ناجح المعموري
ابتكر الفنان محمود عجمي منذ سنوات قديمة طريقته الجديدة في النحت، موظِفاً أسطورة الخصوبة في الحياة، وهما الذكورة والأنوثة.
وظل هذا النظام الثقافي الديني والسياسي متمتعاً بحضور كبير وطاغ، وظلت تجربته الفنية حاضرة على الرغم من إنها لم تشبع دراسة وبحثاً. وكنت أنا أول باحث ذهب لهذه التجربة لأنها تقع ضمن اهتمامي بالدرس الاسطوري واصدرت كتاباً خاصاً عنه.
تجربة محمود عجمي راكزه ، متحركة، تأتي بما هو جديد لتنزع عنها النمطية واحتمالاتها. من هنا دائماً ما تتمظهر بملامح جديدة ومختلفة عن المعروف سابقاً والمألوف. ولهذا استحقت حضوراً مستمراً في الحياة الثقافية والفنية. وفي كل معرض للفنان توجد مفاجآت عديدة، أحياناً في تحوار الرموز وتطويع أشكال جديدة غير مستخدمة قبلاً.
نظام الذكورة والأنوثة مركز الخطاب الميثولوجي والديانات البدئية تمركز كثيراً في العلوم الانسانية وحصراً بالانثربولوجيا. ونظراً لان الدراسات الثقافية الجديدة وفيرة ومتوفرة فانها حتماً، لعبت دوراً في تغذية هذه التجربة. ودائماً ما تتبدّى لي محاولات محمود عجمي ذات مغايرة وابتكار ملفت للانتباه، ويقدمها مدهشة وجديدة. من هنا ظلت هذه التجربة خاضعة للسيرورة. مثل رمزية الثور الذي بالإمكان أن نقول عنه بانه من أهم الرموز الثقافية والدينية في الثقافة والديانة العراقية، منذ لحظة سومر وحتى هذه اللحظة. وهو ــالثور ــ أكثر الرموز اغتناء وعمقاً وتنوعاً في الدلالة. لأنه كان وما زال في توظيفات الفن والأنواع الادبية مثيراً بما يتخلق عنه من دلالات وتأويلات.
اهتم محمود عجمي بالثور، وكان هذا الاهتمام أكثر اتساعاً وعمقاً من توظيفات غيره في الفن العراقي وهذه احدى الحقائق الجوهرية في التشكيل العراقي التي لا يمكن ولا يجوز تجاهلها ، لكن لم تكن التجارب منسوجة ونمطية فلكل تجربة ما يميزها من حضور فكري وبنائي في المنجز. فالثور في تجربة جواد سليم هو الابرز والأكثر حضوراً. وما زال متمتعاً بحضوره ليعبر عن اللحظة الحاسمة في ثقافة جواد سليم، بعد عودته من الدراسة بالخارج، وتجلت تأثيرات الحداثة والهوية واضحة في ذلك ، هذا يفضي بنا الى أن تجربة محمود عجمي ليست تأثيراً بما حققه جواد سليم ، بل هي تحديث للابتكار البنائي الذي ينطوي عليه رمز الثور، من هنا استمرت التنوعات البنائية في تجربة عجمي الفنية.
أستطيع أن أقول ما لم أقله من قبل في كتابي وعديد من مقالاتي عن هذا الفنان. وهو بقاء دهشة الفنان بالثور والتعرّف عليه موجودة ومستمرة. لأن توظيفات الرمز تنطوي حتماً على ما يساعد المتلقي على اقتناص المعنى، كما قال جادامير: فالفنان صياد مقتنص للمعنى باستمرار. مثلما برزت عنايته بنظام الذكورة الرمزية من خلال الثور، وبما يوازيه استمرار النظام الأنوثي، ليحققا معاً نوعاً من الحضور المدهش. مما يؤكد على دورهما في الحياة والعالم. ولم يذهب اليه محمود عجمي من خارج الخطاب الميثي، أو دفع به باتجاه الخطاب السياسي/ البطرياركي، وينحرف بوظيفته من اجل دعاية ذات بعد سياسي بسيط.
لعب الفنان محمود عجمي دوره بالغ الاهمية من خلال الثور ، ليجعل من الانوثة طاقة وتعبيرية، كاشفاً عن جسدها وما يتمتع به من دور ضروري، هو الذي يجعل من ثنائيةــ الذكورة والانوثة فضاء لا يتعطل ابداً. ونحن لا نستطيع إغفال مجال الجنس في أعمال الفنان، لكنه جنس خلّاق، يقود الحياة نحو عظمتها ومجدها لا هي تقوده نحو الاستهلاك، بل دائماً ما يتمظهر عن ثورة جبارة. أفضت الى التغير وتفعيل الانقلاب في علاقة الأنا/ الذات مع الآخر، لأن الجسد سيميائياً هو الوسيلة الفاعلة في تحيين الذات وتكريس الهوية . وافضل الامثلة الدالة على ذلك. هي ملحمة جلجامش التي ميزها الجنس، لا عبر القوة على تفجير الاتصال بين انكيدو وشمخت بل من عبر الحيوية التي تبدى بها الجنس عن امكانات نجاح التحول في تحويل الكائن من حالة الى أخرى. وجسد شمخت هو الذي جعل انكيدو يتحول تدريجياً من حيوان متوحش الى إنسان لائق ، انعزل عن فضاء التوحش وحاز انسانتيه العظيمة . بواسطة الجسد الانثوي الذي تمكن عبر ستة أيام وسبع ليال من تطويع انكيدو لقبول ما سيطرأ من تحولات وحيازة معان ثقافية ومعرفية جديدة وانا ــ ربما اول من اشار ــ بوقت مبكر الى اهمية جسد الأنثى بالنسبة لأنكيدو ، في تحويله ووضعه وسط سيرورة. أي الجنس/ الجسد لا يعني الاستهلاك فقط ، بل هو منقذ عظيم للحوار التبادلي. وتحقق هذا بوصفه ظاهرة جديدة تميزت وسيظل جسد الأنثى بها ــــــ وأنا واثق بما يمتلكه جسد المذكر ــــــ من امكانات ، لكنها ليست متماثلة مع طاقات جسد الانثى. وربما سيثار سؤال دائماً ما يواجهني عند تقديم محاضراتي عن ملحمة جلجامش ، لاعن الاسباب الانحيازية للأنثى. ودائماً ما اكرر بأن الفاعل هو سبب واحد وجوهري واعني به ما توفرت عليه الأنثى، منذ اللحظة البدئية ، على التعرف والتعلم والابتكار، وهي الوحيدة في الكون التي فتحت منفذاً لتعليم الذكر بثقافة الحياة الجديدة ، وهي الادخال الثنائي. والأساطير العراقية والشرقية حافلة بمثل هذه النماذج. الأنثى قادت الذكر لاكتشافها والذهاب باتجاه لحظة الموت المؤقت الذي تمنحه المرأة ويساهم به الرجل.
يتبع
اترك تعليقك