اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > استمالات الجنون ... مُتسعات الحريّة في مسرحيّة أمكنة إسماعيل

استمالات الجنون ... مُتسعات الحريّة في مسرحيّة أمكنة إسماعيل

نشر في: 24 أغسطس, 2019: 09:13 م

حسن عبدالحميد

لم نجدُ ما يفضي دخولاً - وجوديّاً ، و نسقاً نفسيّاً ، محضاً - نحو مداخل و مُنبئِات مخارج مجمل ما أجهشت به

و شرّعت مسرحية " أمكنة إسماعيل " لمخرجها " إبراهيم حنّون " وكاتبها " هوشنك وزيري " إنتاج الفرقة الوطنية للتمثيل/ دائرة السينما والمسرح/2019 من هموم أعباء و تفاقمات هواجس و تصادمات متواليات مخاوف وغيرها من جواحد سلوكيات متضادة و أخرى مسننة و حادة ، غير محاولة النظر من زاوية ما كان يرى " سارتر" فيما يخص بعض أبعاد فلسفته الوجوديّة من مسارب مقولته ؛ " الحياة لا تساوي شيئاً ...لأن لا شيء يساوي الحياة " .

و يشاء أن يتقابل مثل هذا الرأي مع أمثولات " ميشيل فوكو " في سوانح حلوله الإجرائيّة لبعض خواتم أزمات خواصه النفسية و تعليلاته الفكرية عبر تباري تعمّقات دراسته الراسخة فيما يتعالق مع فهمه و مآثر جدواه حول " تأريخ الجنون " ، للحدّ الذي دعاه إلى نحتِ تبريرٍ لا يخلو من حوافل فخرٍ و إصرار تحدٍ ، بميول " راديكالية " وصولاً لنزعة قناعات تفيد بجرأة ما نادى قائلاً ؛ " لقد أخذتُ من الجنون ، ما كان ينقصني من الحريّة " 

مدخلان يهيمنان على هضم و فهم ما تضافر من ممكنات وثوق و تخاطر و تماهٍ ما جادت و جاءت تسعى إليه هذه المسرحيّة الإنسانيّة بهمومها الكونية النازفة - والتي لا تكاد ثيمتها الضمنية و الحقيقيّة أن تتوّقف أو تنحسر - فقط - عند حدود أوضاع ما مرّ به العراق فحسب ، بل تمتد لأبعد و أعمق مما حاولت الكثير من أعمالنا المسرحية - بل عموم مساعي درامتنا المحليّة - من جس و فحص حقيقة تلك الاوضاع المأساوية من حروب و حصارات ،وغيرها بهذا الكشف و التكثيف بغية توثيق أزمات الإنسان سعياً في بحثه الدائم عن جوهر " الحريّة " ، إن لم تكن بمستوى " الحريّة الحُرّة " تلك التي نادى بها "رامبو" لها ، أو بمن جاء على شاكلته، كما حفلت " أمكنة إسماعيل " من حثيات تشخيصها الدقيق الرامي لحمل أعباء قضية كبيرة و سامية تنطوي على جملة أفعال و سلوكيات ذات محاور واضحة و نتائج تكاد أن تكون متوقعة ، بل مرئية و شاخصة إلى حدٍ ملموس و محسوس . 

لعل ... الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقضي جُلّ حياته بحثاً عن الأخر ، فيما تتفاوت تلك المساعي وفق سلم الحاجات و الدوافع الإنسانية عبر متسعات الوعي و مكامن الإدراك الذي سيشُّكل مرآة عاكسة لكل جوانب ذلك المنال المضني .

لقد أحال نص " هوشنك " بكثافة و عمق ما حوى من صرامة أفكار و تصارعات رؤى و تعزيز قناعات - الكثير و المثير من المحددات النفسية لخوض إشكاليات التياع مشاعر و متواليات مخاوف ، و مفارقات مقدرات تزاحمت على توريد سلوكيات تجاوزت مناسيب حدودها القيميّة السائدة و المتوقعة حيال ما معمول و معروف في ثنايا نسيج مجتمعاتنا ، فضلاً عن تخريجات صانع العرض بتهيئة أفاق وأعماق رؤاه الإخراجيّة بإتساق و عي محكم و رصين ، و إلأّ ما الذي يجعل بطل المسرحية " إسماعيل " الذي أدى دوره بمهارة إتقان و ملكات تفرّد إدائي مشفوع برصانة خبرة و نبل إنتماء نادر الفنّان " رائد محسن " أن يرفض الرضوخ بوجوب مغادرة مستشفى الأمراض العقليّة ، و العودة إلى بيته و زوجته و أبنته ، مفضلّاً البقاء فيها بعد مكوثه لمدة خمسة عشر عاماً متواصلة ، تحت ذريعة - الإحتماء الإضطراري - بالجنون حلاً و سبيلاً - لا محال - و بما يتيح و يسمح التخلص من ضغوطات الحياة على مختلف فهم قناعاته التي أودت به للركون عند أسوار هذا الخيار الصعب ، بل المستحيل على وجه الدقة و التأكيد .

