د. أحمد عبد الرزاق شكارة
لفترة طويلة لم يلق الأمن الغذائي الذي يعد القلب من الأمن الوطني العراقي رعاية خاصة أو حصانة من السلطات العراقية المتعاقبة إذ استمر معتمداً في معظم مصادره الغذائية على الاستيراد من الخارج
دون أن تعمد الحكومات المتعاقبة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي الذي يلبي إحتياجات المواطنين الأساسية من المصادر الغذائية المتنوعة بصورة صحية متوازنة. علما بإنه في عام 1957 استطاع العراق أن يصدر في غضون عام واحد فقط مليون طن من القمح إضافة للتمور المتنوعة التي عرفها العالم بجودتها وتنوعها قبل بلاد أخرى ، في بلد عرف سابقا بإنه بلد 30 مليون نخلة .
الشيء المؤسف إن العراق لم يتمكن حتى الآن من أن يصدر سلعاً غذائية حيوية ذات قيمة عالية مع تحمله في آن واحد كل التكاليف المترتبة على استمرار الاستيراد كنتيجة طبيعية لضعف الانتاج المحلي ، صحيح إنه قد تنخفض نسبة الاستيراد السنوي من الغذاء في بعض الأعوام قياساً لإعوام أخرى ولكنها بشكل أساس تبقى بمعدلات مرتفعة. بمعنى إن إحتياجات العراق من الغذاء المستورد ستستمر بصورة متصاعدة سنوياً خاصة وأن الجهود المحلية المعنية بإنتاج الغذاء لم تستطع ملاحقة نسبة زيادة السكان العراقيين التي هي بحدود 2.5% سنويا.
ضمن هذا التصور العام يفترض أن تتبلور ستراتيجية رشيدة شاملة زراعية ترتبط بقطاعات ومؤسسات وزارية اخرى لها شبكة وثيقة من العلاقات المهمة مع الشأن الزراعي (المالية ،الصحة ، البيئة ، المياه ، والامن الوطني) تترجم في النهاية في مجال تأمين الغذاء الصحي المتوازن لكل المواطنين دون أي تمييز سوى حب الوطن والعمل من أجله بكل تجرد .
من هنا تأتي ضرورة إلتزام العراق الكامل تطبيق أهداف الألفية الثانية للتنمية المستدامة (Sustainable Development GOALS – SDG’s) أو مايعرف ب SDG2 حيث تتمحور الأهداف حول إنجاز مايلي: "إنهاء الجوع ، تحقيق الامن الغذائي ، تحسن الحمية الصحية الغذائية وتنمية الزراعة المستدامة". من هنا، تطلب الامر إعداد العراق بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي للأمم المتحدة World Food Program – WFP-UN خطة عرفت بالمراجعة الوطنية الستراتيجية للامن الغذائي وللتغذية الصحية المتوازنة صدرت في – تشرين الأول 2018 (National Strategic Review of Food Security and Nutrition in Iraq) حيث غطت مايلي : سياسات مفصلية مهمة ، تغييرات مؤسسية بنيوية حقيقية مع عمل (يفترض أن يكون مهنياً وجدياً) لاستقطاب إستثمارات مهمة للقطاع الزراعي خاصة من قبل القطاع الخاص. ترتيبا على ذلك، فإن تأسيس ستراتيجية زراعية متكاملة للأمن الغذائي يجب أن تعتمد أولاً وقبل كل شيء على التعرف على أهم التحديات التي ينتظر من مواجهتها علميا وعمليا بهدف تخفيف بعض آثارها السلبية. حالة الفقر تعد في المقدمة من هذه التحديات الانسانية الخطيرة إذ يعيش مايقارب 22.5 % من العراقيين تحت مايعرف بخط الفقر الوطني National Poverty Line-NPL بمعنى لايتجاوز ما يحصل عليه الفرد إلا بحدود 2 $ - 3 $ دولار يومياً أو مايقارب 84 $ شهرياً.هذ وقد تصل نسبة من يقعون في هذه المرتبة المتدنية من الدخل مايقارب من 40 % من السكان في بعض المناطق العراقية. يتبع هذه النسبة حوالي 30 % ممن هم يعيشون أوضاعا ضعيفة جدا يمكن وصفها ب"هشة" أو قابلة للانفجار تجعل بعض مواقع القوى السكانية في الريف على حافة السقوط في آتون الفقر والفقر المدقع برغم توفر الإمكانات كنتيجة طبيعية لمايعرف غياب الامن الغذائي بصورته الاستراتيجية الشاملة . جدير بالذكر أنه وبرغم نمو الناتج المحلي الاجمالي GDP نسبة متواضعة في الاعوام القليلة الماضية إلا أن الموازنة الجديدة للعام 2019 لن تحدث اثرا ايجابيا في حياة المواطن طالما لم يحصل تغير إيجابي في حصة وزارة الصحة والمؤسسات التي تشاركها الهم الزراعي وسيبقى العراق يعتمد على جيرانه (تركيا وايران ومن الدول العربية مثل سوريا والاردن) بصورة كبيرة جدا. . من هنا ايضاً أهمية إضافة مواد غذائية استهلاكية أخرى تلبي إحتياجات المواطن من السعرات ،البروتينات والفيتامينات الاساسية التي يعد وجودها مسألة غاية في الاهمية للنمو الصحي السليم. جدير بالذكر إن اعداد من يعانون من سوء أو ضعف التغذية إزدادت بصورة لافتة من 6.5 مليون نسمة في عام 2002 إلى 10.1 مليون في عام 2016.. . علما بإن امراضاً أخرى مثل أمراض القلب – إنسداد الشرايين ومرض داء السكري والبدانة وغيرها كلها لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمدى تطور أوتنمية صحة الانسان.
