عدت إلى المنفى لأني لم أكن على استعداد للمشاركة في حفلة الذئاب
حاوره : عامر القيسي
منذ خوضه في عالم الرواية السحري برواية "الكلمات الساحرات" 1994 التي صدرت في دمشق محطة المنفى الأولى حتى رواية "أقسى الشهور"
التي صدرت عام 2019 في ميلانو بإيطاليا مروراً بتسع روايات أخرى ، صدرت جميعها في المنفى، يتعرض الانباري إلى عالم العنف والتهميش وبشاعات الديكتاتوريات التي طحنت المجتمع العراقي.
يغوص الانباري في قاع المجتمع العراقي ، حيث الصعاليك والمهمشين والهاربين من سطوة الرصاص والحروب الى مدن لايجدون فيها الأمل الذي فقدوه في وطنهم . وحين تحين فرصة العودة لوطن مفترض ماذا يجدون ، يقول الانباري ، كان القتل على الهوية مظهراً من مظاهرها العديدة، وهذا هو السبب الذي دفعني لمغادرة البلد والرجوع إلى المنفى. لم أكن على استعداد بالمشاركة في حفلة الذئاب، فأنا بعيد عن أي اصطفافات طائفية وقومية مثل تلك، فلا أملك سوى الهوية العراقية الشاملة.
عدت من منفاك الإجباري إلى الوطن بعد 2003 بعد زوال أسباب النفي، ثم ما لبثت أن عدت إلى المنفى نفسه ، وكتبت عن فترة البقاء رواية " نجمة البتاويين " ما الذي أعادك إلى المنفى، هل ضاق بك هذا العراق ؟ وما قصة رواية " نجمة البتاويين " ؟
- معظم المثقفين العراقيين الذين عادوا من منفاهم حملوا في رؤوسهم عراقا آخر ظلوا يحلمون به طوال سنوات المنفى، يتجسد في ديمقراطية بمواصفات معروفة عالمياً، وحكومة مسؤولة ترمم الخراب السابق، وكان في نية الجميع تقديم ما امتلكوا من خبرات حصلوا عليها في سنوات المنفى للمشاركة في ذلك البناء، إلا أن الحلم شيء والواقع شيء آخر، فثمة بلد محتل بمئات آلاف الجنود، وقوى سياسية مذهبية وقومية، وانقسام مجتمعي رهيب، وتمزق في الثقافة الوطنية ذاتها، الأمر الذي قاد بعد بضع سنوات إلى حرب أهلية رهيبة، كان القتل على الهوية مظهراً من مظاهرها العديدة، وهذا هو السبب الذي دفعني لمغادرة البلد والرجوع إلى المنفى. لم أكن على استعداد بالمشاركة في حفلة الذئاب، فأنا بعيد عن اصطفافات طائفية وقومية مثل تلك، فلا أملك سوى الهوية العراقية الشاملة. من هذا الواقع كتبت روايتي نجمة البتاويين وحاولت أن أرصد فيها ما كان يجري في تلك الفترة الملتبسة، فالشخصيات كلها كانت محكومة بعبث ما يجري ورافضة له. وما كان يجري هو اللامعقول حيث رصدته الرواية عبر مكان يقع في محلة البتاويين الشهيرة وسط بغداد، وتتناول الرواية هواجس مجموعة متعلمة تقيم في تلك الشقة، وتمضي أيامها العبثية في رصد الرعب بشوارع بغداد موزعة بين الكلام، والخمرة، والخوف من المجهول.
