توني موريسون .. الكتابة التي تفجر الغضب

توني موريسون .. الكتابة التي تفجر الغضب

علي حسين

قررت ألا تكتب رواية ، بعد أن قرأت أعمال وليام فوكنر ، فقد وجدت أن من الصعوبة عليها، أن تضع نفسها في قائمة الكتاب جنباً الى جنب صاحب الصخب والعنف ،

قالت إن أحد لم يتجاوز فوكنر بقدرته الهائلة على تجسيد روح الملحمة والمأساة النابعة من حياة الإحباط والضياع التي عانت منها العائلة والمجتمع في الجنوب الاميركي .

عندما مُنحت جائزة نوبل للآداب قالت الأكاديمية السويدية إن توني موريسون تعيد للرواية الاميركية أسلوبها السردي الفريد ، الذي ينبع من كتابات فولكنر وكتّاب الجنوب الاميركي . 

تناولت الفقر الذي كان يخيم على ماضيها ، واعتبرته أكثر قسوة ووحشية من العنصرية ، ظلت تشعر بالأسى وهي تلاحظ أن الجميع ينظر إليها باعتبارها خادمة سوداء عندما ترتاد أحد الأسواق الفارهة .. بدأت حكايتها مع الرواية منذ ان كانت صبية تروي لجدتها الأحلام التي تؤرقها في الليل ، وفي المساء كانت تشارك اختها لعبة تخيل الحكايات : " كنا نترجّل القصص، نتخيّل مغامرات التّنانين، نكت، فوازير عاطفيّة ، هذه كانت بداياتي مع الكلمات، بدايات تخيّلاتي لعالم جديد لا أعرفه بعد، أظن أنها كانت خطواتي الأولى في عالم الحكي، أصنعها بكلّ الأفكار التّي تخطر على بالي، حكايات خياليّة، شخصيات خرافيّة، إنها طفولة تسبح في السّحر" ، بداياتها الأولى في الكتابة تمت من خلال قطعة طباشير عندما كتبت على جدار المدرسة اول جملة دون ان تفهم معناها . 

حاولت ان امحو من خلال رواياتها الحدود بين الواقع والخيال ، لكن الكلمات بنَت عالماً مدهشاً أبطاله يعانون من التهميش والفقر والعنف العنصري . ولدت في ولاية أوهايو في الثامن عشر من شباط عام 1931، بهوية مختلفة ، كان الاسم فيها هو " كلوي أرديليا ووفورد " لأب عمل في مهن عديدة ، لحام في النهار ، وحارس مبنى في الليل من أجل إعالة أسرته التي تتكون من اربعة أطفال ، ظل يحمل في داخله عداءً وكرها للبيض ، رأى في صباه رجالاً سوداً يتم سحلهم في الشوارع بحجة رفضهم التنازل عن ارضهم للبيض : " كان أبي انساناً متعصباً. وفي طفولته بجورجيا، تأثر كثيراً بتصرف الرجل الأبيض، كان يشعر طيلة حياته ان عليه البحث عن سبب لاحتقاره للرجل الأبيض، بينما لا يحتاج هذا الأخير لأي سبب كي يحتقره كزنجي". غرس والدها فيها اهتماما بالتراث واللغة من خلال الحكايات الشعبية الأفريقية التي كان يرويها لها عندما يجد نفسه عاطلا بلا عمل . من والدتها تتعلم أان لا تحكم على الاشخاص بناءً على انتسابهم لجماعة معينة ، وإنما الحكم يجب أن يكون على أعمالهم ، كانت الأم تجيد عزف الموسيقى ، وقد ألهمت ابنتها حب مشاهدة المسرحيات : " كانت أمي تعشق ارتياد المسارح بعد ظهر أيام السبت والجلوس فى الأماكن المخصصة للبيض فقط. وعندما عُلقت لافتات على الجدران تهدد السود الذين يجلسون فى أماكن البيض بالطرد، كان من دأبها أن تمزق هذه اللافتات وتنثرها في جميع أنحاء المكان، وكانت تكاتب الرئيس روزفلت بشأن أوضاع السود" .

