السايبورغ.. شخصيات رقمية قادمة

السايبورغ.. شخصيات رقمية قادمة

د. محمد حسين حبيب

منذ تلك اللحظة التي هيمن فيها الحاسب الالكتروني على جميع المجالات العلمية والثقافية والفنية ،والخطى متسارعة نحو تنشيط وتطوير علاقة (الانسان)

بهذا الحاسب العملاق بسلطته الكبيرة والضئيل بحجمه ،بل أصبح البعض يصفه بانه بيتنا الثاني بل أكثر اهمية من بيتنا السكني الأول لأننا نحمله – أي الحاسوب (الموبايل) – معنا اينما نذهب أو نكون ، من هنا تعقدت هذه العلاقة واتسمت أحياناً بالخطورة والرعب والقلق ، إذا لم يكن العقل الانساني قد تشبّث بنفوذه على العقل الالكتروني الذي يحمله بين يديه ، وإلا ستكون النتائج ذات عواقب وخيمة على الأول وانتصاراً ساحقاً للثاني .

تتوقف هذه المقالة عند محطة واحدة من محطات هذه العلاقة التي أصبحت بمثابة قلق وتوجس مبعثه من الخبراء والمهتمين تجاه توقعاتهم واكتشافاتهم الالكترونية الرقمية التي اثبتتها الابتكارات الحاسوبية لعدد كبير من البرامجيات والعوالم الافتراضية والشخصيات المرقمنة الإذاعية منها والتلفازية وصولاً الى الشخصيات السينمية الفيلمية ، محققة لنا هذه الابتكارات أبطالاً دراميين جدّد اطلقت عليهم مصطلحاً جديداً هو السايبورغ أو ( مابعد الانسان ) ، بمعنى إنها شخصيات تجاوزت مفهوم ( الانسان ) التقليدي لتصل الى مفهموم جديد ومعاصر يساير هذه التقانة الرقمية بل ويمتزج معها لدرجة التحدي الالكتروني بين ما هو مادي و ما هو فوق المادي .

إذاً .. السايبورغ هو تلك الشخصية الآدمية المتكونة من جزأين : الأول جزء حيوي والآخر جزء آلي ،وإن هذه الشخصية لديها قدرات خاصة .. ليطرح البحث تساؤله بحسب الآتي : هل يوجد بالفعل اشخاص بهذه المواصفات الآن .. أو مستقبلاً ؟ 

كلنا سايبورغيون .. شئنا أم ابينا .. هكذا يؤكد الخبراء والمهتمين .. وذلك بسبب تعلقنا وتواصليتنا بالتقنية الرقمية معها ومع كل جديد يظهر عبرها ومنها .. فاذا لم نكن اليوم .. فمستقبلاً كلنا مشروع سايبورغ بامتياز بحسب تجليات الواقع واستنباطاته العلمية . بل إن البعض يرى ومنهم مؤسس الذكاء الاصطناعي (مارفين منسكي) من معهد (ماساشوستس للتكنولوجيا) يرى " أن هؤلاء الناس المعدلين قد يمثلون المرحلة التالية من مراحل التطور البشري ،وبذلك سنكون قد حققنا خلوداً حقيقياً عن طريق استبدال الفولاذ والسليكون بالجلد " . 

توسعت (الرقمية) لتشمل مجالات واسعة من العلوم والفنون والثقافات ، الى جانب التعاملات والعلاقات العامة والخاصة التجارية منها والسياسية والاجتماعية ، بل نكاد نجزم أن هذه الرقمية الالكترونية قد هيمنت على مختلف الأمور الحياتية بامتياز ، لدرجة إننا لا يمكن تصور حياة ما ، بدون هذه الرقمية ، بل إن مجتمعاً ما، لا يحتاج الى التعامل الرقمي اليوم ، يعد مجتمعاً تقليدياً يقطن في مراحل متأخرة من الزمن ، وينبغي تنبيهه وقرع جرس الإنذار وسط أهله وناسه وفضائه . 