عندما تكون الرواية " مقاربة شخصية للحظة الوجود " كيف يكون الضجر والفراغ واليأس الواعي لذاته والهروب من العبث اليومي دوافع للجلوس وراء الطاولة كما قلت في حوار سابق ؟
- إن ما يجري حولنا، سواء في العراق أو دول الجوار أو حتى في العالم، يدفع إلى اليأس والقلق، فهناك مظالم كثيرة في هذا العالم يدفع الشخص البسيط ثمنها، ويكون وقوداً للحروب والجهل والفقر والوهم والفوضى. والكاتب هو إنسان قبل أن يكون روائياً، ويفترض به أن يتحسس تلك المظالم أكثر من غيره. حساسية الكاتب لما يجري هي التي تجعل من التفاؤل والأمل والسعادة والرتابة عملة غير متداولة، لكن الضمير الحي للكاتب قد يتسامى على فراغه ويأسه فيجسد حلمه ورفضه لفظاظة المحيط بالكتابة، دون التذكير بعبثية الوجود البشري نفسه، فوجوده المحدود قد يدفع به معظم الأحيان إلى السأم اليومي والفراغ، فالموت في النهاية ينتظر الجميع وراء الباب.
كتبت جميع رواياتك وأنت في منفاك الإجباري ، لكنها كانت روايات عميقة المساس بتفاصيل الحدث الداخلي العراقي وتحولاته السياسية والاجتماعية والسيكولوجية، هل كانت لديك مصدّات قوية كي لا تترك بيئة المنفى المختلفة تأثيراتها على سردياتك بكل تفاصيلها ؟ هكذا أزعم !
- لعل واحدة من سمات المنفيين هي العيش في الماضي، عبر الذاكرة طبعاً، وهي في أحيان كثيرة تحد من تواصله مع بيئة المنفى، هناك منفيون تحولوا إلى مدمنين ومجانين ومعوقين نفسيين ففقدوا القدرة على تمثل الحاضر. الأمر مع الكاتب يختلف كثيراً، فهو يمتلك خزين الذاكرة لكي يستطيع الكتابة، والماضي عادة ما يكون منجزاً وهذا ما يسهل على الروائي خاصة استخدامه في نصه. رغم أنني كتبت عن المنفى في عدد من رواياتي بصيغة من الصيغ، لكنني كرست معظمها لأحداث تدور في العراق، وقد يختلف الأمر معي بعض الشيء عن الكتاب المنفيين الآخرين، كوني عشت ما يقرب عشر سنوات في العراق بعد 2003، مما أتاح لي عيش الواقع الجديد بوعي غير منفي، مُحتك بالحاضر، وكنت منتمياً إليه وجزءاً منه، وأمتلك قدرة على مقارنته بواقع ثان خبرته يوما هو الآخر. الرواية هي خبرات معاشة وهذه البديهية تنطبق على معظم رواياتي.
ألم تقل ذات مرة إنني محكوم بإحساس عميق بأن وجودي في أي بقعة من العالم هو وجود مؤقت، حتى حينما سكنت في بلدي العراق، هذا الإحساس ما الذي فعله بسردياتك ؟
- في الحقيقة ما أن يغادر الشخص وطنه حتى يتحول كل وجود إلى وجود مؤقت، وحين يعود المهاجر ذات يوم إلى بلده سيجد أنه تغير بعمق، لا البشر فقط بل الأمكنة أيضاً، والظاهرة تكمن ليس في الوطن فقط بل لدى المهاجر كذلك. فهو قد طاله التغير بعمق، والعينان اللتان ينظر بهما إلى بلده لم تعد هما العينان ذاتهما اللتان غادرتا الوطن. خلال سني المنفى اكتسب ثقافات مغايرة، والتقى بأشخاص ينتمون إلى خلفيات حضارية أخرى، ورأى مشاهد بصرية مختلفة، وكل ذلك ترك بصماته على عقل الشخص وذائقته وحساسيته تجاه الحياة. أما من الناحية الوجودية فما أن ينضج الفرد في الحياة حتى يكتشف أنه محكوم مثل غيره بقانون الفناء الأبدي، وأن وجوده مؤقت على هذه الأرض، من هنا يوقن بأن كل شيء زائل وقبض ريح، وتلك حكمة البشرية من بلوغها مرحلة الوعي قبل آلاف السنين.