عندما كان عمرها حوالي عامين ، أشعل مالك البيت الذي استاجرته عائلتها ، النار في المنزل الذي كانوا يعيشون فيه ، لأن والديها لم يستطعا دفع الإيجار ، تعاملت عائلتها مع هذا الشكل الغريب من الشر بالضحك على المالك بدلاً من الخوف. بعد ذلك ستخبرنا موريسون إن عائلتها استطاعت أن تحافظ على سلامتها في مواجهة اشرار يحملون كل هذه الضغائن .

تعرفت على أعمال دستويفيسكي وجين أوستين وكافكا وفوكنر في صباها ، أنهت دراستها الثانوية بامتياز والتحقت بجامعة هوارد في واشنطن عام 1949، هناك ستغير اسمها إلى توني وذلك بسبب الصعوبة التي كانت تواجه زميلاتها في لفظ اسمها الذي كان البعض يراه طويلاً ومعقداً. أنهت دراستها العليا عام 1955 ، وقامت بتدريس اللغة الانكليزية في جامعة تكساس لمدة عامين ، تزوجت عام 1958 من المهندس الجامايكي هارولد موريسون ، ستنهار علاقتها الزوجية بعد اعوام قصيرة ، لتجد نفسها وحيدة مع طفلين ، الفراغ الذي عاشته بعد الطلاق جعلها تكتب خلسة عند نوم طفليها، قالت إنها انصرفت للكتابة كنوع من التعويض عن ذلك التبدّل الكبير الذي طرأ على حياتها ، أدركت أن الكتابة باتت حاجة ضرورية في حياتها ، وبخاصة من أجل التعبير عن احتجاجها ضد الظلم الذي يطاول أبناء جلدتها من السود الأميركيين . 

قررت أن تتفرغ لعالم الكتب عملت محررة في دار نشر وأشرفت على إصدار كتاب عن محمد علي كلاي وآخر عن المناضلة أنجيلا ديفيس ، قالت لصحيفة نيويورك تايمز: "كان لدي طفلان صغيران في مكان صغير ، وكنت وحيداً للغاية. كانت الكتابة شيئاً بالنسبة لي . " نشرت روايتها الاولى "العين الأكثر زرقة" - ترجمها الى العربية فاضل السلطاني - عام 1972 بعد أن تخطت الأربعين عاماً ، لم تحظى الرواية بالاهتمام إلا إنها وجدت لها صدى بين مجتمع السود فنفذت طبعتها الأولى بعد عامين من صدورها ، وفيها تروي قصة فتاة صغيرة سوداء تريد أن يتغير لون عينيها، وأن تصبحا زرقاوين، ولكن تصاب باليأس لان دعواتها لا تستجاب : " أردت في هذه الرواية أن أذكر الناس بما يميلون الى نسيانه. فطوال أجيال، لم يستسغ السود أشكالهم وسحناتهم. ولم ينظر النقاد السود الى روايتي هذه بعين الرضا، وأخذوا عليّ الكشف عن عُقدنا ومكامن ضعفنا على مرأى من البيض. وقيل"يجب ألا يعرف البيض هذه الأمور". ولكني لم أترك هذا الضرب من الكتابة. ومارس أدباء سود كثر، من أمثال رالف ايليسون وريتشارد رايت وجايمس بالدوين، رقابة ذاتية على أنفسهم عند وصف أحوال جماعاتهم. ولم تبارحهم فكرة أن البيض سيقرؤون أعمالهم. ومأساة الرجل الأسود إن حق الدفاع عن زوجته أو ابنته لم يعط له، في الماضي. فمثل هذا الدفاع عاقبته السحل. ولذا، يحتقر الرجل الأسود المرأة " .

