بالفيديو.. حياة وانجازات عبدالكريم قاسم

د. فائق بطي

ضابط شجاع، ثائر وطني، زعيم امة بلا منازع، عاش وطنيا، واستشهد بطلا.. وبات خالدا في قلوب عشاق الحرية، في وطن أسمه العراق. والده "نجار" في محلة شعبية فقيرة، اسمها (المهدية)، رزق بثلاثة بنين: هو، وحامد وعبد اللطيف. تنقلت العائلة الفقيرة في بيوت طين الفقراء في الصويرة ومن ثم في بغداد مرة ثانية في محلة "قنبر علي" التي تقع بين أحياء شعبية معروفة لأهل بغداد: المهدية وإبراهيم عرب والفضل.

 

 

 

ولد هذا الرجل البسيط عام 1914 وأكمل دراسته في الثانوية المركزية، حيث كان متفوقا على أقرانه، ومن ثم عين مدرسا في أرياف "الشامية" في الديوانية لأقل من سنة، وكانت مدن العراق تغلي ضد الانكليز، ومعاهدة 1930، وإضرابات الطلبة تعم بغداد والجنوب، فقرر ترك مهنة التدريس والالتحاق بالكلية العسكرية في منتصف أيلول عام 1932، ووضع النجمة الأولى على كتفه في منتصف نيسان 1934، ليخدم كضابط في المعسكرات خارج العاصمة، حيث اتسمت حياته بالصرامة والجرأة منذ أن خدم في صفوف الجيش، ويتدرج في الخدمة العسكرية بعد أن منح رتبة "أركان" عام 1941، حتى إذا ما وقعت الحرب العربية – الصهيونية بعد إعلان دولة إسرائيل في 15 أيار 1946، شارك فيها كآمر الفوج الثاني في جحفل اللواء الأول وهو يحمل رتبة "مقدم ركن"، لتبدأ لاحقا مسيرة عبد الكريم قاسم الوطنية من مدينة "كفر قاسم" في غرب نهر الأردن، إلى وزارة الدفاع  ببغداد صبيحة الرابع عشر من تموز 1958.

كان ضابطا شجاعا لا يهاب الموت. عرفه الضباط جريئا مقداما في معارك فلسطين، وقبلها في حركات الشمال 1945 – 1946، في جبال كردستان.

حدثني يوما عمي، العقيد فخري صفو النعيمي، وكان ضابطا مشاركا ابان ثورة ملا مصطفى  البرزاني الثالثة، مع فوج عبد الكريم قاسم في القاطع الاوسط، قائلا:

كنا نعد الخطة للهجوم على جبل يتحصن فيه عدد كبير من قوات الملا مصطفى، على أمل ان نبدأ الهجوم في الفجر، وكان ضباط ومراتب الفوج يغطون في سبات عميق وينعمون بالراحة، استعدادا لتنفيذ الاوامر في الساعات الاولى من  الصباح. كنا في الوادي اسفل الجبل المعني، ومع تباشير الفجر، شاهدنا العلم العراقي يرفرف على قمة الجبل، وتبين لنا ان قاسم اخذ معه ثلة من ضباط الصف والجنود في الليل، وكنا ننعم بالنوم، وصعد الى القمة ورفع العلم العراقي فوق الجبل، ومن حسن حظنا، ان قيادة المقاتلين الكرد، قررت الانسحاب قبل بدء هجوم الجيش العراقي، ولو لم ينسحب المقاتلون، وشعروا بنا ونحن في الوادي، لكانت الابادة للقوة الموجودة حتمية دون ان يكون لنا الوقت حتى للقتال. ومنذ تلك الحادثة، بدأنا نطلق على امر الفوج "كرومي المجنون". 

هذا هو عبد الكريم قاسم.. الضابط المقدام.

كما وسبق أن حدثني والدي، وكان عضوا في وفد مجلس النواب العراقي، الذي أرسل لتفقد قطعات الجيش العراقي في فلسطين بعد معارك المثلث العربي "جنين – كفر قاسم – قلقيلية" عام 1948، ان عددا من الضباط العراقيين، كانوا يعصون ويتمردون على أوامر قيادة الجيش، ويقومون بحركات سريعة، استطاعت خلالها، قوة من هؤلاء الضباط من التوغل في عمق فلسطين، واحتلال مدينة "ناتانيا" على البحر الأبيض المتوسط ويريدون عزلها عن تل ابيب وعن حيفا، إلا أن قيادة الجيش رفضت ذلك وأصدرت أوامرها بانسحاب القوات العراقية، رغم احتجاجات أولئك الضباط. وقال لنا البعض من العساكر، إن الجيش كان يقوم باحتلال الكثير من المواقع، إلا أن الرد كان يأتي قاطعا: "ماكو أوامر"!

وفي الكتاب الأبيض الذي أصدرته اللجنة بعد عودتها من فلسطين، تردد اسم الضابط المقدم الركن، عبد الكريم قاسم، على رأس أولئك الضباط الشجعان.

هذه هي وطنية الضابط الجريء قاسم..

ومن المثلث العربي، ولدت فكرة الثورة على النظم العربية الفاسدة.

بدأت بثورة 23 يوليو في مصر عام 1952، وتشكلت داخل وحدات الجيش العراقي، حلقات وخلايا الضباط الاحرار.. لتتفجر ثورة 14 تموز 1958، ويعلن في اليوم الاول للثورة، ميلاد الجمهورية العراقية.

 

 

***

عدت الى الدار بعد ان انتهيت من العمل في الجريدة في ساعة متأخرة من الليل، وكانت المعارك في بيروت على اشدها، والمانشيت الذي كان  سيتصدر عدد (البلاد) في 14 تموز هو "الرصاص يلعلع في شوارع بيروت"، واذا به يلعلع في سماء بغداد في فجر ذلك اليوم التاريخي، ليذاع  في الساعة الخامسة والدقيقة الخامسة بيان الثورة الاول، بتوقيع الزعيم الركن عبد الكريم قاسم القائد العام للقوات الوطنية المسلحة.

