الذوق.. بين أمين الريحاني وأحمد أمين

الذوق.. بين أمين الريحاني وأحمد أمين

د.فائق مصطفى

يعد الذوق أحد أركان الحضارة الحديثة، الى جانب المواطنة والعقل والتسامح والوعي الاجتماعي...الخ. وللذوق تعاريف عدّة، وقد سبق لي أن عرّفته (بالمعنى العام وليس المعنى الخاص المتعلق بتذوق الجمال الفني وغيره) بأنه التعامل الراقي مع الناس والبيئة والفنون وسائر الأشياء.

وعندي أسس الذوق أربعة هي: الإحساس بالجمال، الخطاب المهذّب واللبق مع الجميع، الهدوء والنظافة.

عُني كُتّاب المقالة الأدبية العربية، في وقت مبكّر، بـ(الذوق) ودعو إلى معرفة أسسه والتحلي بهذه الأسس حتى يكون للفرد ذوق رفيع وتتحقق له السعادة والإحترام في المجتمع. من هؤلاء –حسب علمي- كاتبان هما أمين الريحاني وأحمد أمين.

كتب الريحاني مقالة (ماهو الذوق) في العام 1933، بدأها بجملة العنوان ((ماهو الذوق الذي يرفع بصاحبه، وإن كان لايملك من تلاد النفس، الى منزلة عالية من منازل الحب والإعجاب؟)). ويأتي بأمثلة تثبت ما يقول، ويصل الى أن الذوق هو غير الثراء، وغير الزيّ. وهذا هو الوهم الأول الشائع عن الذوق. والوهم الثاني الشائع عند الناس حول الذوق، والذي يرفضه الريحاني في ضوء أمثلة واقعية، ربط الذوق بالعلم، فيقول: الذوق هو غير العلم وغيرالصناعة. والوهم الثالث ربط الذوق بالأدب، لكن الريحاني يقول: الذوق غير الأدب وغير الشعر، وغير المقاصد السامية. أما الوهم الرابع فهو ربط الذوق بالعقل، غير أن الريحاني يثبت، في المقالة، أن الذوق هو غير العقل الذي لا ينفع صاحبه إذا كان شاذاً في ما يدمن، وفي ما يشتهي. إذن ماهو الذوق؟ يجيب الريحاني:

((الذوق، كما جاء في القاموس، حاسة من الحواس الخمس الظاهرة. وقد أحسن القاموس في إستدراكه. فإن هناك حواسّ خفية ليست من موضوع القاموس، وهي الآن عين موضوعنا. قد يُطلق الذوق في اللغات كلها على مايدعى الطبع. ويطلق الأوربيون اسم الحاسة السادسة على تلك المعرفة التي تجيء بعض الناس بداهة وعفواً. فهل يصحّ أن نقول إن الحاسة السادسة هي الذوق؟ لنترك للأفرنج ما للأفرنج، ونقل إن الذوق هو الحاسة الأولى من الحواس الخفية...)) ثم يُلقي الضوء على هذه الحاسة الخفية قائلاً: ((التناسق والتوازن –هاهنا السر الأكبر في تلك الحاسة الخفية التي تعاون الحواس الخمس الظاهرة في وظائفها، وتصوغ في الآداب والفنون، من الوحي آيات ومن بنات الفكر تُحفاً خالدات. أمّا التناسق والتوازن فهو أن تُدرك أن لكل كلمة أو حركة أو إشارة، معنى لايتم ولايستقيم إلّا باتحادها إتحاداً سهلاً ملائماً مع غيرها من الكلمات والحركات والإشارات. وإن لكل تصرف أو أمر روحاً هي منه كنقطة الدائرة. وإن كل ما ينشأ من هذه الروح أو يتعلق بها أو يشترك معها، إذا لم يكن فيه تناسق وتوازن، يفسد العمل كله. هذه الحقيقة الجوهرية الكبرى تصُح في أدب السلوك، وفي الفنون الجميلة والأعمال الذوقية كلها، بل هي تصح في شؤون الحياة جمعاء)).

إنّ الريحاني، في مقالته هذه، لم يستطع أن يوضّح على نحو دقيق مايعنيه (الذوق). وفي الوقت نفسه، إنصبّ جهده على إيضاح دلالة الذوق بالمعنى المتعلق بالجمال الفني وليس المعنى المتعلق بأدب السلوك الاجتماعي. كذلك لم يبيّن كيف يرقّي الفرد ذوقه والفوائد التي يحقّقها له الذوق الرفيع.

أمّا أحمد أمين فقد خصّص إحدى الرسائل التي وجهها الى ابنه عندما كان يتلقى العِلم في بريطانيا، للذوق متحدثاً عنه بإسهاب، في كتابه الشهير (إلى ولدي) في العام 1951.

استسهل أحمد أمين رسالته قائلاً بأن المدارس والجامعات تُعنى بالعقل بوساطة العلوم، وتعنى بالجسم عن طريق الألعاب الرياضية، لكنها لاتُعنى بالذوق وتربيته وهو الأحق بالعناية والرعاية. لهذا يطلب إلى ابنه ان يتولّى تربية ذوقه بنفسه، فما الحياة بلا ذوق، وما الدنيا بلا جمال؟ بعد ذلك يبدأ الكاتب بإيضاح فوائد الذوق للفرد والأمة ((إن الذوق عمل في ترقية الافراد والجماعات أكثر مما عمل العقل. فالفرق بين إنسان وضيع وإنسان رفيع، ليس فرقاً في العقل وحده، بل أكثر من ذلك فرق في الذوق. ولئن كان العقل أسسَ المدن ووضع تصميمها، فالذوق جمّلها وزيّنها. إن شئت أن تعرف قيمة الذوق في الفرد فجرِده من الطرب بالموسيقى والغناء، وجرده من الاستمتاع بمناظر الطبيعة وجمال الأزهار، وجرده من أن يهتزّ للشعر الجميل والأدب الرفيع والصورة الرائعة، وجرِّده من الحبّ في جميع أشكاله ومناحيه، ثم أنظر بعد ذلك ماذا عسى أن يكون وماذا عسى أن تكون حياته)). وفي ختام الرسالة يُؤكّد فوائد الذوق للفرد، قائلاً ((ليس عندي نصيحة أغلى من أن تكوّن ذوقك ثم تُنمّيه، تُرقيه. فإن فعلت ذلك ضمنت لك سعادة الحياة والاستمتاع بها، وضمنت لك سموّ أخلاقك ونبل عواطفك، وضمنت لك نجاحك على قدر كفاينك)).

ومن مزايا نص أحمد أمين، التي لم نجدها في نص الريحاني، رسم طريق بناء الذوق وتطويره عبر ثلاث مراحل ((إنّ للذوق مراحل كمراحل الطريق....فهو يبدأ بإدراك الجمال الحسّي، ومن صورة جميلة ووجه جميل وزهرة جميلة وبستان جميل....ثمّ إذا أحسنت تربيته إرتقى الى إدراك جمال المعاني فهو يكره القبح في الضعة والذلّة، ويعشق الجمال في الكرامة والعزّة، وينفر من أن يظلم أو يُظلم، ويحبّ أن يَعدِلَ ويُعدل معه، ثمّ إذا هو ارتقى في الذوق كره القبح في أمّته وأحب الجمال فيها....فيصعد به ذوقه الى مستوى المصلحين. فالإصلاح المؤسّس على العقل وحده لايجدي، وإنّما يجدي الاصلاح المؤسّس على العقل والذوق جميعاً. ثم لايزال الذوق يرقى الى أن يبلغ درجة عبادة الجمال المطلق والفناء فيه)).

ومن العوامل التي تساعد على تنمية الذوق عند الفرد، الشعور بالشخصية الذاتية وممارسة النقد الذاتي، وهما أمران يجعلان الفرد يعرف جيداً سلبيات وإيجابيات شخصيته. والعامل الآخر هو تطبيق القاعدة الذهبية للأخلاق، في السلوك الإجتماعي، وهي ((عامل الناس كما تحبّ أن يعاملوك)). وهكذا يتطور ذوق الفرد وتتحقق له السعادة. كيف؟ ما العلاقة بين الذوق والسعادة؟ إن الذوق أولا، يحقق السلام مع النفس لأن صاحب الذوق لايعاني أزمات وتأنيب الضمير لاحترامه حقوق الانسان ومشاعرهم، الأمر الذي يجعل الجميع يودونه. وثانياً يملأ الذوق الرفيع وقت صاحبه بكل ماهو جميل، وتنمو عنده ملكة الاعجاب والحبّ الذين يقرّبانه من السعادة كما يرى كثير من الفلاسفة.

وأخيراً أدعو وأقترح أن يكون عندنا في العراق، يومٌ للذوق، مثل يوم المرأة والمعلم والكتاب والحبّ، وذلك بسبب تفشّي قلة الذوق في ربوعنا بسبب تدهور التربية والتعليم، وضعف القراءة الجادة، وشيوع النزعة الاستهلاكية التي تجعل همّ الفرد كله منصباً على إشباع حاجاته المادية، واهمال الحاجات الروحية والثقافية.

 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top