كتبت "العين الأكثر زرقة" في المطبخ ، فقد كانت تعيش في شقة تتكون من غرفة للمنام ومطبخ للأكل والجلوس والكتابة ، قالت بعد نشر روايتها الأولى :" أنا أكتب من أجل السود ، بنفس الطريقة التي لم يكتب بها تولستوي من أجل المستضعفين " .

في روايتها محبوبة – ترجمها الى العربية أمين العيوطي - تقتل بطلة الرواية طفلتها لكي تخلصها من مصير العبودية الذي عانت منه الأم طويلاً ، لكن الطفلة القتيلة تعود الى الحياة لتذكر الام بما فعلت . قال النقاد عن محبوبة إنها لا تقل أهمية عن "كوخ العم توم" لهارييت ستاو عام ، فالروايتان تدينان نظام الفصل العنصري الكريه وتنتصران لحرية السود .

روايتها الثالثة "نشيد سليمان" – ترجمها الى العربية سمير علي - بطلها من الطبقة المتوسّطة يعيش في الشمال، كان يجهل كل شيء عن ماضيه، اما اسم سليمان فهو لقب عائلته، الذين كانوا من العبيد، كلّ ما يعرفه عن ماضيه هو أغنيّة قديمة أشبه بنشيد للعبيد حيث كان يغنّيها السّود في حقول القطن تذكر بجده وبعائلته القديمة التي انقطعت علاقته بهم منذ زمان ، :" كان بطلي رجل بدون ذاكرة لذا قرّر البحث عن ماضيه وستكون الأغنية دليله،أشبه بعملية البحث عن كنز خاصته، أما أنا فاعتبرها برحلة بحث عن الذّات، العودة إلى الجّذور الأولى،في أغاني العبيد تعثر على تاريخ مؤلم وهشّ من المعاناة، تعثر كلّ هذا في كلمات بسيطة وشّفافة وحزينة والتّي منها أبدعوا موسيقى البلوز والجاز، تحكي عن السّحرة الذين أصبحوا قادرين على الطيران ليعودوا للوطن الأم إفريقيا، أعتبر هذا الهروب من اللاممكن، حالة من الانسداد واللاتعايش مع السّائد، سيعثر بطلي على أثر جدّه الذّي قتله بطريقة وحشيّة مزارعين بيض كما هي العادة، لكن هذا ليس نهاية الحكاية، سيعثر على كلمات الأغنيّة، وعندما يقرؤها يكتشف أن جدّه الأوّل سليمان لم يكن عبداً فقط،كان شاعراً بالفطرة كتب أغنيّة مشحونة بالألم والغربة والشّوق، فيض جارف من المشاعر الإنسانيّة "

فازت موريسون بعد نشر روايتها جاز عام 1992 بجائزة نوبل ، وهي رواية تدور أحداثها في حي هارلم في العشرينيات، ابطالها زوج وزوجته وعشيقته ، في هذا المثلث يقوم الزوج بقتل عشيقته التي هي في سن المراهقة ، وفي الرواية تستخدم موريسون بُنية سردية تشبه انغام الجاز . 

في روايات موريسون لامكان للخطابة السياسية ، فهي تدرك أن العنصرية والظلم اشياء لا تموت الا بموت المروجين لها ، وهي تصر على تفكيك الصور النمطية المكرّسة للمواطن الاميركي الأسود، حيث تسعى الى كتابة يتعذر طمس طبيعتها الزنجية ، لكنها كما تقول كتابة ليست عنصرية ، وانما أبوابها تظل مشرعة للآخر. 

اعتبرها النقاد وريثة مواطنها الحنوبي وليم فولكنر ، تبتسم حين يسألها زوار بيتها وهم يرون صورة فوكنر معلقة على الجدار وتقول :" هذا قريبي ، لكنه ابيض اللون .. قرابتي له لا يحددها لون وشكل ، وانما كتابة من اجل الانسان ". 

تكتب :" لا توجد حضارة لم تبدأ بالفن ، سواء كانت ترسم خطاً على الرمال أو ترسم كهفاً أو رقصاً.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top