بالفيديو.. ملك العراق الصغير فيصل الثاني أصغر ملك في العالم

علي أبو الطحين

في الرابع من شهر نيسان سنة ١٩٣٩أصبح الطفل الصغير فيصل الثاني ملكاً على العراق، بعدأن تعرض والده الملك غازي لإصابة بالغة في الرأس أدت الى وفاته، إثر حادث اصطدام لسيارة كان يقودها. كان فيصل لم يبلغ – بعد- الرابعة من عمره، فأصبح –حينها- أصغر ملكاً في العالم.  

ولد فيصل في ٢ من شهر مايس(أيار) سنة١٩٣٥، وكانت ولادته - وهو الطفل البكر- عسيرة. فعين له -منذ ولادته- ممرضة إنكليزية تدعى الآنسة دورا بورلاند لتعتني بتربيته ونشأته وقد لازمته لفترة طويلة.

وعندما بلغ الخامسة من عمره استقدمت المربية والمعلمة إليزابيث سولمان لتعليم فيصل مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وبعد مغادرتها العراق سنة ١٩٤٣، جاءت مربية بريطانية أخرى، تدعى روز أليندا راميريس، وأستمرت معه بضعة سنوات أخرى، حتى أنتقاله للدراسة في بريطانيا سنة ١٩٤9. وخلال تلك الفترة، كان هناك مجموعة من الأساتذة العراقيين والبريطانيين، من يساعدون في تعليم فيصل، وإعداده لمهمامّه الدستورية المقبلة؛ ليتربّع على عرش العراق عند بلوغه الثامنة عشر من عمره في ٢ من مايس(أيار)سنة ١٩٥٣.

هذا الكتاب هو مجموعة من ما نُشر من ذكريات وبعض مقالات في طفولة الملك فيصل الثاني، ومجموعة من الصور الفوتوغرافية عن تلك المرحلة الأولى من حياته. 

القسم الأول من الكتاب هو مذكرات المُربية الأولى إليزابيث سولمان والتي أصبح اسمها أليزابيث موريسون بعد زواجها في بغداد من جون موريسون في سنة ١٩٤٢. في العادة؛ يكّنى اسم إليزابيث في بريطانيا باسم بَـتي Betty وكانت إليزابيث موريسون  تنادى بهذا الاسم، فأصبح أسمها المتعارف بَتي موريسون. 

أما القسم الثاني من الكتاب؛ فهو صفحات من ذكريات مايكل آرنولد، الذي صاحب فيصل في طفولته في بغداد لبعض الوقت. والاسم الحقيقي لمايكل آرنولد هو أندري كرونمان، وكان طفلاً في الثامنة من عمره حين جاء من بولندا الى العراق سنة ١٩٤0، بصحبة والدته هرباً من الإحتلال الألماني. 

والقسم الثالث هو ملاحق تضم مجموعة من مقالات نُشرت عن فيصل الثاني في طفولته، إضافة الى صفحات مصوّرة من مجلات وجرائد من تلك الفترة، وصور فوتوغرافية منها- ربما- لم ينُشر من قبل. 

نَشرت بَتي موريسون ذكرياتها في كتاب صغير، صدر سنة ١٩٩٥، ويقع في تسعين صفحة، يضم ذكرياتها في مهنة التعليم في الهند قبل وصولها الى العراق كمُربية للملك فيصل الثاني بين السنوات ١٩٤0-١٩٤٣، وكذلك مذكرات لجَدتها الكبرى عن رحلة إلى الهند. 

تتضمّن ذكريات بَتي موريسون في العراق عملها في قصر الزهور كمُربية للملك فيصل، وما واجهته من مشاكل مع المُمرّضة البريطانية بورلاند والطبيب سندرسون باشا؛ في إهمال تربية فيصل تربية بدنية صحّيّة وصحيحة وعزله في داخل القصر، وعدم أختلاطه بالأطفال من عمره، وإحاطته بالقطن كما تقول. إضافة الى الأجواء السياسية المعقّدة في ظروف الحرب العالمية الثانية، وبالأخص الأيام العصيبة للعائلة المالكة خلال ثورة مايس سنة ١٩٤١. 