هل فسح لك عالم المنفى مساحات من الحرية للتوغل بعيداً في أفكارك التي أدنت فيها العنف والديكتاتورية والتهميش وانسحاق المواطن ، وبمعنى آخر هل كنت ستكتب نفس ماكتبته لو لم تغادر العراق؟
- بالتأكيد لا، لو لم أغادر العراق لما امتلكت حرية الكشف والإدانة والنقد، بل لما امتلكت حتى حياتي، ولكنت قضيت في واحدة من الحروب التي مرت على العراق وحصدت أرواح الملايين لهذا السبب أو ذاك. وفر لي المنفى حرية واسعة في النشر والنقد وإدانة الديكتاتوريات وبشاعة الحاضر، وأزعم أنني لم أكتب شيئا خارج قناعاتي سواء في رواياتي وقصصي أو في مقالاتي، وهذا ما لا يتاح في بلدان الشرق البائسة المحكومة بالقمع، والتقاليد الاجتماعية، والموروث الديني، والروح القطيعية.
من هذه المنطلقات، هل هناك سمات محددة لروايات المنفى، هل تشكّل نوعاً من الروايات تختلف عن التي كتبت وتكتب من داخل البلاد ؟
- روايات الكتّاب المنفيين تحاول أن تعيد صياغة الماضي برؤية حرة، مع النجاح النسبي لبعضها، وتضع كل تفاصيله تحت المجهر، خاصة الأحداث السياسية منها، السجون، الحروب، تجارب الأنصار في الجبال، البيئات الجديدة للعراقيين في منافيهم، وتقدم تاريخاً مغايراً للتاريخ الرسمي المصاغ عبر عقود من الديكتاتورية وحكم الحزب الواحد، أي أنها تستجلب ما تم التكتم عليه وتغييبه من عذابات الشعب في حقبة القمع والسجن والهروب من السياج الحديدي الذي استمر أكثر من ثلاثة عقود. روايات ممهورة بالحنين لشخصيات قلقة، ممزقة، فقدت بوصلتها ولم تعد تمتلك أفقاً واضحاً، وبلورت مزاجاً غاضباً حاداً مباشراً بعض الأحيان في تناول المآسي المتلاحقة. وكما قلت وفّر المنفى للروائي حرية غير محدودة، والقدرة على استعادة الماضي دون كوابح، ووسع من أفقه المعرفي نتيجة احتكاكه بلغات وحضارات وبشر لهم رؤيتهم للحياة وكيفية مقاربتها، بقول آخر استطاع المنفى بلورة شخصية واضحة للكاتب، وكلها من ضرورات انتماء تلك الروايات إلى النسغ الثقافي العراقي العام.
ماتأثير دراستك للهندسة على نصك الروائي ، كبناء ولغة ودقة واكتشاف وكشف للتضليل والتلفيق ، بمعنى هل تعتمد على بناء هندسي للسرد أم تترك لجموح الخيال والتخيل أن يأخذ مساحته الكاملة؟ هل هناك تكامل أم تناقض بين نوعية السرديتين؟
- عادة ما أضع مخططاً عاماً للرواية، يتغير المخطط كلما واصلت الكتابة فإنجاز رواية ما يمر بمراحل عدة، يأتي في مقدمتها المخطط العام، ثم تفاصيل لاحقة تتوالد من تعاقب الفصول وتبلور الشخصيات حتى أصل النهاية، لتكتمل لدي الكتابة الأولى. وعلى ضوء النسخة الأولى أعيد المخطط بصورته الجديدة، ثم أتابع قراءته وأكتشف الثغرات والأماكن التي تتطلب إضافات أو سد ثغرات، توسيع مشهد أو اختصاره، تعميق شخصية ما أو تشذيبها، حتى أكمل الكتابة الثانية. بعد ذلك تأتي مرحلة الإنهاء، أي تأهيل النص للنسخة النهائية. كل ما سبق يعتمد على رؤية هندسية تعتني بالتناسب، والتناظر، ومراكز الثقل في النص، والروابط الداخلية، والمسار العام للأحداث. وهذا يتطلب رؤية هندسية للنص، والهندسة كما هو معروف لا تقبل الاستفاضات والزوائد والترهلات خاصة في تناسب الجملة مع الفكرة، أو البناء الداخلي للجمل وحواملها الفكرية والجمالية. الهندسة نافعة حين تصل إلى تشذيب شطحات الخيال وانفلاته عن المنطق، حتى الخيال يحتاج إلى أن يكون مقنعاً في النهاية.
