بغداد/ محمد جاسم عدسة/ محمود رؤوف
منذ بداياته الإخراجية الأولى، دأب المخرج جواد الاسدي على تقديم الجديد، فكانت أولى تجاربه الشبابية، «العالم على راحة يد»
مع فرقة المسرح الفني الحديث. وغادر العراق ليكمل دراسته العليا في بلغاريا، ولأن آفاق العودة، كانت مستحيلة لمن على شاكلة جواد فكرا وموقفا مضادا من النظام السابق، ولان دمشق مفتوحة للمعارضة العراقية، ذهب اليها، وقدم أول تجاربه المتميزة “رأس المملوك جابر” للكاتب سعد الله ونوس، مثل فيها تلامذته بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وأصبح أبطالها، لاحقا، نجوم الدراما السورية والعربية. وتوالت أعماله المبهرة مثل "المجنزرة ماكبث" و"تقاسيم على العنبر" و "نساء في الحرب" و "حمام بغدادي" و "الخادمات" لجان جنيه. ولاهمية تجربة الفنان جواد الاسدي اقام بيت المدى في شارع المتنبي جلسته الاسبوعية عن هذا الفنان الكبير،انطلاقا من سعي المدى للاحتفال بالقامات العراقية السامقة في مجال السياسة والادب والفن.
حضرت مسرحيته في بغداد وهو في عمان
قدم الجلسة وحاور الاسدي د. سعد عزيز عبد الصاحب، فقال:- اول مرة تعرفت عليه في مسرحيته مجنزرة ماكبث عام 1992 ، ولم يحضر في حينه لاختلافه مع النظام السابق. وكان عرضا بطعم الدهشة والسحر والجنون، وكان الاداء التمثيلي الجامح لسلطان وحشي سلب حواسنا، واماط اللثام عن جوهر ذلك الرجل المترقب لنجاح عرضه. حقا كنت افكر فيه، مستوحدا غريبا وهو ينتظر في عمان، اكثر ما فكرت بعرضه مجنزرة ماكبث نفسه. وترقرقت الدموع من عيني، حين صعدت امه على المسرح والقت كلمة صافية كماء كربلاء وقدسيتها. حينها عقدت العزم على معرفة ذلك الرجل المبهر بالماء والنار والعاصفة.
سيد معنى المعاني
واضاف:- لا اريد الاسهاب عنه. فكلنا يعرف اعماله خيوط من فضة، ورأس المملوك جابر، وحمام بغدادي، ونساء في الحرب، والخادمتان، وتقاسيم على العنبر، والعالم على راحة يد، وعائلة توت، وتقاسيم على الحياة، وسنوات مرت دونك.. والقائمة تطول. كنا حينها في جمهورية الخوف نستقبل اعماله كمنشور سري نخبئها صورا وافلاما بين طيات معاطفنا. ونحنو عليها ونسترها كي لا تقع في ايدي رجال الامن. نتفحص بدهشة يوميات كتبها او مسرحية اعدها وصاغها، وهو البعيد القريب وجدانا ونبضا.هو سيد معنى المعاني، لا وطن في خطاه سوى اللامكان، ولا زمن في مداه سوى اللازمان. هو دمعة الناي.. وجرح الربابة.. وسفرالبراءات... وانشودة الصعلكة.. انه المخرج المؤلف جواد الاسدي.
مقاومة روحية للبقاء
ثم وجه الناقد سعد مجموعة من الاسئلة اجاب عنها الاسدي تباعا، منها سؤال عن الغربة وكيفية تواصله مع جمهوره. وكيف استقبلت عروضه في اوروبا. وكيف افلت من اسار النص العالمي وكيف يكتب نصه. فاجاب الاسدى قائلا:- شكرا لسعد لانه انتبه لانشغالاتي على المسرح من خلال اعمالي الفنية. فكرة المسرح والغربة هي حصة الغريب في الخارج، لانشاء مقاومة روحية انسانية حقيقية للبقاء. وانت بعيد عن بلدك.. بلاد الرافدين الذي كان العالم المتنور قد انطلق منه ومن حضارته. وقد تحدث د. سعد عن لحظة تاريخية في حياتي عندما ذكر حادثة امي.. والشيء الآخر ان كل ماحققته من نجاح في الخارج كان يحز في نفسي لانه لم يحدث في بلادي. ودائما كنت احس بالخوف الكبير من ان يكون هناك عرض في بلادي وانا بعيد عنه. وكان هذا يؤلمني. وكان هناك في العراق نقاد وكتاب مهمين ينظرون لاعمالي بعلمية وموضوعية ورؤية نقدية ثاقبة لذا كنت احس بالخوف من عروضي المقدمة امامهم. وكنت اسأل نفسي ماذا سيحصل لو عرضت اعمالي في بغداد اليوم وماذا سيقال عنها وكيف سيستقبلها الجمهور؟
عباءة أمي واللحظة التاريخية
واشار:- كنت في عمان ومسرحيتي مجنزرة ماكبث تعرض في بغداد، وكنت اترقب بخوف ولم يذهب عني الخوف الا حين شرح لي الاصدقاء آثار النجاح المدوي للعرض.اما حادثة امي حين قالت على المسرح انا ام جواد الاسدي وتعالت اصوات الاعجاب والترحيب. وتحولت عباءتها البسيطة الى رمز يقبلونه كأنهم يروني فيها، كانت لحظة تاريخية في حياتي لن انساها ابدا. والان عدت الى بغداد وسنحاول اعادة ترتيب فرقة الفن الحديث انا ود.عقيل مهدي وبقية الاخوة في الفرقة لنعيد للمسرح بهاءه ورونقه بحب ورغبة.