هذه الرقمية لا يمكن أن تتنفس أو تكون ديناميكية حية ، إلا تحت فضاء (الشبكة العنكبوتية العالمية) أي الانترنت ، وكان كثير من المهتمين والمحللين قد تنبأ بهذه الثورة الرقمية منذ زمن طويل، بل عدّها مرحلة مهمة وعملاقة من مراحل التطور البشري والصناعي ومنهم ( ريمي ريفيل ) بقوله : " فاذا ما صدقنا العديد من المحللين فسنكون يومها شاهدين وفاعلين لثورة صناعية ثالثة مرتبطة بتنمية تكنولوجيا الإعلام والتواصل، بعد ثورة صناعية أولى ارتكزت على تطور الالة البخارية وسكة الحديد، ثم ثورة ثانية اعتمدت على استغلال الكهرباء والبترول. وحالياً تدخل المجتمعات الغربية في مرحلة ثالثة بفضل الالكترونيات والاعلاميات والانترنت " (9 ، 2018 ، ص 17 ، ريمي ريفيل ) . 

وعن الثورات الثلاث (الزراعية والصناعية والرقمية ) يؤكد المؤرخ الفرنسي كارون " إن تلك الثورات الثلاث مختلفة كثيراً بصورة مبدئية، لكن لديها سمات مشتركة، ففي كل مرة نلاحظ ظهور شبكات موسعة (سكة حديد، والكهرباء، والانترنت) مع ظهور شخصيات مبتكرة (جيمس وات وآلته البخارية، توماس اديسون وامبراطوريته الصناعية، بيل غيتس مع ميكروسوفت) . " (9 ، 2018 ، ص 17 ، ريمي ريفيل ، نفسه) . ولقد أشار انطوان بطرس في كتابه ( الثورات العلمية العظمى في القرن العشرين ) الى أن كل الثورات العلمية مثل : ( ميكانيكا الكم و النظرية النسبية و نظرية الانفجار الكبير و الثورة الصناعية ) كانت ثورات مرحلة ، ما عدا (الثورة المعلوماتية) ، هي ثورة مستقبل لا مرحلة ، الى جانب ثورة الاتصالات والذكاء الصطناعي . 

ومن أجل خدمة الانسانية فيما تقدم والانسانية الجديدة ... " يبدو العديد من الخطابات الطوباوية اليوم حول العوالم الافتراضية الجديدة التي تظهر في الافق او حول القدرات المعرفية الجديدة لامكانية الزيادة في طول عمر الإنسان " (9 ، 2018 ، ص 17 ، ريمي ريفيل ، نفسه) ، وهذا مؤشر اولي يظهر لنا في أن التحكم الالكتروني وتجاوزه للذكاء الآدمي قادم لا محال برغم أن المنظور العربي والثقافة العربية قد لا تتفاعل اليوم مع مثل هذه التوقعات لأن الانترنت وبحسب ما يرى نبيل علي انها : " تمثل بالنسبة لنا نحن العرب تحدياً ثقافياً قاسياً على الجبهات جميعاً، سواء فيما يخص مضمون رسائلنا الثقافية، وقيمة تراثنا عالمياً، ... أصبحنا مهددين في ظل ثقافة الانترنت بفجوة لغوية تفصل بين العربية ولغات العالم المتقدم، تنظيراً وتعليماً واستخداماً وتوثيقاً، مثلما نحن مهددون بضمور شديد في انتاجنا الإعلامي والسينمائي وإبداعنا الفني ، ومهددون أيضاً بسلب تراثنا من فنون شعبية وأغان ومقامات موسيقية وأزياء وطرز معمارية " ( 2 ، 2001 ، ص 125 ، نبيل علي) . 

لكن هذا التهديد لم يتخذ مساراً سلبياً بحسب ما يرى الباحث ، بل انه كان دافعاً ثقافياً وموقفاً عربياً موضوعياً هيمن على العقل العربي بعد تجاوزه لوجهات نظر اثبتت فشلها مثل ، أن الانترنت لدى العرب وسيلة للدردشة حسب ، في حين إنه وسيلة علمية وثقافية لدى الغرب ، بل في أصل إنشائه وأهدافه بعد اجتياز الهدف العسكري كما هو معروف . فراح العقل العربي ينحت مصطلحاته ومفاهيمه مقتبساً مرة ومتاثراً مرات آخر ،بما اثبتت شبكة الانترنت علميتها وثقافتها العالمية ، فظهرت لنا عربياً : ( الثقافة الرقمية ) بتنوع تخصصاتها الادبية والفنية مثل ( القصيدة الرقمية و الرواية الرقمية والمسرح الرقمي و اللوحة التشكيلية الرقمية والسينما الرقمية والموسيقى الرقمية ) وغيرها من الفنون والآداب الاخرى ، تلك التي أفادت من هذه الرقمية واستثمرتها في تفعيل آفاق ومديات إبداعها وجمالياتها الفكرية والشكليّة والفلسفية. 

 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top