د. أحمد عبد الرزاق شكارة
الديمقراطية تموت في الظلام Democracy dies in darkness شعار تبنته جريدة الواشنطن بوست الاميركية The Washington Post وأجده مناسباً
لتحليل الصورة الراهنة لأزمات العراق التي تعاظمت فيها السلبيات مع إنحدار واضح في منسوب الإيجابيات التي كان من المفترض أن تتصاعد لدرجات عليا تنقل العراق من عملية سياسية تعرف بأنها "ديمقراطية" إلى ظاهرة تعزز المضمون الحقيقي للديمقراطية كي تؤكد على ضرورة أحترام الآخر والتعايش السلمي معه مع الاهتمام المعمق بالبعد المؤسسي الحقيقي الذي يعلي المصلحة الوطنية على حساب المصالح الفئوية والفردية من جهة أخرى. المعادلة البسيطة تقول : كلما ابتعدت قناعة الرأي العام وثقته بالنظام السياسي كلما أهتزت أركان الديمقراطية السياسية بصورة جلية ومن ثم فقدت بريقها والتزام بمعطياتها .
بمعنى من المعاني يعيش العراق ليس ظلمة افتقاد الكهرباء فقط بل عتمة وعدم وضوح مآلات العملية السياسية الراهنة التي وصلت إلى درجة كبيرة من الضعف البنيوي والعملياتي . من هنا، حتمية أن يتحمل العراقيون جميعاً عبء مسؤولية تغيير واقع متردي والانتقال إلى حالة الضياء والنور وهي ماتمثل حقاً مسؤولية التغيير الايجابي حيث أن لكل منا محيطه وفضاءه المشبع بالآمال العريضة التي ينتظر إنجازها بفروغ الصبر من إحترام للحريات الديمقراطية إلى حماية حقوق الانسان وحرياته الأساسية إلى تمتع العراق باستقرار وأمن واسع ومعمق في ظل سيادة وطنية خالصة يفترض أن يحرص النظام السياسي العراقي علناً وجهاراً على الالتزام المستمر بها تمتينا لكيانه وللحمته المجتمعية وللسلام الاجتماعي.
العراق لاعب سياسي مهم لايمكن تجاهل دوره في إطار المحيطين الاقليمي (العربي وغير العربي) والدولي نظراً لموقعه الحيوي الجيوسياسي وإمتلاكه إمكانات بشرية متخصصة –داخل وخارج البلاد- ومادية "اقتصادية –معدنية" ضخمة يمكن فقط في حالة توظيفها بشكل جيد أن تحقق نقلة نوعية جيوسياسية – إقتصادية متميزة تطبع مسار التاريخ السياسي للعراق الحديث. لاشك أن إنهيار مايعرف بدولة الخلافة "الخرافة" داعش في عام 2017-2018 واستمرار عملية إرادة النصر في مراحلها "مابعد المرحلة الرابعة" تؤكد نظرياً أن مستقبل الأمن في العراق سيتحسن إلى درجة غير مسبوقة في المستقبل المنظور . إلا أن الواقع الراهن الذي ينوء بمشكلات وأزمات متنوعة معقدة قسم منها سياسي وأخر أمني والجزء الآخر اجتماعي – تربوي - إقتصادي –إداري – ثقافي كلها تعزز الفرضيات القائمة من أن عملية الانتقال لوضع ديمقراطي حقيقي تسلط فيه الاضواء على الواقع الراهن بغية إصلاحه يؤكد أهمية بل حتمية بناء الدولة الديمقراطية- المدنية الحقيقية وهو أمر ليس ميسوراً أو يمكن تلمس نتائجه في الأمد القريب خاصة مع تصاعد حالات عدم التيقن كنتيجة لصمت الحكومة العراقية أو لعدم التشخيص المناسب وتحديد الأولويات ومن ثم تبيان طرق معالجة الأزمات التي تتراكم بصورة أكبر من إمكانية حلها . إن تأثيرات التكتلات والأحزاب السياسية – الدينية "المذهبية" التي لبست لبوس الإسلام دون الانتماء الحقيقي له لن يسعها التنازل عن مواقعها ومصالحها المتميزة التي وصلت إليها في ظل نظام سياسي مازال قائماً منذ 2003على المحاصصة والتمايز الطائفي والعرقي والقبلي .
صحيح إن انتخابات أيار 2018 برغم عدم مصداقية نتائجها أفرزت لنا واقعاً جديداً أضعف نسبياً من قوة التكتلات إلا كتلتين رئيستين (سائرون والفتح) استوعبت بعض من جهات سياسية أو طائفية وعرقية أخرى إلا أنها عملية مازالت تتحكم في مسارها أسس لم تنه كليا المحاصصة مايضعف كثيراً الدولة العراقية بكافة مؤسساتها بصورة تسمح بإعطاء إنطباع أو تصور بإن العراق فاقد لسمات الدولة المعترف بها التي على رأسها إحكام السيادة الوطنية من جهة وتطبيق حكم القانون والقضاء العادل من جهة أخرى.