نساء في الحرب أثارت الدهشة في أوروبا
واضاف الاسدي :- اما ردود الافعال في اوروبا عن عملي فساتحدث عن نساء في الحرب. كانت معي ثلاث ممثلات هن شذا وسها سالم وآسيا كمال. اثرن الدهشة بادائهن في مهرجان بولندا المسرحي. وكانت لدينا مشكلة لان السينوغرافيا التي عملنا عليها في بغداد لم تتوفر في بولندا، فاضطررنا للتغيير واتباع قواعد اخرى غير التي قدمناها سابقا. ونجح العرض نجاحا كبيرا واستقبلونا استقبالا مبهرا. والممثلات استطعن تأسيس نوع جديد في الاداء اعتمد الاحتراق الداخلي والجنون والهوس، والاداء غير الاعتيادي وعالي القيمة. وقد صفقوا للعراق بطريقة مدهشة، وكذلك للايقاع الذي تعلمته في تجاربي بالخارج.
النص المتحول
وعن النص العالمي والمحلي قال الاسدي:- انا اكتب نصوصي لكني اخذ الفكرة من تشيخوف او من شكسبير وغيرهما، وفي البروفة تظهر الكثير من التفاصيل فاضيفها لنصوصي. اي يصبح نصا متحولا. كما ان الممثل العالي الجمالية ايضا يضيف ثيمة جديدة للنص، كما حدث مع آسيا كمال حين خطف ابن اختها فاضفت معاناتها للنص، ومثلته بروعة فائقة لان احساسها الحقيقي والادائي كان نابعا بصدق ومن القلب. لذلك تخلصت من تأثير النص العالمي. وما يخص الممثل العراقي اشعر انه يحترق داخليا من اجل اعطاء افضل ماعنده في الاداء وهذا لم اجده الا عند الفنان العراقي.
غنائية تشيخوف
د.عقيل مهدي قال:- شرف لي ان اتحدث عن صديقي الفنان جواد الاسدي. وقد عملنا سوية في اكثر من فرقة مسرحية. كما اشرفت على عمله المهم مجنزرة ماكبث، لانه لم يستطع المجيء الى بغداد وقت النظام السابق. كما عقبت عليه في الجلسة النقدية بما يليق بمقام ومكانة الاسدي. وقد حرض علي الكثير من الكتاب بحجة ان الاسدي مطلوب للعدالة وانا امتدح عمله! كان الاسدي يحب الشعر ومشبع بالغنائية والعاطفية الجميلة، ويميل الى اليسار في تفكيره. وحبه الكبير لتشيخوف كان سببه غنائيته، وكذلك تأثر بغنائية لوركا.
مرجع مسرحي مهم
الشاعر والصحفي ضياء الاسدي قال:- الحديث عن الاسدي لايحتاج المثقف للتحضير له او كتابة ورقة عنه، لان تاريخه المضيء يشي بانه تاريخ يمشي على قدمين. لقد شاهدت الجمهور التونسي المسرحي وهو يرى مسرحيته المذهلة. وبعضهم شاهدها غير مرة وفي كل مرة تختلف عن الاولى. لان الاسدي مخرج متجدد ودائما يسعى لمفاجأة جمهوره في عروضه. واعده اليوم مرجعا مسرحيا مهما.
مدرسة خاصة
وقال د.جبار محيبس:- الاسدي فنان كبير .كنت احضراعماله فاجد فيها شحنة كبيرة من العطاء والابداع. فيه اخلاقيات ميخائيل بهنام وغرائبية وتجريبية سامي عبد الحميد وابراهيم جلال وبدري حسون فريد ومشاكسة صلاح القصب وجمالية عقيل مهدي. واعماله اجد فيها درسا يتنقل بين العواصم. كما وجدت فيه ثراء المقاومة الفلسطينية وملاحم كربلاء والطقوس الحسينية. ولمست الشعرية الجميلة في اعماله. واشعر ان اختياراته للممثلين من ذوي القيمة العالية، واستخدام السينوغرافيا واللعب فيها صار مدرسة خاصة بالمسرح. في حين قال الفنان كافي لازم:- عرفته في السبعينيات وكان يسبقنا بسنة في الدراسة. وعمل مع شباب فرقة مسرح الفن الحديث لذا جاء للكلية وهو مشبع بالفن والثقافة. لم يكن طالبا اعتياديا بل متميزا. وعروضه كمسرحية العالم على راحة يد، تستقبل جمهورا واسعا واستمرت لـ 15 يوما والقاعة مليئة بالجمهور. وكتبت عنها الصحافة كثيرا. كماعملت معه في الاسبوع الثقافي العراقي. وكان يقرأ ويتطور دائما. في حين قال الفنان بشار طعمة:- اول مرة تعرفت على الاسدي عام 1985 في مهرجان قرطاج المسرحي، وهو مهرجان ضخم شاركت فيه 40 دولة من ضمنها العراق بمسرحية مقامات ابي الورد لابراهيم جلال. وكان الاسدي مشاركا مع المسرح الفلسطيني وحصل على الجائزة الكبرى للمهرجان، رغم ان عمله مع فريق عمل غير عراقي، وهي مسألة ليست عادية. لكنه جواد الاسدي المبدع الكبيرالمبهر وفخر العراق. بصراحة لم اشاهد منذ عمله المهم تقاسيم على الحياة اي عمل آخر يضاهيه او حتى يقترب منه.
اترك تعليقك