أما مايكل آرنولد فيصف في ذكرياته التي طُبعت في سنة ٢00٣ زيارته الأولى لقصر الزهور واللعب والتسلية مع فيصل ومرافقيه من الحرس، وكذلك مشاركة فيصل برحلة لمدة أسبوعين إلى مدينة راوندوز في كردستان العراق. إضافة الى الزيارات واللقاءات مع الملكة عالية والأمير الوصيّ وخالات الملك؛ الأميرات الثلاث. 

لابد من الإشارة إلى أن كلاً من بَتي موريسون ومايكل آرنولد قد وضعا تلك المذكرات بعد مضي أكثر من خمسين عاماً على تلك الوقائع والأحداث، وهي - كما يبدو- وُضعت من الذاكرة، أو من رؤوس أقلام مُبتسرة، كما يتضح من بعض الأخطاء الثانوية التي وردت في ذكرياتهم، وكذلك وجود فجوات تاريخية طويلة بين الأحداث وغياب بعض التفاصيل، وإن كانت هناك بعض الوقائع وُضعت بتفاصيل وحوارات دقيقة للغاية. 

ومن ناحية أخرى يجب أن لا نغفل أن كلاً من موريسون وآرنولد ينطلقان من ثقافة ورؤية للأحداث قد لا تتطابق بل قد تتناقض مع فهمنا وتفسيرنا لتلك الأحداث والوقائع، فمن الطبيعي أن تكون المُربية البريطانية مرتابة –مثلاً- من ثورة مايس سنة ١9٤١، وان تستغرب من كره العراقيين الى عبد الإله، الخ.

تم -قدر الإمكان- المحافظة على النص كما ورد في الذكريات، وتصحيح بعض الأخطاء التي لابد منها. فعلى سبيل المثال، سمّى مايكل آرنولد قصرَ الرحاب بالقصر الأبيض في ذكرياته، فكان لابد من تصحيح ذلك، وفي مكان آخر وضع تسلسل العمر للأميرات الثلاث، أخوات الملكة عالية ، بديعة وعابدية وجليلة، والحقيقة أن عابدية هي الكبرى، وكانت أكبر من عالية، ثم تليها بديعة والصغرى جليلة. وقد تُرك هذا الخطأ كما هو؛ لأن المؤلف بنى فكرته عن الأميرات على هذا النحو، لكي تُحفظ فكرة المؤلف، كما في النص، وتم الإشارة للخطأ في الهامش.

 

١٢

نهاية الأزمة

طلب مني السيد نابينشو في البقاء ليلة أخرى في مقرّ البعثة بعد انتهاء الحصار، قبل العودة إلى القصر. في تلك الليلة وقبل السيطرة التامة للجيش البريطاني، حدثت اعتداءات على اليهود في بغداد، بتحريض من ضباط الجيش الهاربين، على أمل أن يتطوّر الأمر إلى ثورة مضادة. 

أنتهت الأزمة ولكن التداعيات كانت عديدة، لو كنتُ أعلم مصير اليهود المأساوي الذين تعرّضوا للقتل، لطغت تلك على كل شئ في نهاية الانقلاب، ولكن ذلك مدعاة للحزن والعزاء بدلاً من الفرح. لقد أُصبتُ بالذهول إلى حجم الخسائر في الممتلكات اليهودية والبريطانية. 

كان بعدها الوفاة المفاجأة للصديق بول نابينشو، الذي ضيّفنا في البعثة الأمريكية، مدعاة لحزن العميق، لقد كان يعاني من متاعب في أحد أظافر قدميه، وتمّ قلعه بعد أنتهاء الحصار. لكن؛ تطور الأمر بعد العملية إلى الكزاز الذي سبب في وفاته. كان ذلك صعب عليّ تصديقه. كذلك توفي أحد الشبّان الأمريكان، بيل فارييل، بعد فترة قصيرة. قيل أنه سقط من السلالم في منزله مما تسبّب في كسر رقبته، وهو لم يكن في بغداد خلال فترة الانقلاب، لقد كان يتكلم العربية بطلاقة، كأنه عربي. كان ذلك التزامن في حالتي الوفاة، والأسباب التي ذكرتُها، مدعاة إلى التأمل عن السبب الحقيقي لما حدث.

