بغداد/ محمد جاسم عدسة/ محمود رؤوف
يقف مصطفى جواد علمًا بارزًا من أعلام النهضة العربية في ثقافتنا وحضارتنا وفكرنا وتاريخنا الإنساني. فقد كان عاشقًا طبيعيًّا للحقيقة،
مخلصا لها، مترصدًا إخلاصه فيها، هائمًا بها ولذاتها. تلك الحقيقة هي حبه العميق للغة العربية لغة الحضارة والفكر الإنسانيين. كان موسوعة معارف، في النحو والخطط والبلدان والآثار، (أعانته على ذلك حافظة قوية وذاكرة حادة، ومتابعة دائمة)، حتى غدا في ذلك مرجعا للسائلين والمستفتين، فنهض بما لا تنهض به العصبة أولو القوة. فكان أمة كاملة في رجل. وعالما في عالم، ومدرسة متكاملة قائمة بنفسها.
ولأنه معني بمفاجأة متلقّيه بما هو مميّز وجديد، سواء أكان ذلك على صعيد انتقاء المادة أم على صعيد أسلبتها ووضعها في اسلوب ما، فإنه يعمد دائماً إذا ما ووجه بالتكرار أن يمنحه إطاراً خاصّاً يجعل السامع، الذي مرّ عليه الموضوع ذاته، وكأنه بإزاء موضوع آخر لم يطرق سمعه من قبل! هذه المناورة الأدائية هي إحدى مميزات مصطفى جواد. ولاهمية هذا العلامة ولمناسبة مرور 50 عاما على رحيله استذكره بيت المدى في شارع المتنبي. قدم للجلسة الباحث توفيق التميمي وشارك فيها مجموعة من الباحثين واساتذة الجامعة وجمهورغفير من المثقفين والمعجبين بسيرة جواد العطرة.
4 أشرطة صوتية وأرشيف صوري
مقدم الجلسة التميمي قال:- كان العلامة جواد انسانا غنيا بكل تفاصيل المعرفة الانسانية في اللغة والتاريخ والتراث والجغرافية. كما كان مولعا بتصحيح الاخطاء اللغوية سواء عبربرنامجه الشهير قل ولاتقل او في حياته اليومية. يقال انه كان عند الطبيب وسمعه يقول جلطة قلبية فرد عليه لاتقل جلطة بل قل غلطة. لانه كان لا يتوانى مع الخطأ اللغوي. مهما كان مرجعه. وقد اقنعته ابنته فائزة بأن يسجل مراحل حياته بصوته. وفعلا سجلها باربعة اشرطة صوتية. وقد حصلت على هذا التسجيل وحولته الى قرص سيدي. وقدمته لبعض الباحثين الذين يعتنون بتراث العلامة جواد، لانه يمثل وثيقة تاريخية مهمة. وقد تحدث عن الكثير من الاحداث التي مرت به والذكريات. منها مرة عندما كان يدرس الملك فيصل الثاني فعلمه عن اشياء كثيرة لكن خاله الوصي عبد الإله لم يعجبه الحال فطرده من البلاط الملكي. كما تطرق المقدم الى ظاهرة غير العرب واهتمامهم باللغة العربية، كما الحال عند جواد الذي كان تركمانيا لكنه نبغ باللغة العربية على نحو غير اعتيادي. وهذه الظاهرة يجب ان يدرسها المعنيون باللغة والتاريخ. والطريف ان دراسته بالماجستيروالدكتوراه لم تكن باللغة العربية بل كانت في التاريخ العباسي. واهتمامه باللغة بدأ من خلال علاقته بالاب الكرملي وتتلمذ على يديه. واشار التميمي البى انه انجز فيلما وثائقيا عن جواد هو الوحيد الذي يوثق حياته وسيرته العلمية. كما يمتلك ارشيفا صوريا كاملا لحياته اخذه من ابنته وينتظر اكمال المتحف الوطني الصوري ليهديه اليه.
رسائل جواد للكرملي
الباحث طارق الحمداني قال:- علاقتي كانت معه بسيطة اذ كنت طالبا لديه في كلية التربية عام 1963. وساتناول الرسائل التي بعثها جواد للاب الكرملي. وهذه الرسائل جمعتها وصدرت بكتاب خاص عن جامعة القادسية ولا اعتقد انه وزع الى المكتبات في حينها. والجامعة كانت قد حولت إليّ الرسائل بخط اليد ومبعثرة. وللاسف ظهرت في الكتاب الكثير من الاخطاء التي شوهت هذه الرسائل التاريخية. وكانت الرسائل المتبادلة بين الادباء اخذت اهتماما كبيرا من الباحثين العراقيين والعرب. وقد قسمت الرسائل الى ثلاثة اقسام، الاول يضم سنوات 1928 -1933. وكانت تشتمل على التعاون بين جواد والكرملي. كما تميزت بالنقد اللاذع لجواد الى الكثير من الادباء العراقيين والعرب.