عوامل أخرى تؤثر سلباً على تطور مسيرة الأمن الغذائي الوطني تتمثل بتدخلات الحكومة الواسعة في الشأن الزراعي – الغذائي بديلاً عن ضرورة تنمية القطاع الخاص المعول عليه في التنافس المشروع مع القطاع الحكومي لإنعاش الاقتصاد الوطني ما يسهم ببلورة ظاهرة الشفافية في الاسواق التجارية بالتواز مع الاهتمام الواضح بعمليات التخطيط العلمي – العملي "الميداني" والتنفيذ السريع والفاعل لتوزيع الملكية الخاصة على المزارعين في إطار مساحات زراعية محدودة. من هنا أهمية الحديث عن تعزيز الركائز الحيوية التي ستسهم بتحقق أهداف التنمية الغذائية-الإنسانية المستدامة:
أولاً : تحسين أدوات شبكة الحماية- وهي تضم برنامجين رئيسين متكاملين ، أولهما نظام التوزيع العام للموارد الغذائية وثانيا شبكة الحماية الاجتماعية حيث يجب مراجعتهما ومن ثم دمجمهما في برنامج واحد . المهم أن تتم عملية التركيز والرعاية الاجتماعية على شريحة الفقراء الذين يعانون الكثير من الفقر المدقع وهم بأمس الحاجة للمزيد من الدعم الحكومي ومن القطاع الخاص.
ثانياً : إثراء الانتاج الزراعي المستدام - من خلال إعتماد الزراعة الذكية التي تعتمد أحدث الأساليب والادوات لتنمية العملية الزراعية وتتكييف جيدا مع ظاهرة التغيير المناخي خاصة مع ارتفاع غير مسبوق لدرجات الحرارة وصل لنصف درجة الغليان. ضمن هذا الإطار الواسع يتم اعتماد برنامجين رئيسين ، الأول : متوسط المدى (3 أعوام) هدفه إنعاش الزراعة في مناطق التوترات والصراعات ، الثاني: بعيد المدى (5 أعوام) هدفه إحداث تغييرات بنيوية "هيكلية"مؤسسية بهدف معالجة : حالات الفقر ، وإصلاح البنى التحتية المتآكلة ، تأسيس شبكة خدمات لحماية القطاعين الحيواني والنباتي، الاهتمام بالمناطق محدودة المساحة الزراعية لتنميتها بالتوافق مع ضرورة رفع درجة الوعي ، التدريب والتآهيل لجموع المزارعين. ليس هذا فحسب بل الاهتمام بتوجه الزراعة نحو حماية المصادر الطبيعية للتربة والمياه معا. إضافة لإستعادة نظارة وخصوبة الاراضي الزراعية المستصلحة. أخيراً توفير الدعم الائتماني المالي للمزارعين خاصة خلال قيام هؤلاء بتنويع المصادر النباتية والزراعية بصورة تلبي إحتياجات السكان الفسيولوجية – النفسية والاجتماعية.