وكانت هناك تداعيات سعيدة: ذكريات ممتعة في مقرّ البعثة، وصداقات شيقة مع الزملاء الأمريكان. أما أنا؛ فأصبحت فتاة رشيقة، فكان وزني أقل من ثمانية ستون (حوالي خمسين كيلو) عندما أطلق سراحنا.   

من أعلى السطح في قصر الزهور، كانت الأميرات يُلوّحن بالشكر إلى فرقة الجنود البريطانيين الذين قدموا إلى العراق مروراً بالبصرة، والذين رابطوا في بغداد وحولها. 

وكانت هناك - أيضاً - تداعيات سخيفة: فقدت أُتهمتُ بأني - وبالمشاركة مع المُمرّضة - قمتُ بتسميم الغذاء لفيصل. وكانت إذاعات ألمانيا وإيطاليا تطلق عليّ لقب "اليهودية في القصر" و "أن الشعب العراقي يعرف ماذا سيفعل لهذا"، لم أشكُ من ذلك، إضافة إلى أني - في الحقيقة - لست يهودية. وكان هناك جانب إيجابي، فألتقيتُ بمراسل صحيفة التايمس، السيد لومبلي، الذي وعدني بأن يرسل لي صورتي وأنا أخوط جدر المرق؛ لأعداد الطعام في مقرّ البعثة.  

١٣

العودة الى القصر

في النهاية، عندما غادرتُ مقرّ البعثة، كان فيصل قد عاد إلى القصر وألتحقتُ به، كنتُ سعيدة جداً برؤيته، كما كان هو سعيداً بعودته إلى الدروس من حيث توقّفنا قبل عدة أسابيع. 

لم يطل الأمر كثيراً بعودة أغلب العائلات البريطانية، وكان هناك جدل بين النسوة اللواتي أعرفهنّ في نادي العلوية، فيما إذا كان الأفضل لي العودة إلى القصر عندما غادرتُ مركز الشرطة يوم اندلعت المشاكل.إلا أنهم أيقنوا لكان قد تمّ إجلائي مع الجميع، ولم تكن هناك فرصة للذهاب إلى هناك على أية حال. والبعض الآخر أشار بأنه كان علي البقاء مع العائلة المالكة خلال فترة الانقلاب، ولم يضعوا في حسابهم بأني سوف لن أكون ذا فائدة لهم، وربما أكون عائلاً عليهم، وبالتأكيد؛ لم يكن ليعرفوا كم كان صعباً لي اتخاذ القرار وأنا في مركز الشرطة في ذلك اليوم. وكان هناك مَن شاطرني الرؤيا ووقف بجانبي، ودعم موقفي. 

وبعد نهاية كل شئ، أصبحت الأمور أكثر وضوحاً لي حول الناس الذين أعرفهم في بغداد، ومنحتني تلك الأسابيع الأربعة ثقة عالية بالنفس. فبعد فترة الاحتجاز تلك أزددتُ قوة وشجاعة بطرح قناعاتي في الأخطاء التي وقعت في تربية وتنشئة فيصل، وأصبحتُ أرى الأمور بوضوح أكبر.

١٤

فيصل في السرير

كنتُ أجد دوماً في فيصل قابلية جديدة، تدعو إلى التفائل بالمستقبل، وبعد أن أصبح أكثر قوة، كنتُ آمل بإمكانه الخروج من محيط القصر بعض الشئ.

في الأحتفال بعيد ميلاده السادس، سُئل فيصل من قبِل القسم العربي في محطة أذاعة البي بي سي، عن أيّ قصة للأطفال يختار في هذه المناسبة. أجاب وعلى الفور، الفصل الخامس من قصة "نصيحة الى يرقة الفراشة" (من قَصص أليس في أرض العجائب)، أظنّ قليل من الأطفال كان ليختار هذه الإجابة الرائعة. فيرقة الفراشة المتغطرسة والتي لا يعجبها أي شئ اصبحت دودة، يا للعجب!! لنزلاء القصر كان هذا الأختيار غريباً عن قصة حول دودة، وللملكة والأميرات أن الأمر غرابة في غرابة، تلك طريقة الحياة البريطانية.  