التركماني الذي علم العرب
الدكتورعلي حداد قال:- ان هذا الرجل البسيط استطاع ان يتعلم الكثير من العلوم بجهده الشخصي. وهو اخر عالم يمكن ان نطلق عليه العلامة. وكان نبيلا مع كل من تعلم منه كما هي علاقته بالكرملي، الذي افاد منه كثيرا، لاسيما في قضايا التراث واللغة وثقافة الاطفال. وكانت اهتماماته المعرفية متعددة. وكان يقرأ الكتاب لمرتين مرة اعرابيا ومرة للاستيعاب. وكان يمتلك ذاكرة عجيبة، فمثلا كان يتذكر بالاسماء كل الخلفاءالراشدين والامويين والعباسيين واسماء زوجاتهم وفترة حكمهم. وحول المعرفة الى جماهيرية بين الناس، بحيث كان يفهمه الجميع حين يتحدث بتلقائية وبساطة. ويكفيه انه التركماني الذي علم العرب لغتهم.
يرصد أخطاء كبار اللغويين
وقال الاستاذ صباح كركوكلي:- لم يكن من الكتاب الذين يسعون للحصول على العينيات او تغريه النجاحات الوقتية بالاتباع والاقتداء، انما سلك طريقا يقفريوما بعد يوم، والسائرفيه يجد نفسه محط نظرات تساؤل وقطبا تحوم حوله العيون المستربية، وليس من المستغرب ان يفوزبالمزيد حتى يصل الى ما لا تحمد عقباه. وكان عندما يحضرمؤتمرات لغوية تحضره عمالقة الادب واللغة يتبرمون منه، كطه حسين مثلا، لانهم كانوا يدركون بان جوادا من الفئة القادرةعلى رصد الاخطاء والتنبيه عليهاعلنا، وقد يجد امامه صدورا تضيق من ما تسمعه منه. لانه كان مدققا موضوعيا وحريصا بشدة على اللغة. ومرة كتب العقاد مقالا يذم فيه مصطفى جواد لقيامه بنبش اخطائه اللغوية. وكان د.محمد جواد المظفر يتحاشى الدخول معه في مناقشة او مساجلة لغوية. وكان جواد يستهجن استغلال الانسان وتجهيله، والارتماء في احضان السياسة والدين. ويقول عن نفسه اصلي من قرة تبة واجدادي تركمان متشيعون غلاة في التشيع. لكنه طلق المذاهب كلها من دون استثناء.
ثبت بمباحثه
وقال الاستاذ حسن عريبي:- لي صلة بالعلامة جواد احسبها لاتقع للكثير من عارفي فضله وغزارة علمه.. فقد حاكيته منذ اليفاعة وربيع الشباب، وعرفته استاذا من غير ان التقيه، عبر مباحثه المنشورة في مجلة المجمع العلمي، ولغة العرب، وسومروغيرها. بعد وفاته ظللت اتابع مسيرته وكلفتني العتبة العباسية باعداد ثبت بمباحثه انا والاستاذ عبد الله عبدالرحيم. وقد كتبت خلاصة لبحثي بعنوان (لا للعكبري ولا من عدلان). وهو مستل من دراسة طويلة جدا ستصدر عن العتبة. وقد اصاب شيخ المعرة في قوله:- الفكر حبل مني يمسك على طرف/ منه ينط بالثريا ذلك الطرف/ والعقل كالبحرماغيضت غواربه/ شيئا ومنه بنو الايام تغترف.
ماذا قدمنا لجواد؟
وسأل الاستاذ معن حمدان ماذا قدمنا لجواد بعد وفاته؟ وهو الذي يمتلك تاريخا مهيبا، وهوالذي جعل اللغة العربية سلسة ويفهما حتى المتعلم البسيط. ما الذي فعلناه له سوى تمثال له في الخالص اندثر مع الايام. لكن اشيرالى كتاب عبد الحميد العلوجي عنه وكان يفترض ان يطبع بعشرة اجزاء لكن لم يصدر منه سوى جزأين بسبب صدور قرار من السلطة السابقة يمنع ذلك. وكذلك ما فعله عبدالحميد الرشودي بتقديم كتاب عنه بثلاثة اجزاء. وننتظر من الاخ حسن عريبي اكمال كتابه عن مباحث جواد. ورد عليه التميمي بانه قدم فيلما مهما عن جواد وكان معن فيه ضيفا، وكذلك كتابه عنه المترجم للغة الانكليزية. ومع ذلك لم يشر معن لهما، وصدق من قال ان مغنية الحي لا تطرب. واضاف ان الرئيس احمد حسن البكر كرمه في حياته وبعد وفاته ايضا.
دؤوب وحريص
وقال الباحث رفعت عبد الرزاق: مصطفى جواد لم يحصل على الدكتوراه من فرنسا بسبب الحرب العلمية الثانية وعاد الى العراق. وذات مرة قال الرشودي كنت انا والقبانجي وعبد الله الجبوري في المقهى حين سمعنا ان جوادا دهسته سيارة فذهبنا الى منزله وكان يضع ساقه المصابة على منضدة وامامه كتبا ويعمل على تحقيق كتاب جديد، وهذا يدل على جديته وحرصه وعدم تضييع الوقت رغم الحادث الذي تعرض له. كما اطلعت على تحقيقه للكتب وملاحظاته عنها فكان قاسيا جدا. وقال المؤرشف هادي الطائي ان هناك كتابا صدر لجواد مع اخرين عام 1960 يقع بـ824 صفحة ويتضمن صورا ووثائق عراقية مهمة، وقد طبعته وزارة الثقافة في زمن الوزير فيصل السامر. وانا امتلك نسخة من الكتاب وقام بعرضه. وقال عن جواد انه سيبويه هذا الزمان.
اترك تعليقك