فؤاد التكرلي في رواية  اللاسؤال واللاجواب : أسئلة صامتة في حالة حصار

فؤاد التكرلي في رواية اللاسؤال واللاجواب : أسئلة صامتة في حالة حصار

بندر عبد الحميد

لا أحد يستطيع أن يطرح الأسئلة المصيرية التائهة التي يطرحها المواطن عبد الستار حميد زهدي بصمت، ولا يريد – أو يستطيع – أحد أن يجيب عنها، كأن العالم كله متفق على هذا الصمت،

وكأن الحياة مستمرة بقوة الدفع الذاتي، أو غريزة حب البقاء، مع كل هذا البؤس والخوف والتجويع والحصار في العراق، في منتصف التسعينيات الماضية – زمن الرواية التي ترصد نصف عام من حياة عائلة بغدادية، تعيش في ما تحت خط الفقر، وهي نموذج ينسحب على الأغلبية الساحقة من المجتمع العراقي، في تحولاته العاصفة التي بدأت في أوائل الثمانينيات، حروباً وحصارات خارجية وداخلية، تواصلت في أشكال مختلفة حتى اليوم. وتشكل أعمال التكرلي وغائب طعمة فرمان جسراً بين الواقعية الكلاسيكية والواقعية الجديدة، وهما من جيل واحد، في تطور الرواية والقصة القصيرة في الأدب العراقي. معاناة شعب يختصرها فؤاد التكرلي في رواية "اللاسؤال واللاجواب" – دار المدى – بمعاناة عائلة من أربعة أفراد، عبد الستار وزوجته زكية وابنتهما كوثر، وابنة زكية – هيفاء – من زوجها السابق، يقتسمون القليل من أرخص الطعام والكثير من متاعب الحياة اليومية المحاصرة. كان والد عبد الستار يريد من ابنه أن يتزوج زكية ابنة عمه، ولكنه فوجئ بأن أمها وعمتها زوجتاها من سائق قطار، مما أغضب الأب وقاطعهما حتى وفاته، وعندما توفي زوج زكية وجد عبد الستار نفسه وفياً لحبه القديم، فتزوج من زكية، وانضمت إليهما ابنتها هيفاء، في المنزل الذي ورثه عبد الستار عن أبيه.

وتبدو الخصوصية العراقية واضحة في العلاقات الاجتماعية والعائلية، وفي الطاقات الفردية على الاحتمال والتعايش مع الخوف والكوارث، مع الحرص على استمرار نبض الحياة، في ألوانها المتغيرة، وتدرجات الحزن الصامت. يتذكر عبد الستار طفولته البعيدة، وتلمع في ذاكرته صورة أبيه الذي كان يضطهد أمه ويضربها، ويتوازى القمع العائلي مع قمع السلطة، انسجاماً مع ثقافة الرعب والخوف، في صورتين: صورة مصغّرة للأب في المنزل، وصورة مكبرة للأب القائد، على رأس هرم السلطة الرهيبة. بينما تبدو صورة عبد الستار وزكية كرجل وامرأة يبحران على طوف عتيق، بين أمواج عمياء، ولا يعرفان المسافة التي تفصلهما عن بر الأمان.

لم يكن عمل عبد الستار على سيارة الأجرة كافياً لاستمرار الحياة في حدها الأدنى، لو لم تسانده زكية في عملها في المنزل على آلة الخياطة، حينما يحتاج الجيران، إلى مثل هذه الخدمة، أحياناً، بعد أن باعت زكية كل القطع الذهبية الصغيرة والمصوغات التي تملكها، بينما كانت الحاجات اليومية المتزايدة سبباً كافياً لبيع كل ما يمكن أن يباع، من قطع السجاد والأثاث المنزلي، بما فيه من الصحون والملاعق والسكاكين، غير أن عبد الستار لم يحاول أن يبيع المكتبة التي ورثها عن أبيه، ليس لأن الكتب بضاعة كاسدة، ولكن، ربما، لأنها تمثل نوعاً من التواصل مع ذكرى أبيه. اللاسؤال هو السؤال الكبير: ماذا، ولماذا؟ تتفرع عنه أسئلة صغيرة، معلقة، حائرة، كما هي حال عبد الستار، الذي يعتقد أنه مصاب بالصّرع: "كان ممدداً بطوله على الأرض الباردة، يحس بظهره وأردافه وساقيه وما خلف رأسه، تكاد تتجمد، وكانت ذراعاه مرفوعتين إلى الأعلى، فتح عينيه، لحظة، وهو يلهث فاغراً فمه، فلم ير شيئاً، ولم يع أين كان وماذا يفعل وفي أي زمان هو..". يعاني عبد الستار من كوابيس وارتعاشات غريبة، متكررة، تطرحه في المسافة المضطربة بين الحياة والموت، وهذا ما دفعه إلى الغياب عن عمله كمعلم في مدرسة رسمية متآكلة، ليشترك مع جاره، أبي سلمان، في سياقة سيارة الأجرة التي يملكها، حيث يسوقها جاره في النهار، بينما يستلمها منه عبد الستار من الساعة السادسة مساء، وعلى امتداد ساعات طويلة من أطراف الليل الموحش، بما فيه من مصادفات غريبة وخطرة، في التعامل مع نماذج مختلفة من الناس الطيبين والأشرار، وغريبي الأطوار، وبينهم غانيات ومشردون ولصوص يعانون ما يعانيه عبد الستار والقليل منهم هو الميسور الذي يبحث عن ملذاته العابرة التي يمكن أن تمنحه نوعاً ما من التوازن، أو محاولة الخروج من عنق الزجاجة السميكة المضغوطة. تتوالد الأسئلة الصغيرة من الأسئلة المصيرية الكبيرة، واستمرار الألم الصامت لا يمنع الأحلام المؤجلة من اللمعان، وليس من أمل في معانقة هذه الأحلام وتحقيقها إلا بمعجزات باهرة، أو مصادفات غريبة نادرة.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top