من هذا كان واضحاً أن فيصل - ولحسن الحظ - يحب أن يُقرأ له، وحيث الساعات الطويلة التي يجب قضاؤها في الداخل، بسبب الحرّ، ساعدت القراءة في تنويع رغباته بعدة أشياء، ممّا جعل تعليمه أكثر سهولة. كان يُسره كتابة الرسائل القصيرة إلى والدتي في إنكلترا، وكان ذلك تدريباً جيداً له، فهو يعلم أن هناك من يهتم بقراءة رسائله، في الحقيقة؛ كان هذا أكثر من تمرين. فكان يشعر بالإثارة والمتعة بالكتابة إلى بلاد غريبة وهناك مَن يفهم ما يكتبه. 

وقد كتب فيصل في أحد رسائله إلى والدتي بأنه لا يحبّ درس الحساب، فقد وجد ذلك صعباً في البداية، فهو شئ جديد له، لكن؛ بمساعدة كتاب "الجمع للصغار" بدأ يدرك ويفهم ما يُطلب منه. وهكذا ذكرتُ في تقريري الى الوصيّ أنه ليس – فقط - أصبح جيداً في الدرس، بل أعتقد أنه أصبح يحبّ دروس الحساب. 

كان درس التاريخ هو المفضّل لديه، ويليه درس الجَغرافية، ولطفل في عمره كان له اهتمام غير عادي في الخرائط. ففي دروس التاريخ والجغرافية، أبدى أمتلاكه لذاكرة جيدة جداً في تلك المواضيع. وكنتُ قد تفاجأتُ عند وصولي في أنه يتحدث الإنكليزية بطلاقة، وبالرغم من الخجل في الإجابة أمام الناس، لكنه - بعد مدة - تغلّب على ذلك، وأصبح لا يهاب ذلك على الإطلاق. 

في تشرين الثاني كان البرفسور هاملي المفتش في المدارس البريطانية في زيارة إلى بغداد، لصالح المركز الثقافي البريطاني، فأغتنمتُ الفرصة ورتّبتُ له زيارة لرؤية فيصل. فكتب تقريراً جيداً، ذكر فيه حُسن تعليم فيصل وأن طريقتي في تعليمه مناسبة له. أعطيتُ التقرير الى الوصيّ وبعثتُ بنسخة منه الى السفارة، على أمل أن تراه السيدة كورنواليس التي أبدت شكوكاً في طريقتي بتعليم فيصل. أظن أن البرفسور هاملي كان معجباً بما أقوم به. 

تحسّنت اللياقة البدنية لفيصل باطراد، ولم يعد يشعر بالتعب، وأصبح يركّز ويهتم في واجباته في فترات أطول. كنتُ أعتقد بأنه يعاني من بعض أنواع الحساسية، فهناك أعراض تشبه الحمى الربيعية، أو الربو، فطلبت عرضه لاستشارة طبية وتحديد تلك الأعراض. فغالباً ما كان يتعرّض الى سيل من البرد والعطاس ما يقارب الساعة أو أكثر. 

في إحدى الرسائل الى والدتي، أشار فيصل إلى خاله عبد الإله الذي أعطاه سيارة حمراء. وكان عّه الأكبر، الأمير عبد الله، الذي كان يراقب تصرّف الأميرات، له أهتمام - أيضاً - بفيصل. فكان يأتي من شرق-الأردن (كما كان يسمّى) مرتديداً ثوبه العربي، وكنتُ أكن لهذا الرجل الوقور كلّ الأحترام، لما له من فراسة وحدة ذكاء. كان فيصل يحبه، وفي أحد الأيام، قرر أن يذهب معه إلى عمّان، جائني ليخبرني بأنه سيغيب عن الدراسة لمدة أسبوع، وأسرع ليجهز حقيبة السفر، قال "أحتاج الى حقيبة واحدة"، وقلت له "مع السلامة". لكنه عاد في صباح اليوم التالي قائلاً أن "ماما" (الآنسة بورلاند) لم تسمح لي بالذهاب.  

خلال وجودي قام الأمير عبد الله ببعض الزيارات، وفي إحدى هذه زيارات، قال: "أحضروا كرسي إلى المُربّية"، بعدها جاء السؤال: "لماذا هذا الطفل في السرير كلما جئت للزيارة؟". كم تمنيتُ لو كنتُ أجبتُ حينها بالحقيقة، كان عليّ القول، ليس هناك من سبب ليكون فيصل في السرير، إنه جزء من طبيعة التحضيرات للمُمرّضة والطبيب المختص بوضع فيصل في السرير. في تلك الأثناء، كنتُ أشعر بأنه لا يجوز أن أتكلّم من وراء ظهر المُمرّضة والطبيب، وعليّ أن أتحفّظ في خطواتي. وكنتُ فعلاً أودّ معرفة فيما إذا كان الأمير يظن أن فيصلاً مريض، أو أنه ذكي بما يكفي ليستنتج الحقيقة. 