إن استمرار النزاعات العشائرية دون ضوابط حكومية صارمة ومن نماذجها تلك التي تتكرر في محافظة البصرة وغيرها من محافظات ضمن آجال زمنية قصيرة ماهو إلا جانب من حالة الوهن السياسي المتنامي لمؤسسات الدولة. إن مايزيد الأمر سوءا أن النزعات القبلية لازالت تصور من قبل بعض الاطراف القبلية والعشائرية على إنها ضرورية اساسية للحفاظ على أمن البلاد بينما مايعرف بالدكات العشائرية وغيرها من فصول وتقاليد قبلية هي امور عفى عليها الزمن لاتصب قطعاً في خدمة بناء دولة مدنية حديثة تعتمد على حكم القانون والالتزام بدستور وطني.
ما تقدم يضع مسؤولية كبرى على الحكومة العراقية أن تحد كلياً من صراعات عشائرية وغيرها تهدد استقرار وأمن الدولة العراقية. هذا بالتواز مع ذلك لابد أن تسعى الحكومة العراقية وبوجه السرعة وبمنتهى الشفافية لإحكام تطبيق الامر الديواني 237 لدمج قوات الحشد الشعبي في إطار المنظومة الامنية الرسمية للجيش والشرطة العراقية مسألةصحيح إنها ليست يسيرة في تطبيقها لاسباب مختلفة إلا أنها أمر عاجل خدمة للمصلحة الوطنية. ما يضاعف الامر صعوبة ضبط إنتشار السلاح خارج الحدود القانونية للدولة رافقتها مؤخرا تداعيات هجمات الطائرات المسيرة على مراكز ومخازن عتاد الحشد الشعبي التي يعتقد على نطاق واسع أن إسرائيل قد تكون ورائها . الموقف الحكومي الرسمي للرئاسات الثلاث أيضاً لم يكن في نظرالكثير من المراقبين للشأن العراقي على مستوى "خطورة الحدث" نظراً لكون إحتمالات تكرره واردة مع عدم توفر آليات أمنية رادعة.
ضمن هذا السياق والتزاماً بموضوعنا نرى أن توفر الشفافية والمحاسبة القانونية من قبل السلطة التنفيذية ومنظمات المجتمع المدني تجاه إخضاع كل تنظيم مليشياوي – عسكري لسلطة القانون والقضاء وبشكل يتوافق مع رسالة دبلوماسية واضحة وقوية للمجتمع الدولي والإقليم تؤكد أن سيادة العراق الوطنية تعد خطاً أحمر لايجوز تجاوزه مهما قدم من تبريرات لاترقى للفعل الخارجي العدواني "الإسرائيلي" او لغيره من قوى ظلامية تسعى لإضعاف العراق. كل ذلك كي لاتموت الديمقراطية "إن وجدت" أو تعيش في ظلام بعيدا عن دور فاعل للرأي العام العراقي "المتنور" الذي يستطيع لبلورة حراك وتنظيم شعبي مستمر يهدف للوقوف سداً مانعاً لأي تدخل خارجي لايجوز تقبله قانوناً بل وغير مرحب به إطلاقاً . من هنا أهمية توفر ستراتيجية إعلامية فاعلة وواضحة تبين للشعب العراقي حقائق الأمور والموقف على حقيقته دون تخوف من النتائج إذ أن الأمن الوطني هو على المحك وبالتالي مسؤولية مؤسسات الدولة العراقية (رئاسة ، حكومة ، برلمان وقضاء) حفاظاً على المصلحة الوطنية تستوجب الخروج سريعاً بموقف موحد واضح المعالم كي لايترك الأمر لإنتشار المعلومات المضللة أو الشائعات أو التحليلات غير العلمية و الموضوعية لما يعرف بإ"دعياء التخصص" فرص نقل الاحداث المتنوعة دون وجود جهاز مسيطر علميا - حكوميا لفلترة أوتصفية كل مايجانب الصواب عندها فقط لن تموت الديمقراطية في الظلام بل ستسلط الاضواء الكاشفة عن الاخطاء التي تصل لحد كونها "خطايا" بل وجرائم ترتكب بحق شعبنا مع الاعتراف بإهمية كل مايتخذ من خطوات إيجابية .
على رأس ما يجب أن يحظى بأولوية خاصة الضرورة العاجلة للمعالجة الجذرية لكل ملفات الفساد على أختلاف انواعها ، مضامينها وعناوينها بكل جرأة وإقتدار تصميم تعكسه إعلاميا أو دعائيا إجتماعات متكررة للمجلس الاعلى لمكافحة الفساد وهو جهاز مهمته التنسيق بين كل الهيئات الرقابية والتحقيقية الرئيسة .علما بإن النتائج الحقيقية على الارض لازالت دون مستوى الطموح . ما ينتظره المواطن مزيدا من إجراءات حازمة جذرية تعيد الحقوق لإصحابها وتنهي مسألة التردد في إرادة إتخاذ القرارات اللازمة ضد رؤوس الفساد التي لابد أن تواجه من خلال إعتماد قوانين رادعة وقضاء عراقي مؤثر وصارم يقدم درساً ودروساً بليغة لكل من سولت أو تسول له ذاته الاعتداء على ممتلكات الدولة أو إهدار أموالها تنمية لمصالح فئوية أو فردية خاصة "إن عمداً أو نتيجة إهمال" خاصة مع عدم وجود الشخص المناسب في المكان المناسب والله من وراء القصد.
اترك تعليقك