لكي لا ندفع الثمن مرتين..!

فخري كريم 2004/01/07 07:12:01 م

لكي لا ندفع الثمن مرتين..!

لا يتذكر العراقيون قضية أثير حولها النقاش، من مختلف المواقع الفكرية والسياسية، وأبدى الجميع اهتماماً بها، والاستجابة لمتطلباتها والدفاع عنها والحرص على حمايتها مثل الديمقراطية!

بل إنها اكتسبت، ربما للمرة الأولى في تاريخ هذا البلد حلةً إسلامية، وقومية وماركسية، أصولية سلفية، أو حداثية.

وهذا كله إيجابي، فالشعب العراقي الذي كان ضحية أنظمة استبدادية متعاقبة، طوال مئات السنين، ينعم هذه الأيام، بعد سقوط الطاغية، وفي ظل الاحتلال بإجماع الأحزاب والقوى والشخصيات، وبما تجسده من تيارات فكرية وسياسية، على الديمقراطية كمنهج ووسيلة، رغم أن بعضها لا يفكر بها إلا كمعبر لإعادة انتاج نظام استبدادي جديد، ولإلغاء الآخر، وإقصائه، بل واجتثاث جذوره!

لكننا ندرك جميعاً، والأهم أن الأغلبية الصامتة تدرك، ان الإدعاء باعتماد الديمقراطية كرؤيا ووسيلة ومنهج، لا يعبر دائماً عن حقيقة النوايا، ولا يجسد الأهداف المضمرة التي تسعى لبلوغها أطراف تلهج بذكرها كلما جرى الحديث عن السلطة والحكم وإرادة الشعب والعلاقة بين الأقلية والأكثرية، وصناديق الاقتراع والانتخابات.

وتنجلي الحقائق، وتتبدد الأوهام، حين تظهر وقائع الحياة السياسية اليومية ممارسات ومظاهر لا يجمعها بالديمقراطية جامع، بل لا يميزها عن أساليب وممارسات النظام الاستبدادي البائد، سوى الأدوات والشعارات ومنطق الإدعاء بامتلاك الحق والحقيقة المطلقة!

لا يحجب هذا الواقع المرير، دعاوى الرجوع إلى الشعب، والاعتماد على صناديق الاقتراع. فالمعنى الحقيقي لهذه الدعاوى كما تفضحه العديد من الوقائع، ينطوي على التهديد المبطن بالديمقراطية، ما دام يرافقه تحضير خفي للمنازلة باعتماد منطق القوة، وكسر موازين القوى، والترهيب والوعيد، والتحريم والتكفير..

ويترافق ذلك كله مع (ربما كغطاء، أو حتى نوايا طيبة) وعود مغرية، بعراق ديمقراطي جديد، يسوده التسامح والمصالحة الوطنية، ونبذ العنف، وقبول الآخر، واحترام الأقلية، ورفض الطائفية، ومكافحة الفساد، والتعايش مع الاختلاف، واعتماد التعددية وتداول السلطة، وإلغاء المحسوبية والوساطة.

وهذه كلها مفاهيم وقيم ديمقراطية، يحسد العراقي نفسه على انهمارها عليه مرة واحدة، تعده بمستقبل مضيء ومشرق، لا مكان فيه للعسف والإكراه والظلم وإلغاء إرادته.

لكن هذا العراقي الحالم يصحو كل يوم ويتعايش مع واقع لا علاقة له بكل هذه المفردات وما ترمز إليها من قيم ومفاهيم ووعود، سوى سقوط نظام صدام حسين الاستبدادي، واستباحة فلوله أمن المواطنين وحرماتهم، وعبث الاحتلال بسيادته وسبيل تطوره.

فمجلس الحكم الذي أعلن عن نفسه موحداً ومنسجماً، يتبدى يوماً بعد آخر متنافراً، طائفياً حتى النخاع، مهووساً بالمكاسب الطارئة التي يسعى البعض فيه لإدامتها بالتواطؤ مع أولياء الأمر، الطارئين هم أيضاً. تحزبياً ممسوساً بهاجس ضيق الأفق الفئوي، محكوماً “بالتوافق” المنافق، على خلفية ترضيات لا علاقة لها بالمبادئ الديمقراطية وبمصالح الشعب، إذ يقتصر هدفها الوحيد على كسب الوقت، ومراكمة النقاط لحسم الصراع في الوقت المناسب باعتماد منطق لي الذراع وكسره، ولو عبر صناديق الاقتراع.

ولكن المجلس رغم ذلك كله، الذي أخذ على عواهنه، كان ولا يزال، تعبيراً عن واقع لا مناص منه، في ظل غياب ائتلاف سياسي منسجم يعتمد الديمقراطية حقاً، رغم أن ذلك لا يلغي نتائج ولادته القيصرية المشوهة، لا لأنه ضم كل الطوائف والأطياف، بل لأنه كرسها كحقيقة سياسية في واقع البلاد، واثقلها بأشباه رموز لا طيف لها!