كنا نعرف أن الأمير قادم في زيارة؛ حيث يتم تعليق صوره على الجدران، ومن ثم؛ وَضع فيصل في السرير. أما الأخ الآخر للملك فيصل الأول؛ فكان أخاه الشقيق، الأمير زيد، وكنتُ قد ألتقيتُه به في رحلة الى بحيرة الحبانية. 

كانت الحرب – دوماً - في الأذهان، وأظهرت الملكة ولاءً تاماً لبريطانيا، وكتعبير رمزي عن تعاطفها، قررت الإقلاع عن وضع السكر في الشاي. كتبت رسالة إلى الوطن، "ها هنا أنا أجلس على سطح القصر، وأمرح بين أشجار النخيل والرمان". و "حفلة شاي راقصة في نادي العلوية – وليس هناك ما أعمل للمجهود الحربي". وقد وجدت ملاحظات كتبتها عن ما جرى في يوم عادي:

السابعة والنصف صباحاً : ركوب الخيل مع فيصل. تمارين في لعبة البولو مع حصاني الجديد، الذي يتراجع إلى الخلف مع أنطلاق مفاجئ. آمل أن أجد حصان أفضل إلى فيصل. بعد رجوعنا من ساحة لعبة البولو، قام الحرس بألعاب بهلوانية. تحيات فيصل بطرق غريبة وغير تقليدية، بينما أنا مشغولة بتصرّفات حصاني. فيصل يأكل السكر الخاص بحصانه. الفطور. دروس حتى الساعة الواحدة إلا ربع. بعدها وجبة الغذاء الطويلة والمملّة. يحاولون إقناع فيصل بأكل بعض أنواع الطعام. فيصل يذهب الى الراحة، ليس في الحقيقة راحة، بل الذهاب الى السرير. بعدها خرجنا من القصر. 

في أحد الأيام أخذتُ فيصل إلى المتحف الوطني؛ حيث كان في أستقبالنا المدير، السيد سيتون لويد. لقد أُعجبتُ – حقاً - بالطريقة التي توارى بها سيتون لويد بعد الترحيب، وتراجع الى الوراء؛ ليترك الأمر الى مساعده العراقي في أخذ زمام الأمور، والأهتمام بفيصل. كنتُ أُراقب فيصلاً، حيث تجمّع العديد من الموظفين والمصوّرين (في تلك الأثناء، كان يسأل عن أسماء الأشخاص الذي يتقدّمون إليه، ثم يتأكد من صحة تلك الأسماء مرة أخرى). بعدها رأيت الطفل ينظر الى قطعة أثرية من ٣٠٠٠-٤٠٠٠ عاماً قبل الميلاد، وهو  يحاول معرفة ما يُعرض له. وأبدى أعجاباً بحلية الرأس الذهبية التي وُجدت في آور. كان موظّفو المتحف مسرورين بتلك الزيارة، وتعلوهم الابتسامة لما وجدوا من اهتمام حقيقي لفيصل بما رأى.

 

١٥

العراقيون يكرهون عبد الإله

في أواخر سنة ١۹٤١ قرّرت الملكة عالية قطع أشجار اليوكالبيتوز في الحدائق المواجهة للقصر. لقد كانت هيئة وألوان هذه الأشجار هي أفضل ما هو موجود في حدائق القصر، ففي عصريات أيام الحرّ الجاف والخانق كان لهذه الاشجار الجميلة بعض من النيسم والعبير حين تتلاعب في أعلى اغصانها الريح، فتمنحنا ساعة أو ساعتين من البرودة قبل حلول الليل. لكن؛ بعد حادثة الانقلاب، أصبحت الملكة في قلق على حياة فيصل، وهذه الأشجار تمنح المعتدين غطاء للأعتداء عليه، فهكذا جاء عدد من العمّال لقطع جميع هذه الأشجار. 

