة كون أوسكار جنسياً مثلياً ؛ لكنّ المجتمع أبدى سعادة فائقة في غضّ الطرف عن تلك العلاقة واعتبارها كأنها ماكانت أصلاً ، ولم يتمّ إعتقاله وإدانته إلا بعد أن جمع والد أحد المنغمسين مع علاقة مثلية مع أوسكار شواهد كافية بالضد منه وأرسلها مشفوعة باعتراف إبنه المثلي إلى دائرة السكوتلانديارد .
لكن مع بواكير الخمسينيات ( في القرن العشرين ) شُنّت حملة متعاظمة الزخم على الأفعال الجنسية المثلية بعد أن صارت تلك الأفعال تُعدُّ خطراً داهماً على المجتمع ، وراحت دوائر الشرطة تجنّد أفراداً من الضبّاط العاملين فيها ليكونوا عملاء سريين يعملون - تحت أسماء مموّهة - للتحريض على الفعل الجنسي المثلي تحت غطاء إدعائهم بأنهم ذوو ميول جنسية مثلية عنيفة ، وراحت الشرطة من جانبها تعتقل كلّ من يقع في هذه المصيدة المحكمة ، كما نشطت الشرطة من جانب آخر في إقامة دعاوى قضائية ضد هؤلاء بغية تجريمهم في المحاكم البريطانية وبوتيرة متحمّسة غير مسبوقة .
بالعودة إلى قضية علاقة آلان المثلية مع موراي وجّهت الشرطة إتهاماً ثنائياً لكلّ من الرجلين بشأن علاقتهما المثلية ، ولو أنّهما إكتفيا بالكذب وإنكار تلك العلاقة لكان هذا خليقاً بوضع نهاية للقضية برمّتها وإسدال ستار النسيان عليها ؛ لكن حصل أثناء إستجواب الشرطة لآلان بشأن تلك القضية ، وعلى غير المتوقّع ، أن إعترف آلان إعترافاً كاملاً بأنّ علاقته مع موراي كانت جنسية مثلية الطابع ، وكان هذا الإعتراف كافياً بالطبع لتوجيه تهمة إقتراف أفعال شائنة بعيدة عن الفعل اللائق الواجب في المواطنين المحترمين .
إعترف آلان بعلاقته الجنسية المثلية مع موراي في جلسة المحاكمة التي إنعقدت لمحاكمته بموجب القانون ، وطلب محامي المحكمة العليا أن لايقضي آلان الفترة القانونية المقررة لسجنه وهو حبيس جدران السجن ، وقال في هذا الشأن وهو يخاطب قاضي المحكمة : " سيخسر المجتمع البريطاني كلّ الفائدة المتوقّعة من البحوث العلمية التي يعمل عليها آلان ( لو حصل وتمّ إرساله إلى السجن ) ، وأطلب إلى حضرتكم أن تتفكّروا ملياً في حجم الخسارة التي ستلحق بالمجتمع لو أبعِد هذا الرجل عن العمل البحثي المهمّ الذي يؤديه " ، ثم أضاف المحامي قائلاً : " ثمة علاج يمكن أن يعطى له عوضاً عن إرساله إلى السجن . "
كان " العلاج " المقترح دورة محسوبة من ( الإخصاء الكيميائي Chemical Castration ) ، ومفاد النظرية التي يقوم عليها هذا العلاج هو أنّ حقنات منتظمة من الأستروجين ( وهو الهرمون الجنسي الأنثوي ) سيعمل على خفض الرغبة الجنسية المتأججة لدى آلان على نحوٍ يجعله يُبدي رغبة جنسية مثلية أقلّ تجاه غيره من الرجال .
وافق القاضي على مقترح محامي المحكمة بوضع آلان تحت فترة إختبار عوضاً عن إرساله إلى السجن شريطة موافقته على قبول العلاج الكيميائي المخصّص له ، وقد وافق آلان بالفعل على هذا الأمر . لكن من جانب آخر ، ولأنّ آلان وجِد مذنباً وأدين بتهمة إرتكاب أفعال شائنة فقد سُحِب منه التصريح الأمني الرسمي لأنّ كون الجنسية المثلية تهمة في ذلك الوقت كان أمراً كفيلاً - كما يرى المسؤولون على الشؤون الأمنية - بجعل المثليين العاملين في المؤسسات الحكومية واهنين وعرضة للإبتزاز من جانب عملاء الأعداء . بقدر مايختصّ الأمر بآلان فقد عنى هذا الأمر بأنه ماعاد بعد الآن قادراً على تقديم خدماته الإستشارية الثمينة بشأن أي موضوع من الموضوعات الخاصة بفتح الشفرات السرية .
تباينت رؤى الناس الذين عرفوا آلان حينذاك بشأن المفاعيل التي تركت آثارها على آلان عقب تلك المحاكمة والإدانة : رأى البعض أن تلك المحاكمة ماكان لها سوى تأثير ضئيل لايكاد يظهر على سلوك آلان إلى حدّ دفعه لقبول العلاج بالحقنات الكيميائية وهو الذي أبدى رفضاً ثابتاً في قبولها أول الأمر ، ودعم هؤلاء قناعتهم تلك بأن آلان - الذي لم تُفرَض عليه تحديدات قطّ تمنعه من السفر لأي بلد يرغبه في العالم أثناء فترة إخضاعه للمراقبة والإختبار - قد سافر فعلاً إلى فرنسا واليونان صيف عام 1953 ، وتؤكد كل الشواهد بأنه إجتنى متعة عظيمة من وراء سفراته تلك .
لكن ثمة في المقابل آخرون ممّن رأوا أنّ الحظر الذي فُرِض على عمل آلان في العمل بأي مشروع حكومي بحثي فائق السرية سواء في ميدان فتح الشفرات السرية أو في ميدان تطوير الحواسيب قد تسبّب في تدمير روحه بقسوة ؛ فقد كانت تلك البحوث والإستكشافات الفكرية المتقدمة تمثل جوهر حياة آلان وشغفه الأعظم في الحياة كلها ، ومن الطبيعي أن نتصوّر حجم الألم الذي عاناه آلان بعد أن وجد ذاته ممنوعاً من المشاركة في تلك البحوث والإستكشافات .
كان ثمة علامة أخرى ، جسدية هذه المرّة ، آلمت آلان وأزعجته إلى حدود بعيدة ؛ إذ تسبب العلاج الكيميائي له بهرمون الأستروجين الأنثوي في تضخيم حجم ثدييه ، فضلاً عن زيادة وزنه ( ولاسيما في منطقة الخصر ) ، ولنا أن نتخيّل مقدار الكآبة التي تسبّب بها هذا الأمر لآلان الذي لطالما عُرِف عنه دوماً إمتلاك جسد رياضي رشيق خالٍ من الزوائد الدهنية وخليق ببطل مشهود له في سباقات الماراثون الطويلة .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top