والوزارات تعيش هي الأخرى نفس الواقع المرير. فالمواطن لا يدخل وزارة إلا ويتوهم إنها مقر لهذا الحزب أو ذاك. ولا يتقدم لوظيفة، أو يطرح قضية إلا ويواجه بضرورة البحث عن والٍ حزبي أو سند مسنود.

وفي كل وزارة يصطدم المواطن بظل “لعضو في مجلس الحكم إلى جانب مستشار لهيئة الإعمار أو المعمرين”!

وتضيع وسط تدافع الأحزاب وتراشقها بتبادل التمثيل والامتيازات، حقوق المواطنين وملفاتهم وآمالهم بمستقبل مختلف للعراق الخارج تواً من كنف الاستبداد والتمييز بكل ألوانهما وتسمياتهما.

حتى إن البعض من المواطنين الذين لا تربطهم بالسياسة صلة رحم أو علاقة نسب..، راح يردد: لقد كان لنا والٍ مستبد واحد وولداه، ولدينا الآن مئات الولاة العادلين، لكن غير المنصفين إلا لرعاياهم.

وفي المحافظات، تدار سجون لأحزاب، ولتجمعات مشبوهة لقيطة. وفيها ينشط ويستبد شقاة سابقون، وفدائيون صداميون، ورجالات أمن واستخبارات تحولوا بين ليلة وضحاها إلى شرطة أخلاق، ودعاة عفة، لا يكتفون بملاحقة المواطنين واعتقالهم، بل وبممارسة أبشع أساليب التعذيب بحقهم.

ويمنح هؤلاء أنفسهم سلطة حرق المحلات وتدمير محتوياتها بحجة “التهتك” و”الخلاعة” وأنواع التهم الرخيصة المبتذلة، مع إن كل أعضاء مجلس الحكم يؤكدون على ضمان حرية المواطن أياً كانت مشاربه أو طقوسه أو اهتماماته، باستثناء الفحشاء والزنا العلني، (وحاشى) أن يعتبروا السفور والتبرج مظهراً لهما!

وفي حمى هذه الظاهرات والمظاهر المخيبة لآمال المواطنين ودعاواهم، يتخذ لي الذراع والاحتكام المؤجل لمنطق القوة طابعاً بالغ الخطورة، يتمثل في استبدال الإئتلاف والتحالف السياسي وتبادل الرأي والتفاعل على أرضية إعادة بناء دولتنا المنهارة على أسس ديمقراطية لا مكان فيها للطائفية أو التمييز بكل تجلياتهما، التلويح بالمرجعيات التي لا يمكن نكران قدسيتها في شؤون دين الناس ومذاهبهم، واقحامها طرفاً في الصراع السياسي المباشر، والاعتماد على نفوذها وقدسية مقاماتها لإنهاء اي حوار حر مبني على حق الاجتهاد واختلاف المناهج وأساليب التفكير وتباين القناعات في كل ما ينظم شؤون الناس الدنيوية.

والمرجعية تواجه بمرجعيات.

وتلعب الفوضى وسوءالنوايا والرعاية المشبوهة للفضائيات ووسائل الإعلام العربية، دوراً نشيطاً في التفريخ اليومي لمرجعيات دينية أو مذهبية أو عرقية أو اي من المشارب التي لم يعرف الناس لها أصولاً أو فروعاً في الحياة السياسية وفي بطون تأريخنا الحديث.

وفي ظل هذا الصراع المؤجل، والفوضى السائدة،.. تبقى الديمقراطية ضحية يتيمة رغم ابائها المنتشرين وأسيرة يعتم عليها..، انقطاع تيار الكهرباء..، وإمدادات البنزين..، وصمت الهواتف..، وطرق المواصلات المعفرة بالسواتر الجدارية..، وتفشي الفساد والرشوة..، واستمرار مآثر عصابات السلب والنهب والقتل..، وازدياد مقرات الأحزاب والمنظمات الأهلية وغير الأهلية..، ولجان حقوق الإنسان والبيئة، وعشرات الصحف والمجلات والنشرات والإذاعات..، والمناقصات والمزايدات..

ولكي لا ندفن الديمقراطية، وهي لا تزال نطفة، دون أن نهيئ لها مراسيم وداع تستحقها بجدارة...

ولكي نرد كيد الكائدين والمتربصين، ونحرمهم من متعة التشفي بشعبنا، والتندر على أحزابنا.

ولكي نرتقي إلى مستوى طموحات شعبنا ووطننا.

ولكي لا نكرر تأريخنا مرتين: كمأساة ولت مرة، ومرة أخرى كملهاة!

ولكي لا ندفع الثمن مرتين..

علينا أن ندرك بوعي عميق،.. أن الخطر المحدق بوطننا لا يفرق بين طرف وآخر..، ولا يوفر أحداً.

لكل ذلك علينا أن نصحو... ونتيقظ!

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top