تجمع "الفرسان الأربعة" كما يحلو للفنانة المعروفة عفيفة اسكندر، صديقة الوالد والسياسيين والأدباء، أن تصفنا نحن الإخوة، تجمعوا في الساعة السادسة صبيحة ذلك اليوم في دار الوالدة في عرصات الهندية، لينطلقوا من هناك إلى مقر جريدتهم (البلاد) في ساحة السراي - محلة جديد حسن باشا - خلف جامع الملك، وكان العمال يتوافدون توا إلى المطبعة، والفرحة بادية على وجوههم، وما ان ولج الفرسان الى داخل الدار واحدا بعد الآخر، حتى انهالت عليهم القبلات، والكل يهنئ بالثورة، ثم التفت العامل علي عزاوي إلى الأخ الأكبر بديع، وسأله إن كانت الجريدة سوف تصدر في الغد، فبادرت إلى الجواب مؤكدا ضرورة صدورها لتدوّن تاريخ هذا اليوم العظيم الذي كنا ننتظره، ولنصّور فرحة الشعب بتأسيس الجمهورية العراقية.

في الساعة الرابعة عصرا، اذيع بيان حظر التجوال في كل أرجاء بغداد، رغم احتلال الشوارع من قبل الجموع الهادرة وهي تهتف للثورة ولقائدها الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان عليّ واخوتي ان نقرر ان كنا سنواصل العمل، والساعة قد قاربت السادسة، والشوارع بدت خالية الا من العساكر والشرطة، فطلبت من بديع وكمال وسامي العودة الى دورهم، وان اتولى القضية شخصيا.

ذهبت الى دار الاذاعة في منطقة الصالحية، وكان الضباط الأحرار يحتلونها، ودخلت على احد الضباط برتبة رائد، وعرّفته بشخصيتي، مستفسرا منه عن امكانية الحصول على وثيقة "عدم تعرّض"، فنهض وعانقني وطبع قبلة على كتفي، وقال: اذهب واصدر جريدتنا (البلاد)، فهي جريدة الزعيم وحركة الضباط الأحرار، وهي المدرسة التي انتهلنا منها الوطنية العراقية الصادقة.

أمسكت بالوثيقة فرحا، واتجهت إلى دار صالح سلمان، ثم إلى منزل صادق الصائغ، وأخيرا إلى سكن العامل اللبناني جوزيف ابو جان، ومنضد الحروف اللبناني حسن، واتجهنا في الساعة الثامنة الى الجريدة، حيث تولى صالح سلمان تحرير البيانات التي أذيعت من إذاعة بغداد، إلى جانب كتابة تحقيق عن الساعات الأولى للثورة، وكتبت أنا الافتتاحية ومقالا آخر عمّا نريده من هذه الثورة، وأنامل العامل حسن تنضد ما نكتب، ثم امسك صادق الصائغ بمشرطه ليخط المانشيت الرئيسي (الثورة) الذي احتل نصف الصفحة الأولى بخط جميل وهو يحفره على قطعة البلاستيك المستعملة آنذاك في المطابع، ثم يخط العنوان الثاني (عبد الناصر يهنئ شعب العراق)، وأخيرا أدار أبو جان عجلة ماكنة الطباعة لتخرج (البلاد) بأربع صفحات، ولتكون الجريدة الوحيدة التي صدرت في اليوم الثاني للثورة.

لم اترك الجريدة منذ ان دخلتها مساء، حتى انبلاج الفجر، حين بدأت الجماهير تملأ الشوارع وهي ترفع اللافتات والشعارات التي تهنئ بالثورة وتطالب بالديمقراطية، وتهتف بحياة القائد عبد الكريم قاسم.

كنت أفكر بالمقال الثاني من سلسلة "هذه ثورتنا.. حصيلة كفاح طويل مرير"، حين دخل عليّ عبد اللطيف حبيب، سكرتير التحرير، ليبشرني بمقتل نوري السعيد في منطقة البتاويين وهو متنكر بالعباءة النسائية، على يد عريف في القوة الجوية. طلبت منه أن يرافقني إلى وزارة الدفاع التي لا تبعد عن الجريدة سوى امتار، لنرصد الخبر وماذا يجري هناك. عبد الكريم قاسم يهبط السلالم وفي يده غدارة بور سعيد، ليرى بأم عينيه جثة نوري ملقاة على سقيفة سيارة الاجرة، حينها التفت الزعيم الى مرافقه الامين وصفي طاهر، وقال له: الان نجحت الثورة.

عدت الى إدارة الجريدة وكان الأخوة قد وصلوا توا اليها، ليخبروني بان جثة السعيد تسحل في شارع الرشيد. لم استسغ هذا العمل وقد شاهدت في اليوم الاول للثورة جثثا اخرى تسحل وتعلق في شرفة احد الفنادق في صوب الكرخ، وهي جثة الوصي على عرش العراق السابق، عبد الاله، وغيره من ساسة البلاد من حكام العهد الملكي. وما هي الا دقائق، حتى ولج الى غرفتي ضابط برتبة نقيب وهو يسلمني رزمة من صور العائلة الملكية وبعض شخصيات الحكم، وباوضاع غير محافظة، وطلب مني نشرها في العدد الذي سوف يصدر بالغد. شكرت الضابط الثائر، واعتذرت منه عن نشر تلك الصور، وقلت له بأن الثورة جاءت لتفتح عهدا جديدا في تاريخ الجمهورية الوليدة، لا أن تنتقم بالصور والفضائح من أقطاب العهد المباد، وقد قضى بعضهم، والبقية تقبع في سجون الثورة. كبّر فيّ الضابط هذه الروحية، وانسحب من الإدارة، عائدا إلى مقر إذاعة بغداد.