وعلى ضوء ما يديم دواعي إثبات " الثيمة " الأساسية و الرئيسة ، تسمو قدرة التوليد و التحاور بالطريقة التي انهال عليها النص و أخلص عبر أسئلة و محاور فلسفية غاية بالتأثير و الإقناع الذي أهلّه لنيل جائزة الهيئة العربية للمسرح كأفضل نص ، و قد شاء و أن أهداه الكاتب إلى روح صديقه الراحل " خضير ميري " الذي خاص مثل هذه تجربة إسماعيل ، مناورة و تخلّصاً من مختلف الضغوط النفسيّة و الإجتماعية و السياسية كلاً بحسب درجات وعيه " خضير أم إسماعيل " ، و مشيئة دفاعاتهم الفكرية والفلسفيّة ، في مجال ما يعرف ب " علم نفس الشواذ " و" علم نفس الشخصية غير السوية " ، فضلاً عن محاولات تمرير سيل من سُبل وسائل إقناع توازِ لوازم بث تبريرات و ضخ تدابير لبعض ما كان يخالج " فوكو " – مثلاً - من حيث طبيعة تفاقم الافكار ، و مساعي إيجاد تعليلات تقاوم الضد مما كان يعاني و يعيق سير أهدافه المدافعة عن الجنون كظاهرة إنسانيّة على العالم تقيمها و احترامها . 

ثمة مداخلة ينبغي إعادة ذكرها ، تفيض ببعض ما نتج من و ثوب عقل و نهج آراء و تحديثات " سارتر" فيما يحايث براعة جوهر اختصار تعريفه للمثقف على أنه" معارض" ، و لذلك صلة وثقى بجوانب معينة من متسعات الحريّة و نواحي استمالاتها بالجنون قبولاً تعويضيّاً ، حين تغلق عليها جميع المنافذ .

منذ لحظة البدء بمنطوق الحوار ، عند مستهل العرض ، توالت تراكمات قيّم و أوزان السجالات وحمى الجدال ما بين قرارات الطبيب " مدير المستشفى " الذي أدى دوره بحضور مؤثر و نسق آسر الفنان " باسل الشبيب " و ما بين المريض " إسماعيل " بمجمل تحوّلات أمكنته الحقيقة منها و المتخيلة ، بفائض براعة عرض مبهر و متقن ، شّكل فيه الفريق الفني المتكوّن من المبدعين " ماجد لفته العابد / محمد الربيعي / عباس قاسم / محمد عودة النقاش "، و بتدعيم تشكيلي إخراجي تماثل ينمو و يتبرعم مع حدة و حدات و ممكنات الصراع بقماشة بعدة منافذ و فتحات تكبر و تنتفخ لتتماثل بمثابة وعاء أو رحم مكبل بالعديد من التخيلات و الهواجس و الظنون ، فيما يتصاغر حجمها ، يخبو أو تتخافت هيئة ذلك التشكيل المهيمن الذي يحوي جميع تقلبات وجوه و أقنعة البطل الحائر ما بين الجنون و حلم التخلص منه ب " الحرية".

برع ذلك الشكل بإشغاله مساحة مهمة من الجهة اليمنى لخشبة المسرح ، و دهاء إنسيابيته الصادمة بذات جلال و هيبة اللون الأخضر المشع أن يكمل صيغة تأثيراته الدلالية و الروحيّة ، بل حتى الدينية منها ، وفق دلالة الأسم " إسماعيل " وما يعنيه بالمورث و التداول المعروف ، و في أن يفيق عند حدود تناغم طيّع و حيّ ، و بما جعل من أضاءه وجوه و تعابير و أقنعة مجموعة الممثلين " شوقي فريد / طه علي / حيدر الخياط / حيدر الاغا / علي العذاري " تتناوب على نحو بارع ، مؤثر و مدروس . 

ثم جاء ترك المخرج و مصمم العرض و لوازم " السينوغرافيا " لبواقي مساحة الخشبة ، ليحيي إستثمارات جميع تمريرات أشكاله الوظيفية و الجمالية ، و بما يضمن رصف و توصيف كل مكامن ما كانت تضمره شخصية " إسماعيل " من هواجس / مخاوف / تقلبات / مواضي ذكريات مضطربة / تهيّئات / كوابيس / تشّظت و توزعت على عدد من الشخصيات التي أخذت تترآى من خلال ثقوب ذلك الكفن الأخضر التي تطل منها رؤوس و أقنعة ، هي خلاصة ما تحمله تلك الشخصية المحورية ، و التي يفوز فيها المشهد الختامي بإعدامها جمعياً ، في عرض تراتبي مثير و دهش ، رغم كل ما حمل المشهد من مرارات صدمة و قتامة خوف و بشاعة مفرطة ، بعد أن تجندلت كلها داخل " أفريمات " حتى تناسلت و أنسلت تحكي و تحيل خيط النهاية نحو أفق مفتوح و مجروح لكل تلك الوجوه و الافكار التي لخصها " إسماعيل " مع أنساق حوارات و شواهد أوهام بتحوّلات نفسية و مواقف مثيرة ، جريئة و صعبة أبرمتها شخصية " ياسمين " الممرضة التي تعمل بهذه المستشفى ، والتي يقع في غرامها " إسماعيل " ما بين وهم مدقع و ما بين حقيقة واهية ، أدت الدور بشكل شيّق رائق وعميق الممثلة الواعدة " كاترين ".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملاحق المدى

مقالات ذات صلة

16-04-2024

مثقفون: الجامعة مطالبة بامتلاك رؤية علمية تكفل لها شراكة حقيقية بالمشهد الثقافي

علاء المفرجي تحرص الجامعات الكبرى في العالم على منح قيمة كبيرة للمنجز الثقافي في بلدانها، مثلما تحرص الى تضييف كبار الرموز الثقافية في البلد لإلقاء محاضرات على الطلبة كل في اختصاصه، ولإغناء تجربتهم معرفتهم واكسابهم خبرات مضافة، فضلا على خلق نموذج يستحق ان يقتدى من قبل هؤلاء الطلبة في المستقبل.السؤال الذي توجهنا به لعدد من […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram