كيف احتفلت روسيا هذا العام بميلاد بوشكين

كيف احتفلت روسيا هذا العام بميلاد بوشكين

د. ضياء نافع

أكتب هذه السطور في اليوم السادس من حزيران / يونيو عام 2019 , والذي تحتفل فيه روسيا بميلاد بوشكين , والذي وحّدت معه يوم اللغة الروسية أيضاً , لأن بوشكين واللغة الروسية الأدبية المعاصرة صنوان . ولد بوشكين في هذا اليوم قبل 220 سنة ,

وعندما ذهبت اليوم لشراء الصحف الروسية كالعادة , شاهدت صور بوشكين على الصفحات الأولى وهي معلقة على واجهات الأكشاك . ها هي صحيفة ( ليتيراتورنايا غازيتا ) وعليها بورتريت بوشكين بشعره المجعّد , أو ( المكعكل !) كما نقول بلهجتنا العراقية الحلوة , والمانشيت الكبير فوق تلك اللوحة الجميلة هو – ( نطير مع بوشكين ) , وهي جملة غريبة جداً وغير مفهومة للقارئ بتاتاً , ولكن الجملة الأصغر تحتها توضحها , إذ نقرأ ما يأتي – ( الآن مطار شيرميتوفو الموسكوفي يحمل اسم الكلاسيكي الروسي ) , أي أن روسيا قررت في عيد ميلاد بوشكين أن تطلق اسمه على واحد من أكبر مطارات العاصمة الروسية , وهكذا تتوضح جملة المانشيت , إذ ستقلع مئات الطائرات الآن من (مطار بوشكين) وستهبط مئات الطائرات في (مطار بوشكين) ..., وذلك بعد أن وقّع الرئيس الروسي الأمر الإداري الخاص بإطلاق تلك التسمية نتيجة لفوز اسم بوشكين في مسابقة ( الاسماء العظيمة لروسيا ) في التصويت الشعبي الواسع حول تلك الاسماء التي كانت مرشحة لتسمية ذلك المطار الدولي الكبير, وارتباطا بهذه الذكرى يفتتح تمثال لبوشكين في المطار وهو يقف بحجمه الطبيعي يلقي القصائد ويمسك بيده كتاباً مفتوحاً , والتمثال من إبداع النحات الروسي المعاصر بورغانوف , و الذي سبق له أن عمل التمثال الشهير لبوشكين وزوجته في موسكو , وكذلك تمثال بوشكين في واشنطن . يتضمن هذا العدد من صحيفة ( ليتراتورنايا غازيتا ) أيضاً مقالتين تشغل كل واحدة منهما صفحة كاملة, الأولى بعنوان – (الشاعر) , وهي مقاطع من مقالة منشورة في نفس تلك الصحيفة عام 1937 , أي عندما احتفلت روسيا السوفيتية بالذكرى المئوية لميلاد بوشكين , وتستعرض المقالة بعض نتاجات بوشكين بأسلوب شاعري رقراق , وتقول مثلا عن الحكايات الشعبية له – (... إنها حلمه عن مستقبل الإنسانية , حيث البحر يجب أن يكون أزرقا , والأسماك والطيور يجب أن يكونوا من ذهب , وخدود الفتيات يجب أن تكون متورّدة .... ) . أما المقالة الثانية فقد كتبها باحث من القوقاز حول ملحمة شعرية عن حوادث وشخوص من تلك المناطق الجبلية بدأ بوشكين بكتابتها عام 1829 , ولكنه لم يكملها , ووجدوها ضمن مسوداته الكثيرة, والتي يقول عنها هذا الباحث , إنها ذات أهمية رغم أن بوشكين لم يكملها , لأنها لازالت تمتلك ارتباطها بواقع القوقاز لحد الان , ولا مجال هنا للتوسع في الكلام عن ذلك أكثر. 

أما صحيفة ( ليتيراتورنايا راسيّا ) فقد نشرت على صفحتها الأولى أيضا لوحة جميلة لبوشكين على خلفية منظر للريف الروسي النموذجي بسعته وأشجاره وأنهاره , وتحت تلك اللوحة مانشيت كبير يقول – ( لقد حكى لروسيا عن روسيا ) , وهذا هوعنوان مقالة تشغل حوالي صفحة ونصف من العدد المذكور في تلك الصحيفة , وتتناول موقف بوشكين الفكري العميق من قضية كانت ومازالت ملتهبة – إن جاز التعبير – في روسيا , وتكمن في تحديد موقع روسيا في العالم ومسيرتها اللاحقة , وهل هي أوروبية بحتة , ويجب عليها الالتحاق بالركب الأوروبي, أم إنها تمتلك خصائصها القومية المحددة , والتي تقتضي التركيز على تلك الخصائص وتطوير مسيرتها الخاصة بها , وهي مسألة شطرت الفكر الروسي على مدى أكثر من قرنين من الزمان بين مؤيد للنزعة الأوروبية الغربية وآخر يؤيد النزعة السلافية , والمقالة تؤكد طبعاً , إن بوشكين كان أقرب ( واؤكد على كلمة أقرب هذه ) الى أفكار النزعة السلافية الخاصة بروسيا, لأن بوشكين كان يعبّر عن الروح الروسيّة حسب بيت الشعر البوشكيني الشهير ,و الذي ذهب مثلاً –

الروح الروسية هناك..

وعبق الـ (روسيا) هناك..

ختاماً لهذه الملاحظات السريعة عن احتفالات روسيا بميلاد بوشكين , أود أن أشير- ليس إلا - الى البرامج الحافلة والمتنوعة في قنوات التلفزيون الروسية العديدة حول بوشكين من علاقته الصعبة والمعقدة مع السلطة ( بما فيهم القيصر الروسي وزوجته ) , والى عشقه للنساء من حوله ومغامراته معهنّ , والتي انعكست طبعاً في قصائده , و إلى مبارزته مع دانتيس ومقتله , وإلى أحفاده و أحفادهم , وإلى قصائده المغناة , وإلى طبعات مؤلفاته المختلفة , وإلى ترجمات نتاجاته , وإلى آراء الناس البسطاء حول شعره , وإلى الأفلام السينمائية التي انتجتها روسيا , المقتبسة من نتاجاته الأدبية , وإلى وإلى وإلى ....

بوشكين في روسيا أكثر من شاعر , إنه ظاهرة فذّة في تاريخ الفكر و الأدب الروسي , وقد تحوّل اسمه إلى رمز خالد من رموز روسيا , و بوشكين هو الذي يوحّد الروس جميعاً , بغض النظر عن اختلافاتهم وتناقضاتهم ... 

 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top