صدرت الجريدة في اليوم الثالث للثورة وقد احتل المانشيت الرئيسي مساحة نصف الصفحة الأولى: "مصرع الخائن"، وليكون العدد الرابع (17 تموز) مزينا بصورة الزعيم عبد الكريم قاسم في وسط اول حديث يدلي به الى (البلاد)، بينما نائبه ووزير الداخلية العقيد الركن عبد السلام عارف يجوب مدن الناصرية والعمارة والكوت مع عدد من أقطاب وصحفي حزب البعث العربي الاشتراكي، (الوزير فؤاد الركابي والصحفي معاذ عبد الرحيم) وهو يدعو إلى الوحدة العربية الفورية مع مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة).

 

 

قائد الثورة يحيي الجماهير من سطح وزارة الدفاع المطل على شارع الرشيد.

مواكب ومواكب وجموع هادرة من الناس تهتف بحياة قاسم.

راديو بغداد يواصل بث الأناشيد الوطنية التي أهداها له عبد الرزاق المسعودي.

برقيات التأييد ونصرة الثورة تترى على الصحف وراديو وتلفزيون بغداد.

افراد الجيش الوطني يعودون الى ثكناتهم في معسكري الرشيد والوشاش.

كل الناس يستبشرون خيرا من العهد الجديد.

رن الهاتف في غرفتي مبكرا، ليطلب مني وصفي طاهر التواجد في وزارة الدفاع في العاشرة لحضور المؤتمر الصحفي الذي سيعقده الزعيم، وهو أول مؤتمر يدعو إليه بعد نجاح الثورة المباركة. فرحت جدا لسببين. الأول، مقابلة قائد الثورة وجها لوجه. والثاني، الفرصة للتعرف عليه  وكان قد خصّ (البلاد) باول حديث قبل يومين، ويؤكد لمرافقه الأمين وصفي طاهر، انه يعتبر (البلاد) جريدته ولسان ثورة 14 تموز، وكذلك  للاطلاع على رأيه بالجريدة، وتعميق اللحمة بين قيادة الثورة وبين الصحفيين.

دخلت إلى غرفة الاجتماع، وكنت أول من يحضر المؤتمر، فوجدت الزعيم جالسا في صدر الغرفة وأمامه منضدة مستطيلة كبيرة، وضعت عليها ثلاث سماعات صوتية، فاتجهت إليه لمصافحته، وأنا اعرّفه بنفسي، فابتسم ابتسامة جميلة، وقال: أهلا بابن البلاد، وأجلسني إلى جانب وزير الإرشاد محمد صديق شنشل.

أطال النظر إليّ وكأنه يريد أن يقول لي شيئا، إلا انه التفت إلى الوزير مستفسرا منه عن موعد المؤتمر ومتى يحضر الصحفيون العراقيون والأجانب؟

 

 

ضابط بزي عسكري وأنيق.

وجه بشوش تختفي وراءه صرامة مستترة.

عينان حادتان تلتمعان، لكنهما تنم عن الحب والحنان.

شعر اسود تتوغل فيه خصلات بيضاء تضيف إلى صاحبها وقارا.

عسكري خاض المعارك داخل العراق وفي فلسطين، لكنه مدني خجول.

بسيط جدا، وغني في سمو الأخلاق عندما يتحدث.

تشعر وأنت تستمع إليه أو تنظر إلى قسمات وجهه، بقوة شخصيته الواضحة.

كريم في العطاء وهو يتحدث إلى الناس والفقراء.

قائد ثورة ولكنك عندما تجلس معه تشعر بأنه صديق قديم.

هذا هو عبد الكريم قاسم في أول لقاء في مقره الجديد.

أعلن في مؤتمره "المبسط" خطة حكومة الثورة وأهدافها، وأجاب على أسئلة الصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء، وطلب من الحاضرين الابتعاد عن كل ما من شأنه ان يثير الحزازات والانتقام وزرع الفرقة بين ابناء الشعب، "فالثورة ما قامت الا لنصرة كل طبقات الشعب وخصوصا الفقراء والمعوزين والمتضررين من العهد المباد".

وسار بالثورة الى امام، وبرّ بوعوده للشعب..

 

 

 ***

بشرّ الشعب بانسحاب العراق من حلف بغداد العسكري.

حررّ الاقتصاد من تبعية منطقة الاسترليني وحرر العملة العراقية.

ألغى قاعدتي الشعيبة والحبانية وطالب بجلاء القوات البريطانية.

أطلق الحريات الديمقراطية.

أجاز التنظيم النقابي والمهني لكل شرائح المجتمع العراقي.

فتح أبواب وزارة الدفاع لكل الناس للاستماع إلى شكاواهم.

اصدر قانون الإصلاح الزراعي وحرر الفلاحين من جور الإقطاع.

أطلق حرية تشكيل الأحزاب السياسية.

كسر احتكار السلاح من الغرب وعقد اتفاقيات التسليح مع المعسكر الاشتراكي.

اعترف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية.

خصص المساعدة المالية للثورة الجزائرية، وانشأ جيش التحرير الفلسطيني.

ورغم هذه الانجازات والمكاسب، يدخل الشخص الثاني في الثورة ونائبه، عبد السلام محمد عارف، الى غرفة الزعيم، ويحاول ان يشهر مسدسه بوجه القائد،  فيتدخل وصفي طاهر وينتزع السلاح من يده.

ثم توالت المحاولات والمؤامرات منذ الشهر السادس من عمر الثورة الوطنية الرائدة..