ثالثاً: معالجة العبء الثلاثي الابعاد لفقر أو سوء التغذية: يتم ذلك من خلال إعتماد أساليب الاندماج المجتمعي والاهتمام بالتغذية الصحية السليمة . من هنا، ضرورة رفع درجة الوعي والادراك لدى الطبقة الزراعية خاصة الشباب والنساء بهدف تحقيق أولاً : رفع نوعي لمستوى التعليم ، ثانياً تنمية القطاع الصحي - الزراعي كي يوفر تغذية متوازنة ذات تنوع مفيد لحياة السكان وإنماءً لمسار حياتهم. وأخيراً تسهيل الخدمات العامة للاطفال خاصة تلك المرتبطة بالتغذية المدرسية دون مقابل مع تركيز خاص على مناطق النزاعات حيث يعيش مئات الاطفال في حالات مزرية إنسانياً حقاً. يمكننا أن نضيف أن عمالة الاطفال هي الاخرى مسألة كارثية تزيد الامر سوءا لأطفال في مرحلة يفترض أن تكون الاجمل والأكثر صحة "جيل الطفولة".
رابعاً: أهمية زيادة العمالة للشباب وللنساء في الحقل الزراعي: يتم ذلك من خلال التدريب والتآهيل الدراسي من ضمنها تلك التي تعتمد على تقديم برامج دراسية عليا للدبلوما في الحقل الزراعي تستمر لعام أو لعامين. ضمن هذا التصور ايضا تأتي أهمية تاسيس صندوق للاستثمار الزراعي في مشروعات قصيرة ومتوسطة المدى.
خامساً: إصلاح الاسواق التجارية ، والاهتمام بسياسة الاسعار: مراجعة قطاع التجارة وسياسة الاسعار بهدف التعرف على الفجوات القائمة وتحديد منهج الاصلاح الذي من المفترض خلاله أن يتم السماح للقطاع الخاص بأدوار حيوية في حقول الاستثمار والانتاج الزراعي ، إضافة إلى ضرورة خزن الموارد الطبيعية ، والتسويق الزراعي.
إن تطبيق ماورد آنفا ، يتطلب توافر معدل سنوي للاستثمار يصل إلى مايقارب 1.3 بليون دولار يتم تخصيصه لتلبية حاجات الركائز الخمسة المشار إليها . إضافة إلى مايقارب 2 بليون دولار نفقات تخص عملية تعزيز شبكة الحماية الاجتماعية إلى غيرها من نفقات مساندة.
من المهم أخيراً التأكيد على أن العراق دولة محورية ستراتيجياً ولديها من الطاقات البشرية والمادية كلها بحاجة للتوظيف الاستراتيجي الصحيح وبشكل ليس ظرفي أوعشوائي ما يستوجب قيام "حكم رشيد أو راشد" مهني مسؤول يتمتع بسمات أهمها حب العراق والسعي لأنقاذه من كل الازمات وعلى رأسها الازمة الزراعية التي وصلت الى ظروف حرجة منها مثلا مايخص فترات الجفاف – التصحر او توفر أخرى معاكسة حيث تتوفر مياه المهمة ولكن دون عناية كافية بالحفاظ عليها وتخزينها أوتنميتها بالتواز مع التخطيط المستقبلي لتاسيس شبكة واسعة من بناء السدود والقنوات (علما بإنه قد تم اخيراً ترميم سد الموصل عقب 3 اعوام بتكلفة بلغت 120 مليون دولار) خطوة مهمة ولاشك على طريق طويل "الألف ميل أو أكثر" في وقت لازالنا بإنتظار الاعلان عن الاسباب الكاملة الحقيقية لما حصل للعراق من حرائق التهمت الكثير من مساحات الحنطة والشعير برغم كون الأراضي المحترقة لاتشكل سوى 1 % من ممجموع الاراضي المزروعة ولكنها تبقى كبيرة جداً بنظر كل من خسرها من المزارعين الذين بحاجة للتعويض المالي السريع والاكثر أهمية تقديم كل اشكال الدعم المعنوي لانهم عماد بناء قطاع زراعي يفترض أن يكون خصباً ومستداماً يحفظ لأجيالنا ثرواته الاساسية في بلد الحضارات "بلد الرافدين" إذ لايمكن لمن يعيش فيه ان يعاني إنسانيا من الجوع والعطش او من سوء التغذية فهل أدرك أهل الحل والعقد مدى أهمية الرسالة وعظم المسؤولية الوطنية لإصلاح وبناء بلادنا على أسس سليمة علمياً وعملياً مع حماية لمصادرنا الطبيعية من أية أخطار محدقة خاصة في مراحل تحقق الاكتفاء الذاتي من الحبوب أو من الثروة السمكية والحيوانية بل وفي كل زمن ؟؟؟
تعليقات الزوار
محمد الحسيني / باحث زراعي
بحث قيم جدا جدا ويستحق الاشادة به والعمل على ارساءه كخطة مستدامة من اجل تحقيق الامن الغذائي , لكن للاسف لقد اسمعت لو ناديت وطنياً ولكن لا وطنية لمن تنادي.