كتب عنك أحد النقاد، يعد الأنباري من الكتاب الذين غامروا في تجارب مختلفة في الكتابة، في "كتاب ياسمين"، و"أنا ونامق سبنسر" و"مسامرات جسر بزبير"، ما شكل ونوع المغامرة التي خضتها في هذه الأعمال..هل انتجت سرداً مغايراً لإعمالك السابقة ؟
- الكاتب لا يمكنه تقييم نتاجه بدقة، فالقارئ هو الحكم في النهاية، والزمن عادة ما يكون الناقد الوحيد في آخر المطاف، فهناك روايات ظلت حية بعد قرون وعبرت حدود اللغات والثقافات، والهاجس الذي يراودني دائماً في كل عمل جديد هو البحث عن صيغة مبتكرة في تقديم الأحداث، والشخصيات، أتجاوز فيها رواياتي السابقة، وهذا ما له علاقة بتنامي الخبرة، وسعة الاطلاع على تجارب عالمية وعربية وعراقية، ونضج التجربة الحياتية، لذلك أستطيع أن أصف نفسي بأنني كاتب تجريبي، أحاول الوصول إلى نص روائي مثقل بالتجربة، والمعرفة، ويتسم برؤية تأملية للأحداث. طبعاً ليس بمقدوري الحكم على مدى نجاحي في تصوراتي هذه، فالنص السردي ملك للقارئ في النهاية.
في روايتك " بلاد سعيدة "رصدت متغيرات ما بعد 2003، واعتبرت ما رافق هذا التغيير في البنية السياسية والاجتماعية والنفسية العراقية عتبة لعالم جديد سيعيشه البلد مستقبلاً..الحاضر الآن هو المستقبل الذي تحدثت به؟ هل كانت رؤية تنبؤية للواقع الحالي أم تشوشاً في رؤية شكل " المستقبل "؟
- واقع ما بعد سقوط النظام واقع صادم، أسفرت الأحداث عن الخلل الهائل في المجتمع بعد رحلة طويلة من تزوير الواقع، وكبت الحقيقة، والجهل، مارسها أعتى نظام دموي عرفته البشرية، لكن ما استجد بعد تلك المرحلة كان مفارقاً ومختلفاً عن أحلامنا في عراق جديد، واكتشفنا أننا كنا نعيش في وهم كبير، وهم الغريق الذي يشبث بأي قشة تنجيه من الغرق، وذلك الحاضر الذي كتبت عنه رواية بلاد سعيدة كان مرعباً، وفائراً، وملتبساً، وقاسياً. ولا يمكن لواقع له مواصفات مثل تلك أن ينتج مستقبلاً مزدهراً، وهذا ما نشاهده اليوم من الحصيلة المرّة وتمثلت بانهيار شامل للبلد، ومواجهات دموية هي في الحقيقة مواجهات مع أوهامنا الماضية. رواية بلاد سعيدة حاولت أن تلخص اقتلاع ذاكرة الفرد العراقي كي يتخلى عن هويته الوطنية وينحشر في معارك جانبية تخص الدين والمذهب والحلال والحرام، كي يفقد البوصلة نحو غد مشرق آمن.