فمن هم، ولماذا يشهرون السلاح لقتل هذا الزعيم الوطني؟

في الموصل، اراد العقيد عبد الوهاب الشواف اغتيال الثورة وقائدها في اذار 1959 وهو من الضباط الاحرار. وفي كركوك، ارادت شركات النفط وقوى الارتجاع اغتيال الثورة وزعيمها في تموز 1959. وفي منطقة رأس القرية في شارع الرشيد، في تشرين 1959، اطلقوا عليه وابلا من الرصاص من قبل عناصر حزب البعث العربي الاشتراكي ومنهم، صدام حسين وعبد الوهاب الغريري، إلا ان الزعيم خرج سالما وبجرح وحيد وبسيط في كتفه.

تكالبت على الزعيم والثورة قوى محلية واقليمية ودولية، للقضاء على مكاسب الشعب: حزب البعث العربي الاشتراكي، القوميون العرب، الرجعيون في الموصل، الاقطاعيون في الوسط والجنوب، ايتام العهد المباد، القوى الرجعية من الكرد والتركمان – شاه ايرن، تركيا، الاردن، دول الخليج العربي، مصر عبد الناصر – بريطانيا والولايات الاميركية المتحدة .. الخ. الا ان كل تلك المؤامرات والمحاولات باتت بالفشل بسبب التفاف الشعب وقواه الوطنية من الشيوعيين والديمقراطيين وضباط الجيش اليساريين والوطنيين خصوصا الضباط الاحرار وهم الاكثرية، حول الثورة وقائدها الأمين.

 

 

***

بعد أحداث كركوك بيوم واحد، في 16 تموز، ارسل بطلبي عبد الكريم قاسم، وكنت رئيسا لتحرير (البلاد)، وقبل ان اقابله، ادخلوني على الحاكم العسكري العام، احمد صالح العبدي، وكان في غرفته العقيد خليل ابراهيم (خليل رويتر)، نائب مدير الاستخبارات العسكرية، فقام العبدي وهددني بالسجن بسبب نشر (البلاد) بيان المنظمات الديمقراطية في كركوك ضد مؤامرة شركات النفط، وعندما واجهت عبد الكريم قاسم، وكان غاضبا عصبيا يتفوه بكلمات تكاد ان تسمعها، بسبب الحوادث الاليمة وعمليات القتل التي ارتكبتها عناصر مدسوسة واخرى بدافع الحرص على الثورة، الا انه توقف عندما توجهت اليه، ونهض من وراء مكتبه البسيط جدا، وصافحني، ملقيا اللوم عليّ بسبب ذلك البيان، وعندما حاولت ان افهمه بأن الصحف الاخرى وخاصة اليسارية، نشرت البيان نفسه، أجابني بأنه لا يهمه ذلك، لأن (البلاد) يعتبرها جريدة ثورة 14 تموز، وقال: آنا اقرأها كلها، وأشكرك على اختيار بعض الأسطر في باب "من اقوال الزعيم" الذي يحتل الركن الأعلى في يسار الصفحة الرابعة (المحليات) كل يوم.

في تلك اللحظة، دخل احد المراتب وهو يحمل (السفرطاس) ووضعه على الطاولة في منتصف الغرفة، فامسك الزعيم بيدي وراح يفرغ الطبقات الثلاث من الماسك، وطلب مني ان أشاركه الغذاء. كانت الاولى تحتوي على الرز والثانية على الفاصوليا اليابسة، اما الثالثة، فكانت مخصصة لرغيفين من الخبز والسلاطة الخفيفة. وعندما حاولت الاعتذار بحجة انها وجبة له فقط وتكاد ان تكفي، ابتسم واجابني: ما بالك قبل ايام تلك الوجبة التي شاركتني فيها انت وابو فرات (الجواهري الكبير)؟

كانت غرفة الزعيم هي مكتبه وغرفة الاستقبال والطعام والنوم التي كانت مرتبة المنام تفترش الارض ليستلقي عليها ما معدله ثلاث ساعات بعد منتصف ليل كل يوم..

 

 

وتتكرر اللقاءات

في إحدى هذه الزيارات، كنت بصحبة لطفي بكر صدقي، صاحب جريدة (صوت الأحرار) اليسارية، وهو صديق قديم للزعيم، لننقل له احتجاجات الصحفيين والكتاب على ما تنشره الصحف (الصفراء)، العهد الجديد لأحمد زكي، والشرق لمحمد العاني، وبغداد لخضر العباسي، من مقالات تحريضية وشتائم رخيصة ضد أصحاب الصحف الوطنية واليسارية المدافعة الأمينة عن الثورة ومكاسبها، وكنت مبادرا إلى طرح الشكاوى بصفتي من مؤسسي نقابة الصحفيين ومسؤول لجنة الرقابة فيها، فالتفت الزعيم إلى لطفي ودار بينهما الحديث التالي:

قال عبد الكريم: وأنت ما هو رأيك؟

لطفي: مع ما قاله زميلي.

كريم: وماذا تريدون مني؟

لطفي: كرومي.. هل تقرأ هذه الصحف؟

كريم: عن طريق التقارير التي يعدها لي الرئيس سعيد الدوري، المرافق الصحفي.

لطفي: ولماذا تسكت على هذه الأكاذيب والأساليب الرخيصة.

كريم: هذه سياسة!

لطفي: أية سياسة يا كرومي ونحن أصدقاء منذ سنوات طويلة.

كريم: الموازنة بين اليسار واليمين.

لطفي: هذه سياسة خطيرة، وأنت زعيم يحبك الشعب لوطنيتك وشجاعتك.

كريم: دعني أطمئنك بأن الثورة سوف تحقق المزيد من المكاسب.

لطفي: لهذا السبب أنت في خطر.

ابتسم الزعيم وقال: انا مع الشعب .. والثورة جاءت من اجل هذا الشعب ومن اجل الفقراء، وانا لا أهاب أي شيء، فحياتي ملك الفقراء.