في تشرين الأول من هذا العام ألتقيتّ بجون موريسون، الذي وصل تواً إلى بغداد، والذي أصبح زوجي فيما بعد. كان جون قد تطوّع لقوات البحرية، بينما كان يدرس في جامعة كامبريدج، لكن؛ لحسن حظي فشل في اختبار الألوان في الفحوصات العسكرية الأولية، فهكذا نُسب للعمل في المراكز الثقافية في الشرق الأوسط. واختير لتدريس اللغة الإنكليزية لطلاب الكلية العسكرية العراقية وكذلك ضباط كلية الأركان للجيش العراقي. هذا منحه فرصة لمعرفة آراء الطلاب وأفكارهم لما حدث في الماضي، ولما سيحدث في المستقبل. 

لقد تألمت جداً حين أخبرني جون أن العائلة الملكية الهاشمية أصبحت غير محبوبة، وخصوصاً الوصيّ لما حدث بعد الأعدام العلني للضحايا بعد فشل الانقلاب. كنتُ أعرف أن الوصيّ غير محبوب، لكني كنتُ أجد صعوبة في معرفة السبب. كان كثير الحياء، رجلاً لطيفاً، فُرضت عليه مسؤولية الوصاية، ربما كان السبب هو رغبته بالتعاون مع الإنكليز بينما كان الملك غازي مناهضاً للإنكليز ومتعاطفاً مع الألمان. وبمجرد منحه الوصاية، تشكّلت أحزاب معارضة، وأصبح لها نفوذ ودعم بعد نجاحات القوات الألمانية. فأي شخص في مكانه، وحتى السياسي المتمرس، كان سيجد نفسه أمام مهمات صعبة جداً، ولأصبح مركزه غير مرغوب. 

سألني جون ألا أرى بأن الملك قلّما يظهر في الأماكن العامة، وإذا ظهر يكون محاطاً بالإنكليز، وبصحبة المُمرّضة البريطانية والمُربية. كنتُ سعيدة بأن أسمع أحد ما يقول علناً ما كنتُ أفكر فيه على الدوام. بعد تلك المحاثة قام جون بإشراك فيصل في ركلة البداية لإحدى مباريات كرة القدم، ومن ثم؛ وجدتُ حصاناً مناسباً لفيصل؛ ليشترك في أحد مهرجانات الخيول، فبدأ العراقيين يدركون أنه ليس شخصاً ضعيفاً. 

إذا كانت أحد المعضلات قد تلاشت أو اضمحلّت، وأصبح فيصل معروفاً أكثر للناس، إلا أن المعضلة الرئيسية كانت - وما زالت قائمة - تلك هي العادة القديمة بأعتماد العائلة المالكة على المُمرّضة والطبيب، وما لذلك من آثار سلبية. لم تملك الملكة الثقة بنفسها، ولم تكن ترى المدى الشامل لمسؤوليات فيصل، ولا واجباته للمستقبل كملك، معتمدة - كما أظن - بأنه سيكون تحت حماية الإنكليز، وسيكون ملكاً ربما بالأسم فقط. 

أحد الأشياء الأولى التي أستطعتُ القيام بها هي تكوين بعض الصداقات بين فيصل والوصيُ مع بعض الضباط الإنكليز، كان هذا جيداً لفيصل؛ لتُبعده عن الحضانة. ثم صدرت تعليمات على جميع صنوف ومراتب القوات البريطانية بتحية الملك بالتحية الرسمية، هذا ما منح فيصلاً شأناً بين العراقيين، كان ذلك يجري - في العادة - من قِبل البعض، لكن؛ الآن أصبحت الأوامر صارمة. وكان هنالك – أيضاً - دعوة الى فيصل والوصيّ لزيارة البعثة الأمريكية والسباحة في حوض السباحة هناك. 

وكان هناك أشياء أخرى، ربما غير مباشرة في مصلحة فيصل، لكنها كانت تجعل الحياة أكثرُ يسراً ولُطفاً في القصر وقطع دابر الانعزال عن الجالية البريطانية. فعلى سبيل المثال، بدأت بعض سيدات السفارة بزيارة الملكة والأميرات. في ذلك الوقت قامت الكاتبة فريا ستارك بزيارة الملكة، مصطحبة معها مساعدتها المرحة السيدة هوير روثفين. وأصبح هناك دروس أكثر في اللغة الإنكليزية إلى الأميرات، قامت بها السيدة مولي روش ومن بعدها السيدة وولكر، زوجة الملحق التجاري. وكانت وصيفتهم الأنسة لوسي-سميث قد أصبحت سكرتيرة في القاعدة الجوية الملكية في الحبانية. فأصبح هناك الكثير من الحراك، لكني كنتُ على يقين أن هذا لن يُعجب حكّام الحضانة.