وتتوالى المكاسب.. وتكثر الدسائس والمؤامرات في السر والعلن. ويصدر عبد الكريم قاسم قانون النفط رقم 80 لعام 1961 الذي انتزع بتطبيقه 99% من مناطق امتياز شركات النفط الاحتكارية، وأسس شركة النفط الوطنية لاستثمارها.

 

 

***

كانت جريدة (البلاد) قد انتقلت من محلة جديد حسن باشا في القشلة، إلى شارع السعدون – كرادة خارج – مقابل السفارة الأمريكية من الجهة الثانية المطلة على شارع النضال. وكنت قد أنهيت خدمتي في الاحتياط وعدت من معسكر الشعيبة لأتولى رئاسة تحرير الجريدة، إلا أن مديرية الاستخبارات والأمن العامة رفضتا الموافقة على الطلب لاسباب غامضة. فبادرت الى وضع أسمي على "ترويسة" التعريف كمدير للتحرير، وهو اول استحداث اوجدته في الصحافة العراقية.

انكببت على العمل لتجديد صفحات وابواب الجريدة، ومن ضمن ذلك التجديد، وكنت في حينها غاضبا على سياسة الزعيم فيما يتعلق بشن الحرب على الحركة الكردية في ايلول 1961 وفيما يتعلق بالعفو عن الذين حاولوا اغتياله، في حين، بدأت سلطاته  باعتقال العناصر الشيوعية واليسارية وفق سياسة "عفا الله عما سلف"، فقمت بحذف ركن "من اقوال الزعيم" واستبدلت تصميم صفحة المحليات بتصميم جديد.

في صبيحة اليوم التالي، اتصل بيّ المرافق الصحفي سعيد الدوري، وابلغني استغراب الزعيم من حذف الركن الخاص باقواله. لم اعرف كيف ابرر ذلك، وكانت مفاجأة لي، فحاولت ايجاد حجة سريعة، فلم أجد سوى أن اكذب كذبة بيضاء حبا بالزعيم، بأن ما حدث هو من باب "سقط سهوا"، فضحك الدوري وقال: أنت تعرف أن الزعيم أول ما يقرأه في البلاد هو ما تختاره من أقواله في هذا المربع العزيز عليه وعلينا جميعا. فعاد الركن إلى مكانه حتى اخر ايام عبد الكريم قاسم.

كنت في الكثير من الأيام امكث في الجريدة حتى ساعة متأخرة من الليل، أقف في شرفة كبيرة تطل على الشارع العام، أدخّن ما طاب لي من السجائر، لأني مدمن عليها بشكل جنوني، كما كنت أتداول شؤون الصفحة الاولى مع مسؤولها منير رزوق، حين مرّ الزعيم بسيارته وحيدا مع سائقه، وتوقف امام المبنى، وهو يشير عليّ بالنزول. هممت بالقفز على سلالم المبنى وأنا بين الاستغراب والمفاجأة، لاجده  يخرج رأسه من النافذة، ويسألني: ماذا أعددت لنا من أقوال في عدد الغد؟ وبكل بساطة وهدوء اجبته: ما يريده الناس منك يا زعيمنا. لم اصدّق انه يطلب بنفسه قولا بل شعارا كان يكرره في كل خطبه وفي كل المناسبات. قال اريد ان اكون دوما نصيرا للفقراء، فانا عشت طيلة حياتي فقيرا يقدم للمعوزين الذين اصادفهم ما يتبقى من راتبي كضابط.. قاطعته: لهذا يحبك الفقراء. ابتسم وشد على يدي قائلا: ما تطلب شي يا ابو البلاد.

استغليت هذه الفرصة وقلت له:

- ارجوك يا قائد البلاد ان تعيد للصحافة كرامتها التي بدأت تفقدها على يد الجهلة وأعداء الثورة من المتسترين وراء مظاهر تأييدك.

قاطعني وهو يهز يده السليمة بصيغة الاستفسار:

- ماذا تعني؟

- صحف الرجعية تشتمنا بعبارات قبيحة دون رادع أخلاقي.

- مثلا؟

- جريدة الشرق كتبت تحت باب "الف ذي عاهة وعاهة" وفي معرض هجومها على محررة عندنا  هي سلوى زكو بقولها البذيء .. كل دنك شارع الرشيد بـ....

 

 

احتد وطلب مني مقابلته صباح الغد.

كان اللقاء حميميا وصريحا وللمرة الأولى يطلب مني ما لم أكن اتوقعه من زعيم ثورة مجبول بالطيبة والنزاهة، عندما تحاشى ان يتطرق الى شكوى الامس، حين راح يعرج على اوضاع كردستان ومخاطرها على الثورة، وانه يؤمن بحقوق الشعب الكردي ولكنه لا يغفر لهم ما يقومون به عن طريق استخدام السلاح، وهو يريد السلام، وفجأة سألني عن رأيي بما يجري.

سكتت، ولم أجب او اعلق على طروحاته، فبادر الى الطلب مني استنكار تلك الاعمال، وقد اعتبرها خروجا على مبادئ وأهداف الثورة، وبعصبية يواصل شد وإرخاء يده المصابة باطلاقات رأس القرية في شارع الرشيد عن طريق الضغط على الكف بما تحويه من اسفنجة صلبة تساعده على تلك الحركة، ونظراته الحادة تحاصرني متوقعا مني الرضوخ للطلب، فاعتذرت بأدب مؤكدا له باني من المؤمنين بالقضية العادلة للشعب الكردي واني من مؤيدي شعار "السلم في كردستان" الذي رفعته القوى الديمقراطية والحزب الشيوعي العراقي، ومتوسلا إليه أن يوقف قصفه لمناطق كردستان حرصا على الثورة ووحدة مصير الشعبين العربي والكردي، وحين همّ بالوقوف مودعا قلت للزعيم الذي أحبه صادقا:

- الم نرفع شعار "على صخرة الاتحاد الكردي العربي تتحطم مؤامرات الاستعمار"؟

- أليست تلك الحركة مؤامرة؟

- لا يا سيادة الزعيم..

تركني واتجه الى الكرسي الذي يتصدر الصالة، واتجهت انا إلى باب الغرفة مؤديا له تحية عسكرية طالما كنت احيي بها اولئك الرجال الذين اقدرهم واحبهم من كل قلبي، والألم ما يزال يعصر قلبي.

وازداد هذا الألم وجعا..

اذ لم تمض ايام معدودة، حتى حدث ما لم اكن اتوقعه من هذا الزعيم الوطني الغيور والنزيه ، ولم احسب حساب ما ساواجهه من عواقب نتيجة ما حصل "للبلاد" بهذه الطريقة "التأديبية" ونحن نخوض اول تجربة "ديمقراطية" جاءت بها ثورة 14 تموز الرائدة.

فماذا حدث؟

ومتى؟

وأين؟

ومن شارك فيه؟

ولماذا؟

وكيف حدث؟

وما عليّ إلا أن أصيغ هذا الخبر وفق قاعدته التقليدية لأجيب على أسئلته لتبيان ما حدث:

 

 

 ***

شلة من الطارئين والأميين في ساحة إعلام ثورة وطنية ديمقراطية قامت لتقود شعبا مظلوما بكل طبقاته الاجتماعية المسحوقة نحو غد أفضل وسعيد، ووجوه من أشباه الرجال، أجساد أصحابها منخورة بالدناءة حتى العظم، احاطت برجل الثورة  الطيب، وراحت تكيل التهم جزافا وخسة، وتتهجم بغسيلها الواطي من اقبح الكلمات، على خيرة العناصر والشخصيات الوطنية المعروفة بمواقفها وتضحياتها واخلاقيتها المشهود لها في المحاكم والسجون الظلامية طيلة اعوام النضال الوطني التي كانت في 14 تموز الاغر، هي الحصيلة التاريخية لهذا الزمن الآتي بخيراته وعطاءاته، وكان يتقدم صفوف تلك الشلة المنبوذة، ثلاثي يعرف باولاد الشوارع، في ثلاث صحف فارغة المعنى وغائبة الهدف الا من سطور غسيلها المتسخ، وفي مقالات لا تنطبق الا على اصحابها، حين بدأوا بنشر ذلك الغسيل اللااخلاقي تحت عنوان "الف ذي عاهة وعاهة.."، وكنت أنا من اوائل الذين تطاول عليها اولئك الاقزام، وراحوا عن طريق عناوين صفحاتهم السود يحرضون الزعيم عبد الكريم على جريدة "البلاد" ويتحدون أصحابها ان هم نشروا حرفا واحدا ضد ثورة أيلول الكردية وزعيمها الملا مصطفى البرزاني.

الا ان نباحهم زادنا قوة وإصرارا على تحدي كل من أراد ان يشوه تاريخ امة بدأت للتو تنفض عن ربوعها غبار التخلف والاضطهاد.

كنت في الدقائق الأولى قبيل انبلاج فجر ذلك اليوم الجديد، في فراشي على سطح الدار، أحاول أن استعيد في ذاكرتي احداث الأمس، حين مسني فجأة رنين جرس الدار ، فانتفضت مذعورا  في تلك الساعة الغامضة من وقت الظلام الرمادي، وانا اتلمس بصعوبة خطوات  الوصول الى تكية السطح  متعثرا من شدة الخوف، قبل ان يفاجئني علي عزاوي، عامل التنضيد النجيب، بأن الجريدة يحيط بها رجال الأمن، مستصحبين معهم أخي سامي، رئيس التحرير، ولم ينس ان يدحرج في كلامه عبارة "مهزلة" التي لم اتبين مغزاها الا بعد ان وصلت مقر الجريدة في ساحة عقبة بن نافع، لاكون شاهدا على تلك الواقعة المضحكة ونحن نعيش في منتصف عام الثورة الثالث، فكانت بالحق مهزلة المهازل، عندما نشرت احدى تلك الصحف الصفراء "الشرق" المبتلي بالمهازل، مانشيت الصفحة الاولى وبخط كبير نص على: "كبس جريدة البلاد والعثور على اسلحة ومتفجرات"..

كانت الأسلحة "حمام السلام" محفورة على البلطات والخناجر، والمتفجرات هي "زرنيخ" نشارة الطابوق الأصفر، وكان دليل الجريمة حبات تكوّرت بعد لهيب عود كبريت واحد،وحيثيات الجريمة، "مؤامرة" على ثورة تموز!

وكان قادة "الانقلاب" اثنان فقط من ورثة مؤسس (البلاد).

و"بيان" الثورة الجديدة مقال افتتاحية عدد الجريدة الذي لم تظهر في الصباح.

وهكذا، بدأ العد التصاعدي لأيام الردة السوداء يطفو على السطح.

اعتقلوا اخي سامي في مديرية الأمن العامة، ولم يطلقوا سراحه إلا بعد أن تأكدوا بأن الجريدة خلت من بيان يشرح فيه مدير التحرير ما جرى للجريدة ولرئيس تحريرها، فعيون رجال "المباحث" لا تخطيْ، وعربات "الفولكس واكن" مرابطة أمام بناية الجريدة، وليبدأ سكرتير الزعيم، الضابط الرئيس سعيد الدوري، مساوماته  معي:

 لماذا لم تصدر (البلاد)؟-

- الساعة تشير إلى الخامسة يا أخي سعيد.

الزعيم يسأل عنها..

- ومتى سألتم في مثل هذه الساعة؟

خيّم سكوت حذر بيننا للحظات قبل ان اسأله:

- هل عرفت ما جرى للجريدة؟

- ماذا جرى؟

- اعتقلوا اخي سامي بحجة وجود "مؤامرة"!