١٦

المشاكل مع الممرضة

عند رجوعي من مقرّ البعثة الأمريكية، أخبرت الوصيّ بشكل علني، وبوجود سندرسون، برغبتي في الاستقالة من منصبي كمُربية، فلا أريد أن أشارك في هذه الطريقة في تنشئة فيصل. طلب الوصيّ بلطف مني الاستمرار في العمل، مؤكّداً لي بأن الأمور ستتحسّن. وكان هناك بالفعل بعض التحسّن، لكن؛ ليس في كل شئ. فعلى سبيل المثال، منذ مدة طويلة وأنا أشعر أن فيصلاً لا ينال الوقت الكافي من النوم، فقد علمتُ أنه يبقى متأخّراً عن النوم لعدة ساعات بعد العشاء يستمع إلى الراديو، وأظن ذلك من آجل أن ينام طوال الليل، فهو ما زال يُعامَل كأنه رضيع. كان مؤلماً أن أرى أن الدكتور سندرسون يحاول التقليل من انتقاداتي وما أطرحه من أجل تحسين الأمر، إلى أنه خلاف شخصي بيني وبين الآنسة بورلاند. 

أخبرتُ الوصيّ بخبر خطوبتي الى جون، فقال إنه يأمل أن يكون جون معلماً إلى فيصل، وطلب مني أن أرتّب ليحضر جون الى القصر على قدر استطاعته لتعليم فيصل. وأصدر الأوامر الى حرّاس البوابة بالسماح لسيارة جون بالدخول، وهذا – بالطبع - كان أمتيازاً كبيراً. لكن؛ في اليوم الأول للموعد الذي ضربتُه لقدوم جون والخروج سوية في ركوب الخيل، تحرّكت المُمرّضة ة- وبسرعة - نحو الملكة والأميرة الكبرى؛ لُتقنعهم بأن عين جون تُصيب، وأن فيصل - فعلاً - أُصيب بالعين، فأنطلقت به نحو السرير، فكان عليّ أن أخبر جون بالذهاب. 

وتم إحضار منقلة للفحم، وإحراق بعض خصل من الشعر من رؤوس الحاضرين، مع تمتمة لبعض التعويذات. كان من الصعب عليّ تصديق هذه القصة الغريبة، لم أكن أصدّق أنا هذا يحصل أمامي. لقد شعرتُ بنهاية نطاقي، وبحاجتي الماسة إلى إجازة.

 

١7

الزواج

وأخيراً حصلتُ على إجازة ؛ خمسة أيام شهر عسل في كردستان. أنهيتُ التدريس في الساعة الثانية عشر ونصف بدلاً من الواحدة إلا ربع في ذلك اليوم لهذه المناسبة، ثم ذهبنا إلى كنيسة سانت جورج؛ حيث تم زواجنا أنا وجون من قِبل القس جارلس روش. تمّ تزيين الكنيسة بالورود من قِبل السيدة فاغنر (السويسرية المسؤولة عن إدارة القصر)، وقدّم لي باقة من الورود عند وصولي، وكان قد أستطحبني وقدّمني القاضي ريتشارد. أما حفل الاستقبال؛ فكان في حديقة بيت السيد كرافتين وشقيقته؛ حيث تناثرت الأزهار والورود، مع تفتّح أزهار الربيع في نيسان بغداد، وكما ذكرت جريدة "الأوقات البغدادية" "كانت مظاهرة من الألوان" ووصفتها "حفلة عرس من الورود"، وحتى كيكة العرس "صُنعت من قِبل طبّاخ جلالة الملك فيصل" قد زينت بالأزهار وبالورود، ووُضعت بين أواني من الزهور. كان بين الضيوف معالي الأمير زيد بن الشريف حسين، وكذلك مجموعة من ضباط كلية الأركان في الجيش 

العراقي. 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top