- ما هذا الكلام يا ابا البلاد؟

- الجواب عند عبد المجيد جليل مدير أمنكم يا أخ سعيد.

- هذا كلام خطير.

- الا يعرف الزعيم بهذا "اللعب" الخطير مع ابناء الثورة؟

- امهلني بعض الوقت..

وطال هذا الوقت اسبوعا ليحال سامي الى المجلس العرفي الاول ويحكم عليه بالسجن سنة ونصف عن جريمة "ايواء مجرم" والمجرم هو نصير النهر، احد محرري البلاد الذي ينشر مقالاته في الجريدة كل يوم، فكانت بحق، مهزلة اخرى امتد اوارها الى اشهر لتؤدي الى الجريمة الكبرى باغتيال الثورة ورجالاتها في انقلاب 8 شباط الأسود.

لم احقد على الزعيم، بل ازداد حقدي على اولئك الذين يحيطون به ويتآمرون على الثورة في غرف وزارة الدفاع بباب المعظم وفي اوكار الذين "عفا الله عما سلف"، بينما تقارير "أمن" الثورة  وهو بيد عبد المجيد جليل، و"استخبارات" العهد الجديد وهي بيد محسن الرفيعي، تطارد وتسجن المخلصين من ابناء الثورة، الى ان اغتالها المتآمرون ووفق مخطط المخابرات الامريكية صبيحة 14 رمضان في شهر الصوم والغفران!

ان سيماءهم في وجوههم.

 ***

بين بغداد وسجن الرمادي، كنت ازور سامي بين فترة وأخرى متقاربة، تكون الاولى مع عائلته، والثانية مع الوالدة. في اثناء المقابلة، كنت اطيل النظر في وجهه المتعب وأحزن لأنه كان بريئا من اية تهمة توجه اليه في حياته، فكيف وهو نزيل سجن صحراوي في الانبار مع نخبة من الوطنيين يقضون مدة سجنهم ايضا لا لذنب سوى انهم كانوا يحضرون اجتماعا تحضيريا لمهرجان الشبيبة العالمي المزمع عقده في هلسنكي الفلندية، في قاعة فندق السفير بشارع ابو نؤاس. كان منهم المحامي طلال عمر موفق، والفنان المعروف احمد الخليل، والناشط خسرو توفيق شقيق الشهيد  دارا توفيق، رئيس تحرير جريدة (التآخي) بعد اتفاقية 11 اذار 1970 والذي غدر به ومات تحت التعذيب على يد جلاوزة نظام صدام حسين في اواخر عام 1980.

كان سامي يبادلني النظر وفي عينيه بريق أمل للافراج عنه، حيث كنت اطمأنه على قرب اطلاق سراحه نتيجة وساطاتي لدى المرافق الأمين للزعيم، الشهيد وصفي طاهر، وصديق قاسم القريب منه جدا، رشيد مطلق، مدير السياحة العام. وكنت اثناء عودتي كل مرة  من الزيارة، اعالج دمعي بعيدا عن نظرات زوجته او والدتي، لما سببته لسامي البريء، اذ كانت قسمات وجهه لا تغيب عني وهي تحفر علامات التبرم من ظروف السجن، كيف لا، وهو ربيب العز الذي عاشه في كنف الوالد في الاعظمية والكرادة خارج، وفي القاهرة حيث كنا نواصل سوية تحصلينا الجامعي في الجامعة الامريكية.

في ليلة عيد الميلاد 1962، زف لي الشهيد وصفي طاهر بشرى اطلاق سراح شقيقي واعفائه مما تبقى من مدة محكوميته بعد ان رزح في زنزانة السجن ما يقرب من ثمانية اشهر، وبعد ان يأس الزعيم طيب القلب، من امكانية  استجابتنا للتهديد، ومن محاولات الضغط لاجبارنا على مهاجمة ما اطلقوا على تسميته بالجيب العميل في شمال العراق! وبشخص قائد ثورة ايلول الملا مصطفى البارزاني، شريطة ان اكون في "عرين الأسد" في اليوم التالي من عودة سامي الى احضان عائلته. قررت ان لا استجيب  لطلب الزعيم، الا ان المحررين في (البلاد) ارتأوا ان اذهب لانقاذ ما يمكن انقاذه من مغبة المقاطعة حرصا على الثورة خصوصا بعد ان لاحت في الأفق بوادر تآمر جديد على مكاسب شعب الثورة، فما كان مني الا ان ارضخ  لطلبهم، فجاء تنفيذ الموعد ظهيرة ذلك اليوم، الذي وقفت فيه على جوانب اخرى من اخلاق وطيبة هذا الانسان الذي اعطى للوطن ما استطاع ان يعطيه من مكاسب متممة لتلك المكاسب التي تحققت للعراق الجديد، ولكن بعقلية العسكري الوطني المخلص لمبدأ الوفاء لعهوده التي انصبت على خدمة الوطن ومساعدة الفقراء.

 

 

انه صديق وحبيب فقراء العراق

تركت افراد العائلة يرفلون بثياب العيد، واطفالها يلهون بفلوس العيدية وهم يستذوقون لذة حلوياته، وتوجهت الى وزارة الدفاع حيث ساكون مع الزعيم الذي احببته منذ ان رأيته في اليوم الثاني للثورة يهبط سلالم الوزارة وفي يده غدارة (سترن)، ليلقي نظرة التيقن من "جثمان" نوري السعيد الملقى على قمارة سيارة الاجرة، وهو يبث لنا نحن معشر الصحفيين بشارة: أن الثورة قد نجحت هذا اليوم.

باتت تلك الاطلالة الجميلة ملتصقة في ذهني في كل مناسبة جمعتني بكرومي، وانا ادخل "عرينه" هذه المرة حزينا عليه، وقلقا على مصيرنا نحن المخلصين لثورة تموز ومنجزاتها الوطنية، والايام الحبلى بالمجهول القادم تتسارع، فيرتجف ذراعي اليمين وانا أحاول الإمساك بيده السليمة، وانتابني شعور مفاجيء بأني أصافحه للمرة الاخيرة..

وحقا، كانت مصافحة اللقاء الاخير، الذي ختمه انقلابيو شباط الأسود بالمجزرة التي وقعت بعد اللقاء بشهر وعشرة ايام بالتمام.

قال لي الزعيم:

- انا اعتذر لما أصابكم من حيف بسبب "تمرد" الملا في الشمال!

نظر بعينيه اللامعتين طويلا في وجهي، ولربما توقع مني ان اشكره، الا اني سكت ايضا، ورحت اجول النظر بعيدا عنه في زوايا الغرفة التي سكنها "القائد" مقرا ومنزلا له، يدير اعماله منها، ويلتقي فيها بالمسؤولين والصحفيين والزوار الاجانب، ويتناول على مائدتها طعامه البسيط، ويفترشها ارضا عندما يخلد الى النوم القليل جدا في ساعات متأخرة من الليل، وفجأة بادرني بالقول:

- انا مقدم على اتخاذ خطوات هامة في سياسة الدولة واحتاج الى الدعم الاعلامي.

- وما المطلوب منا يا سيادة الزعيم؟

- اجراء لقاءات صحفية مع "البلاد" و"صوت الاحرار" ومجلة "14 تموز"..

- وماذا بشأن جريدة "الثورة" ليونس الطائي؟

- ليس في هذا المجال!

كان الموعد الاول مع صديق قاسم التاريخي، لطفي بكر صدقي صاحب جريدة "صوت الاحرار".

ذهب اليه في الموعد المقرر، الا انه عاد مبكرا واتصل بيّ في الجريدة مستغربا من كلام الزعيم له، وعندما استفسرت منه عن السبب، اجابني بأن قاسم كان غاضبا وهو يتحدث بالهاتف مع "مجهول" ويتوعده بابادة كل من يشترك في المؤامرة عليه.

وتصاعدت وتيرة التآمر على ثورة تموز، وكشفت التقارير السرية التي استلمها عبد الكريم قاسم من الحزب الشيوعي واستخبارات الجيش عن اسماء ضباط ومخطط الانقلاب "الامريكي" المرتقب، فطاب له وحان وقت تنفيذ طلبه باجراء المقابلات الصحفية، وكنت اول المدعوين لمقابلته.

ذهبت الى الجريدة مبكرا لمراجعة مقال لي بعنوان "رسالة عتاب الى عبد الناصر"، حين ترامت الى اذني اصوات اطلاقات نارية قريبة من ساحة الفتح، خلتها ان مصدرها معسكر الرشيد، فعدت الى الدار الكائنة في عرصات الهندية والساعة تشير الى التاسعة، فوجدت حركة غير اعتيادية في مدخل شارع العرصات، ووجود عناصر بزي مدني وهم يحملون على سواعدهم شريطا اخضر اللون، ولم اعر ذلك اي انتباه حتى وصلت الى الدار لأجد اخي سامي واقفا امام باب الحديقة وهو يشير اليّ بالدخول وبسرعة، والاستماع الى راديو بغداد وهو يبث نشيد الله اكبر والبيان الاول لما اسموه بيان رقم واحد الصادر عن مجلس "قيادة الثورة" ووصولا الى البيان رقم 13 سيء الصيت الداعي الى ابادة الشيوعيين. التفت الى سامي وقلت له: انها المؤامرة.

اضطررت الى الاختفاء في دار احد اقاربي، وشاهدت تلفزيون بغداد وهو يعرض صور عبد الكريم قاسم مضرجا بدمائه وقد امسك برأسه احد مراتب الجيش وهو يبصق عليه، والاصوات تنطلق من حنجرة (هناء) عن مصير "عدو الله" و"قاسم العراق" ومعه سقط شهيدا كل من طه الشيخ احمد وكنعان حداد، وخارج دار الاذاعة، سقط الشهداء الآخرون فاضل عباس المهداوي وعبد الكريم جدة والمرافق الأمين للزعيم قاسم، وصفي طاهر، ومن بعدهم، سقط ماجد محمد امين. 

لقد سجل تاريخ العراق اسوأ مرحلة في مسيرة شعبه منذ صبيحة 8 شباط الحزين حتى يومنا هذا.

مات قائد ثورة 14 تموز الرائدة، ومات معه قادة الثورة في مجزرة دار الاذاعة في منطقة الصالحية.

سقط غدرا المئات شهداء للوطن من الضباط الاحرار ومن الشيوعيين والديمقراطيين، وشهدت مسالخ بغداد وقصر النهاية ابشع جرائم التعذيب والقتل، وتلبدت سماء العراق بغيوم سوداء حزنا على ضحايا المجزرة، فخسر الشعب وفقراؤه كل مكاسب ثورة تموز،

لقد عاش عبد الكريم قاسم بطلا وطنيا ومات شهيدا في سبيل المثل العليا والمبادئ السامية كواحد من أنظف وأنبل زعماء العراق والعالم العربي رغم اخطائه وطيبته وسياسة "عفا الله عما سبق"، وجزاء حبه الصادق للشعب والفقراء وكل الطيبين المجبولين بحب العراق.

لقد تأثر عبد الكريم قاسم بكل ما مر به الوطن والشعب، وترك اثرا سيبقى في نفوس اجيال العراق  لسنوات قادمة وهي  تحاول بناء الوطن الذي اغتاله الانقلابيون القادمون من خارج حدوده، والناكرون لجميله.

عن كتاب شخصيات في ذاكرتي 

 

 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top